صفحات ثقافيةنزيه أبو عفش

البعض يعشق قراءة المستقبل في الفناجين.

null
نزيه أبو عفش
يحق لوزير الحديد، على سبيل المثال، التكهن بمستقبل صناعة الحديد، مثلما يحق لوزير التنجيم التنبؤ بمستقبل رعايا برج السرطان في مواجهة تحولات برج الثعبان، أما الحديث عن “مستقبل الثقافة ” فهو شأن يرتبط عضويا بما يمكن أن يبدعه المثقفون ( علماء، مفكرين، شعراء، وفنانين ، إلخ ..)

لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله وزير ثقافة وطني في محاضرة أصر على أن يكون عنوانها ( تخيلوا ! ..) : مستقبل الثقافة في سورية .
يحق لوزير الحديد، على سبيل المثال، التكهن بمستقبل صناعة الحديد، مثلما يحق لوزير التنجيم التنبؤ بمستقبل رعايا برج السرطان في مواجهة تحولات برج الثعبان، أما الحديث عن “مستقبل الثقافة ” فهو شأن يرتبط عضويا بما يمكن أن يبدعه المثقفون ( علماء، مفكرين، شعراء، وفنانين ، إلخ ..) وليس من حق أحد التكهن بما سيؤول إليه حال الثقافة في المستقبل، أيا كان هذا ” الأحد” وأيا كان ارتفاع قامته أو كرسيه، وأيا كانت قدرة مجسّاته الذرية على التقاط الرسائل القادمة من كوكب المستقبل .
بوسع السيد الوزير ( أي سيدٍ وزير ) التحدث عن مستقبل الإدارات والمراكز الثقافية التي تزدري المثقفين. لكن ما من وزير موسيقى ” يجرؤ على الحديث عن الموسيقى المستقبلية لبيتهوفن ” الثالث عشر ، أو وزير شعر يتنبأ بما سيكون عليه حال القصيدة المستقبلية لـ علي الجندي الواحد والعشرين.
مستقبل الثقافة يصنعه المثقفون لا رجال الإدارة، بوسع الإداريين أن يصنعوا إحباطا وخوفا وتنحية وإذلالاً، وإلغاءً إذا أمكن … ، لكنهم عاجزون عن صناعة ثقافة أو التبشير بمستقبل ثقافة. عصا المايسترو ” هي ما يدل إلى المستقبل، أما عصا الإداري فلا تدل إلا إلى هاوية أو خوف هاوية .
وزراء ثقافة يتباهون، أمناء عواصم ثقافية يتفاخرون ويدّعون، وثقافة وطنية تحتضر: ذلك هو المشهد….
وزراء ثقافتنا المحدَثون مغرمون دائما بالحديث عن المستقبل و التبشير بعطايا المستقبل، وحين يرى المثقفون ما سبق أن جاء به، أو ما يمكن أن يجيء به المستقبل، يصيبهم الهلع بحيث لا يجرؤون حتى على الصراخ : أعيدونا إلى حدائق الماضي .. أو إلى باديته .
حقا، لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله وزراء الثقافة وأمناء عواصمها وقادة اتحادات كتابها عن مستقبل الثقافة في الغياب المطلق للمعنيين بأمر الثقافة وأمراضها وشهقات الآلام السرية لرموزها المختنقين في ظلمات التهميش والإقصاء وبغضاء الكرسي ! لعلهم ـ كالعادة ـ سيكتفون باستنطاق الكرسي واستلهام الأفكار الخلاقة للكرسي : يحاورون الهواء، ويملون أوامرهم على الهواء، ويعاقبون الهواء، ويكافئون عباقرة الهواء بأوسمة كلام معجونة بصدأ الهواء! ..
لا أعرف ما الذي سيقوله وزير ثقافة في بلد ( لعله الوحيد في الكون) ليس فيه جائزة تقديرية يمكنها ـ على سبيل المثال ـ انتشال شاعر ريادي كـ على الجندي من حضيض حياته المعيب ( هو الذي خدم تحت راية الحداثة ما يزيد على نصف قرن من الشقاء وآلام صناعة الجمال ) .. جائزة لائقة يمكن تغطيتها من أثمان الولائم ” الرسمية ” وأكاليل ورد المجاملات الذاهبة إلى الموت.
لااعرف ما الذي يمكنه قوله ـ هو مالك المشيئة والقرار وعصا المايسترو ـ حين يعرف أن كاتبا من رواد الثقافة السورية يدعى من مدينة في أقصى الشمال إلى قرية في أقصى الغرب، قاطعاً بضع مئات من الكيلومترات وبضع ساعات من شقاء السفر ” الفولكلوري ” الذي لا يليق حتى بباعة الأرياف الجوّالين، سيتقاضى ( لاحقا ) من إدارة المركز الثقافي المضيف مبلغاً ” فولكلوريا” لا يغطي ثمن الماء والسجائر وسندويش الفلافل ” الثقافي ” الذي تم استهلاكه في محطات الهوب هوب المتخمة بالذباب والغبار وملوحةِ عرق المثقفين السـاعين إلى المجد.
لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله مايسترو الثقافة الوطنية حين يرى ما آلت إليه حال مجلة المعرفة التي كانت، على مدى عقود من الزمن المعافى، واحدة من ألمع المنابر الثقافية العربية، وها هي توشك على لفظ آخر أنفاسها كرمى لشقيقتها المدلّلة ” شرفات ” الرشيقة المصورة المنكّهة بفائض عطرها الأنثوي الرخيم !…
لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله عن حال الموسيقيين ذوي المواهب الاستثنائية الذين تأسست بجهود أقواسهم وأرواحهم واحدة من أبرز الفرق السيمفونية المتوسطية، وهاهم ـ هربا من جوع لقمة أو جوع كرامة ـ يفرون من فراديس ” عاصمة الثقافة العربية ” ملتجئين إلى قارات وبلدان تتيح لهم استعادة بعض من كرامة الموهبة في ظلمات المنافي، لعلهم يداوون الآلام المترتبة على انخراطهم الأحمق في سلك عبادة الجمال.
لا أعرف ، ولا أعرف ، ولكنني أعرف : لعل أقصى ما يمكن أن يفعله أمراء الثقافة الوطنية ــ في اتحادات الكتاب أو وزارة الثقافة أو الأمانة العامة لعاصمة الضوضاء الثقافية ــ هو تربية الأتباع وإطلاقهم في فضاء المحمية المنذورة للمتملقين والمهللين وصغار الكسبة.
أعرف ونعرف: الكل ( وزارات واتحادات كتاب وأمانات عواصم ) يدّعون أبوة الثقافة ، والثقافة بنت نفسها، هي ليست لقيطة لتحتضن أو تُتبنى، بل هي يتيمة الآباء إلى أبد الآبدين .. آمين .
أعرف ونعرف أن الحياة الثقافية باتت تدار من قبل ألدّ أعدائها وأشـد مبغضيها بأسـا و .. فصاحة.
نعرف ما نعرف : يصح على الثقافة ما سبق أن قاله هنري ميلر عن رامبو ” حين يغدو المثقف في الحضيض يغدو قلبُ العالم رأساَ على عقب مشروعا”
ونعرف ما نخشى أنهم يعرفون : لعل أيسر طريق لعلاج أمراض الثقافة الإجهازعلى المثقفين. أما داء ” قراءة المستقبل ” الذي هو بعض من أدواء ” الكراسي ” فكيف يمكن الشفاء منه ؟ !
ونعرف ونعرف ونعرف : من حقهم أن يتكهنوا، ومن حقنا أن نلزم الصمت ونبتلع الغصّة . . على أمل أن يحسن ” المنجمون ” قراءة ما في قاع الفنجان .
مرمريتا 16/7/2009

نزيه أبو عفش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى