قضية فلسطين

عدوانية إسرائيل التي لا يسمو إليها صراخنا

صالح بشير
كل انفعال إنساني زائل، في الغالب، لا غد له. وستصح تلك «القاعدة» المؤسفة على حرب غزة على الأرجح، إذ قد تندرج فظاعة تلك الحرب، إن تمادت أمدا، في الروتين وفي ما يمكن احتماله، هاجسا تُجاوره وقد تطغى عليه المشاغل اليومية فتصرف عنه، فإذا هو، مهما بلغ نبلا واستوى ضرورةً، آني المفعول أو قد يؤول إلى عقم. ذلك أن الانفعال الإنساني، مهما كان صادقا جارفا جياشا، كما تبدّى على الصعيد الكوني حيال مأساة غزة، يبقى، أساسا، قصير النفس، رغم ما تجزم به الخطابة أو ما تدعيه.
بعض الأمارات دال على ذلك منذر به، فقد عادت نشرات الأخبار على الفضائيات إلى «تنوعها» المعهود أو تكاد، بعد أن كان موضوع الحرب على غزة شاغلها الحصري، تشبعه تغطية وتعليقا، واستعادت برامح الترفيه والتسلية سطوتها، على اعتبار أن «الحياة يجب أن تُستأنف»، على ما تقول «حكمة» مبتذلة، من دون الفلسطينيين أو بالرغم مما يكابدون، هذا ناهيك عن انخراطات لا حصر لها في مجريات الحياة اليومية… لا يقال ذلك لزاما من باب توجيه اللوم ولكنه إقرار بواقع.
إذ يتواجه في مثل تلك الحالة منطقان، ليست الغلبة حتما من نصيب أكثرهما أخلاقية. أولهما ذلك «الشعبي»، «الجماهيري» إن شئنا، الناطق تعاطفا مع الضحايا باسم «الحق الطبيعي»، الواقع، وفق التعريف الكلاسيكي لتلك العبارة، فوق كل اعتبار وضعي، والمنطق ذاك محق طبعا، وإن لابسته أعراض إيديولوجية ليست دوما محقة ولا دوما بريئة، والثاني هو ذلك البارد، تتوخاه الدول بحسب حسابات ومصالح لها معلومة بما يغني عن كل إسهاب، تسبّقها على كل ما عداها. الأول، وهو في الغالب انفعال خام، تلقائي، لا يبادر بل يقنع برد الفعل على حدث خارق، وقد يغفل في ذلك عن مقدماته (حصارا على القطاع قاتلا فتاكا) وقد يذهل عن مآلاته (عودة الاحتلال المباشر).  وأما الثاني فمستند إلى مؤسسات وإلى ثبات، إلى اتصال في الزمن وفي التاريخ، ويكتسب، بسبب ذلك، ما يخوله حتى ملَكة «إدارة» دفق الانفعال الإنساني ذاك أو توجيهه وانتهازه.
حرب غزة الأخيرة تقدم على ذلك بعض أجلى الأمثلة وأبلغها. فقد مكن ذلك الانفعال الإنساني أنظمة المنطقة من أن تجاري الجموع ومن أن تضطلع بدور، وهي التي وُصمت بالعجز أو بالتقاعس أو، صراحة، بالتواطؤ، فطفقت ترسل المساعدات من غذاء ووسائل تطبيب وما إليها، وتأتي المبادرات للتخفيف عن مدنيي غزة ووضع حد لمحتنهم، نداءات لوقف العدوان وسعيا إلى تحقيقه، دون أن ينال ذلك في شيء من تقيدها بما تعتبره «خياراتها» الأساسية في شأن القضية الفلسطينية. ينطبق ذلك حتى على قوى «الممانعة». فقد اكتفت الدول، والدائرون في فلكها، من الأمر بما يفي برفع الحرج، باسترضاء الجموع، وبافتعال نقطة تقاطع معها، وهي التي تبتعد عنها وتفترق على أكثر من صعيد، دون اجتراء من قبل تلك الأطراف، بما يتعدى ذلك، على ما قد تحسبه «عوائق موضوعية»، .
غير أن التوسل الأنكى والأكثر سينيكية (أو «كلبية» وفق ترجمة القدامى) لذلك الانفعال الإنساني، هو ذلك الذي اقترفته الدولة العبرية، إذ يبدو أن هذه الأخيرة قد أقدمت على رفع وتيرة العنف بحق المدنيين، وبتوخي الأقصى والأقسى والأشنع من مظاهره، على نحو متعمد، وطلبا لجدوى مخصوصة من اعتدائها. يكون، والحالة هذه، من الصحيح تعليل ذلك العنف بنوازع من قبيل الحقد، والنظرة الإبادية التي وسمت طبيعةً وعلى نحو تكويني كل تعاطٍ صهيوني مع الشعب الفلسطيني، وسوى ذلك من عوامل، لكن ما يفي في ذلك الصدد عموما ومبدأً، قد لا يفي بمفرده، هنا تخصيصا، في شأن هذا العدوان.
إذ يبدو أن هدف الدولة العبرية من ذلك الإسراف في استهداف المدنيين، إنما ينشد اجتراح حالة طوارئ إنسانية، يصبح معها وقف إطلاق النار مطلبا في ذاته، ضروريا وملحّا، بصرف النظر عن كل مطلب أو هاجس سواه، أو عن كل محاسبة تتعلق بعملية اجتياح القطاع، وعن الوضع الناجم عنه، إنذارا بعودة الاحتلال إلى القطاع إلى ما كان عليه قبل سنة 2005 أو على نحو أبعد شأنا، وضعا ينشد الثبات: أشرطة حدودية تُقتطع، بدعوى اتقاء ضربات الصواريخ، وتقطيعا لأوصال القطاع، أسوة بما هي عليه الحال في الضفة الغربية، ومحاصرة لحواضره وتجمعاته السكانية وتحويلا لها إلى غيتوهات.
«مزية» ذلك التصعيد الإنساني إذن وما حف به من انفعال أقصى «يبرر» استجابته ويزيّنها، لمن شاء، انتصارا، أنه يجعل من وقف النار مطلبا ملحّا، لا يزعج إسرائيل القبول به، وقد تحقق لها ما تحقق من مكاسب «ثابتة» وفق ما سبق توصيفه، يغض الطرف عنها، أو يحيلها إلى تأجيل هو مما وسم وعقّد، حتى الآن، كل المظالم العالقة التي تتجسد فيها القضية الفلسطينية منذ أن وجدت.
لا يقال ذلك من باب انتقاد ذلك الانفعال الإنساني والحط من شأنه، فهو مشروع ونبيل ويبقى دوما دون المطلوب قياسا بما يحصل في قطاع غزة، ولكنها محاولة للإشارة إلى تناقض في ذلك الضرب من الانفعال أصلي، يزج به أحيانا، من حيث لا يدري ولا يحتسب في ما لا يريد الوقوع فيه، تواطؤا مع أجندات هو، نظريا، أبعد ما يكون عنها.
والحال أنه إذا ما وجدت من قضية، دون مفاضلة بين المآسي التي تدمي هذا الكون، قمينة بأقصى التعاطف الإنساني، مظلمة اجتثاث لا تُضاهى، فهي تلك الفلسطينية، ولكن ذلك يتطلب، حتى يكون فاعلا مجديا، لا ينحصر في العارض والآني، الاهتداء إلى وسائل ثبات واستمرار، بطرح المشكلة الفلسطينية على الضمير البشري بوصفها، في هذا الزمن، مشكلته الكبرى، أسوة، على سبيل المثال لا الحصر، ما كانت عليه الحال بالنسبة إلى «الفصل العنصري» أيام جهورية إفريقيا العنصرية، إثما أخلاقيا خارقا، نقيض الإنسانية ونافيها.
وذلك ما لا يفي به الصراخ والتظاهر وبيانات الشجب، بل يتطلب وضع مقاربة تسعى إلى ذلك، وبلورة خطاب بذلك المعنى، لا ينحط بتلك القضية إلى بعدها الوطني البحت، أو ذلك القومي أو الإسلامي حصرا، بل يطرحها على ضمير الكون بوصفها شينا خالصا لا تستعيد الإنسانية إنسانيتها إلا بتلافيه.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى