صفحات ثقافيةعلي جازو

وداع متأخر لبسام حجار: الإقامة في اليتم

null
علي جازو
كلّ إقامة تحيل على مكان ما. للمكان طاقة انتماء، وطاقة امتصاص وكتم، كتلة حيّزٍ وفراغ، مدى طبيعة، ومرايا عبور وقت. تستضيف الأمكنة الإقامةَ على أحوالها المختلطة والأزمنة على طبيعتها التي لا تني تمضي وتتحول. ثمة من يعضّ الآخر،يهدّده، ينميه أو يخسفه! والأزمنة هيئاتٌ كبرى دائرة، تمضي أو تلتفّ، تتبدل، تمحو الأثر الضئيل، وتنتج الأمكنة على هيئة المقيم وفعله تحولاً أو محواً أو إنتاجاً. أن تقيم يعني أن تسكن. في السكنى معنى الهدوء والإحساس بالأمن، لكن الإقامة في اليتم كمكان داخلي ونفسي خاص، هي عين الإقامة في ما هو مبتور، وناقص، ووحيد. اليتم، على قطعه الصلة بالأب الطبيعي والنسب الإجباري، مكان وحشةٍ تامة وعكوفٍ على نقاء مرير. اليتم تأكيد عضوي وقاتم على غياب المرجع والأصل. تأكيدٌ خاسر على أصل غائب من جهة الخسارة الكاملة لا من جهة أمل الاستعادة. يتمٌ نقاءٌ من ضراوة الحرمان وروح الألم وبرد العزلة وخيبة الحنين. اليتم تمزّقٌ أقصى نحو صفاء بلا حدود. وبالإقامة في اليتم تتحول الإقامة نفسها إلى تمزق ووحدة وصفاء وخسارة. اليتم يوهن الانتماء، إذ يظل مشغولاً باستحالة كل انتماء آخر، ويخمد الصلة حين تكون الصلة حزناً داخل الحزن، وخيبة تلو أخرى. اليتم يفقد الانتماءَ عضويته وفضاءه وماديته الآنية. اليتم انتماء خارج الزمن لفرط ما هو مشغول به، انتماءٌ في محو الزمن ونحته الذي هو صلةٌ سيالة عمياء وتعاضٍ متعاقب وفضاء مفتقد وآنية حاجبة وتحيين خانق. واليتم بما عليه من خسارة أكيدة، يضاعف الألم، يكثّف الصمت المرافق للصمت الأبدي، يرقّق الأسى، بل يكاد يلغي الانتماء إلى كل ما ليس يتماً بحق. لكن اليتم قناع حنين محتار وعلامة تلهّف محموم. اليتم، أيضاً، حاجة إلى انتماء ما عاد ممكناً استعادته أو صنعه، أو استبداله. اليتم خيبة تذكِّرٍ حرّ، طاقة تذكِّر حرّ. هنا، ألا تلتقي الإقامة في الشعر مع الإقامة في اليتم بما عليه الشعر من غياب وخسارة وحرمان وحنين وتذكر؟ الشعر على هذا النحو طاقة من طاقات اليتم بما عليه اليتم طاقة من طاقات التذكر الحر. وما هو التذكر الحر إن لم يكن الابتكار الذي يتغذى من جسد اليتم. ليس اليتم من فعل الطبيعة إلا إذا كانت الطبيعة كل هذا الإسراف، وكل هذه اللامبالاة. اليتم عمل لا يعرف الرأفة ولا العدل، غير أنه لا يفكر بغير ما هو رؤوف وعادل. أليس الشعر في معنى منه على الأقل، خلقاً وتذكراً، واستعادة مستحيلة. تذكُّرُ العابر والمنسي، واستعادة المفقود والممحو، وخلق ما هو صامت مما هو حزين، وما هو مشرق مما هو زائل. ألا يكون الشعر هنا عملاً من أعمال التنقيب والفحص، الانشغال بالماضي، والماضي وحده كاليتيم؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن كل شعر هو تمزق ووحدة وبتر ضد ماض لا يذكّر بسوى فناء كل ماض. كل شعر حفر وتنقيب وكسر. الشعر لا يعرف الأمل ولا عبودية العمل ولا التعدد الممدوح ولا اكتمال النسيج وعافيته. الشعر نظر في الممزق والوحيد والمبتور والخاسر الوحيد. الإقامة في اليتم، كالإقامة في الشعر، هي الإقامة في الجرح والخسارة، في الوحدة الهائلة، في المرض الأكثر إحراجاً، المرض الذي وصفه ت. س. إليوت في مقطع من رباعياته الأربع، بأنه عافية الشاعر الوحيدة، وهي الإقامة الممكنة الباقية، والأشد قسوةً لجسد الشاعر كيتيم، وكيتيم فقط. الشاعر الذي ليس له سوى جسده منذ أن غدا يتيماً. وإذا ما فقد اليتيم – الشاعر مكانه الأولي فإنه يزداد تعلقاً بجرحه النفسي الأقرب والأصعب؛ إنه المكان الأوسع للإقامة في الحياة واللغة على السواء حينما تكون الحياة العامة خنقاً مستمراً وإتلافاً شرساً. أليست القصيدة رغبة في قول ما للأب – وعد اليتم المحقق؟ الأب (السلطة، العادة المقيدة، أطياف الماضي، الشعب، ثقل المجتمع، وعبء التاريخ). أليست السلطة، على ثرائها المتكالب المتنامي والمخيّب والمخزي، هي هذا الصمت المهيمن والأخلاق المسيطرة والشعب المقطوع والمجتمع الثابت المنخور؟ بذا ألا تكون الإقامة في الجرح، بما هو ناتج من اليتم، هي الإقامة في الرفض بما هو بقاء على الجرح والحد والألم. ثم أليس كل هروب من الجرح هروباً من الرفض، من رغبة وحاجة البراء من الجرح؟ أليس الرفض شكلاً من أشكال الكسر والخلع، كسر الفكر وخلع العقل؟ أليس الرفض طريقة في ضرب وجودٍ ما، حركة نحو مجهولٍ لم يعرف بعد؟ مجهول يظل يتقدم ويغري ويخيف ويقلق مثلما هو اليتم قلق في الأصل، مرارة من فقدان الأصل؟ ألا تكون الإقامة في الجرح – الرفض هنا إقامة في الكشف، القلق، في الحاجة إلى الكشف؛ مما هو مستور ومقطوع، ومسيطر، وصامت، وبات؟ الشعر يكسر لا الألفة وحسب، بل إمكان ادعاء كل ألفة، وفي الكسر يحيا ويقيم. الشعر قيامةٌ وتواصلٌ وتجافٍ في اليتم، إقامةٌ الآن، وعدٌ في الإقامة في اليتم الذي هو صفاءٌ يشبه الغياب، وفراغٌ أكلُهُ امتلاءٌ بلا فم، وتوحشٌ بلا وجه. القصيدة – الشعر، بإقامتها النزيهة في اليتم، أبٌ أعمى يخرجُ من نداء أبٍ ميت. القصيدة، تبعاً لجرحها اللامندمل واللامنتمي، وغير المستشفق ولا المستصدم، ولا الصارخ، تذكِّرُ بمحنة بقاء اليتيم مزهراً ومريضاً بيتمه. الإقامة في اليتم لا تزهر غير نوع جديد من شكوك نقية، نوع آخر من السفر الصامت في مادة الهواء الغاضب والصامت والحزين، سفرٌ في هواء جبال مسافرة. اليتم يدفع الجبال إلى السفر مثلما ترفع الريح الغبار إلى السماء، ويكلم الأطفال أشباحَ أعمارهم المرحة الزائلة. أشباح تزول وتمحى لفرط ما هي رقيقة وشغوفة. ماذا يبقى للمؤرقين والمتوحدين والتعساء المقيدين بصفاء نادر والمحاصرين بالشعر غارقين في دم زهور برية غير صبرٍ قوي، ونحت في بلاهة كل ما هو قوي، وغضب أشدّ رأفة من كلِّ عزاء ¶

النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى