صفحات ثقافية

عن الحزب الشيوعي والخبز الثقافي

null
محمد دكروب
في كلمات قليلة، في آخر الصفحة ما قبل الأخيرة، من «مشروع الوثيقة البرنامجية» المقدمة الى المؤتمر، وردت هذه الكلمات البليغة:
«… إعادة الاهتمام بميدان الإعلام التقليدي والحديث، والثقافة والفنون.. لقد تراجعت قدرة الحزب على جذب كادرات متقدمة. وهو أيضا خسر الكثير ممن كانوا أعضاء فيه، من هذه الفئة، وذلك يجب أن يكون موضع عناية نظرا لأهمية كسب العناصر الطليعية في كل الحقول».
… هذا كل ما ورد في «مشروع الوثيقة» بشأن المسألة الثقافية والفكرية للحزب، وداخل الحزب، وخارج الحزب! (دون أي تحليل لما تتضمنه من وقائع ونواقص وأسباب…)!
خمسة أسطر، وكلمتان، فقط!
شكرا جدا على هذا الجهد النظري، الذي بذله كل من أسهم في صياغة هذه الفقرة البليغة!
ولكن…
إذا كان الشأن الفكري/ الثقافي لم يأخذ الحيّز الضروري له في «مشروع الوثيقة»، وفي هذه الفقرة بالذات (بما يعني: ان من صاغ هذه الفقرة من الوثيقة لا يرى أن المسألة الفكرية/ الثقافية تعني، أو تستحق، أكثر من هذا!…) ـ فإن هذا لا يعني مطلقا، ولا بأي مقياس أو معيار، أن هذا الحيز الضئيل جدا ـ في الحجم وفي الرؤية ـ هو الحيز الذي يستجيب لمدى الضرورة القصوى لحضور الفكر ووسائل تنشيط العمل الفكري والثقافي، في حياة الحزب، وفي تأمين الضرورات المعرفية والثقافية لحياة أعضائه ومناصريه!
وأنتم تعرفون ـ بالتأكيد ـ أن حضور الفكر والثقافة والممارسة النظرية عموما، في حياة أي مجموعة تأخذ بالماركسية وأفكار التحرر والتقدم، وفي حياة أي فريق مستنير وساع الى الإسهام الجدي في الحصول على المعرفة كما في نشرها ـ ان حضور الفكر، هنا، هو من ضرورات تجدد الروح النضالية نفسها، وتجلي الوضوح النضالي، للحزب الشيوعي، ولأي فريق من قوى اليسار، ولا أبالغ أبدا اذا قلت: ان الفكر، هنا، هو صنو الحياة نفسها بالنسبة للمناضلين المنادين بالحرية والتقدم.
هذا في الظروف العادية، فكيف في ظروف احتدام الصراع الفكري الايديولوجي على كل الأصعدة التي نعيشها في هذا الزمان؟
ان المسألة الفكرية/ الثقافية تطرح نفسها، بمعنى ضرورة فاعليتها وتفعيلها، في المجالات العديدة لنشاط الحزب، ولنشاط القيادات بصورة خاصة: سواء داخل المنظمات الحزبية، أم داخل بقايا الأجهزة الاعلامية التي يملكها الحزب، أم في الاهتمامات الفكرية الثقافية للمفكرين والكتاب فيه، أم علاقات قيادات من الحزب بالكتّاب والمفكرين والفنانين العاملين في مختلف المجالات والمنابر الثقافية.
لقد أتيح لي ـ خلال العام الماضي ـ أن أشارك في لقاءات فكرية ثقافية لأعضاء في الحزب وأصدقاء له. وقد تبين لي، من دفق الأسئلة والتساؤلات والانتقادات والمطالبات: ان العمل التثقيفي في الفرق والمنظمات، إما انه ضعيف جدا، وموسمي غالبا.. وإما انه معدوم!.. وأن أغلب الرفاق في القاعدة يجوعون الى العمل التثقيفي، ويتوقون لأن يهبط عليهم من مكان ما، فوق!.. وتبين لي، من ناحية ثانية، عبر بعض المداخلات والمناقشات، ما يبشّر بوجود كتّاب وأدباء، شباب وشابات، يحتاجون الى رعاية وتشجيع وفتح مجالات لهم تتفتح فيها مواهبهم وقدراتهم… فإذا كنا ـ كما جاء في الوثيقة ـ قد خسرنا عددا من الرفاق في المجالات الثقافية، فباستطاعة الحزب ـ عبر جهد ثقافي تثقيفي حقيقي ـ تعويض من خسرناهم بمن هم أكثر شبابا وحيوية وصلابة ونضارة.. أليس كذلك؟
وبما ان حزبنا لا يزال ـ والحمد الله ـ يستند الى الماركسية أساسا ـ (رغم ان بعض من كانوا بيننا يستغربون والله ـ إصرارنا على السير في هذا الطريق!.).. فلا بد لنا من الاهتمام الجدي الجدي، والمتواصل، بالتثقيف المنتظم داخل الحزب، وطرح المسألة الثقافية التثقيفية هذه في جميع فرق الحزب والقطاعات وبين جميع الرفاق.. لهذا أتوجه اليكم، وأتوجه عبركم، الى جميع أعضاء الحزب: بأخذ مسألة التحصيل المعرفي الثقافي بجدية عالية، على الصعيد الفردي، وبمسؤولية أعلى على الصعيد الحزبي. فما زلت أرى، وسأبقى أرى ـ (رغم انني بلغت من العمر عتيا، وأكثر…): ان من أهم ما يتصف به، عادة، عضو الحزب الشيوعي، ليس فقط الروح النضالية، بل أيضا، وبالقدر نفسه: التحصيل المتواصل للثقافة من حيث إن الثقافة، هنا، هي أيضا ـ وبالأخص ـ وقود نضالي.
لهذا، ولغيره، أتوجه إليكم أنتم، أعضاء المؤتمر، وعبركم الى جميع أعضاء الحزب في القاعدة، مناديا وبالصوت الأعلى: ان تضعوا مسؤوليكم الحزبيين أمام مسؤولياتهم!.. ان تطالبوا بأن تنظم وتنتظم، عمليات التثقيف… وأن تطالبوا بهذا قيادات الفروع والمحافظات والقطاعات وصولا الى المركز في القمة القيادية، بإلحاح ودون وهن أو تهاون!
ـ هل هذا تحريض على القيادات؟
ـ نعم!.. وألف ألف نعم!
ففي سبيل هدف من هذا النوع (أي: توسيع قاعدة المعرفة النظرية والثقافية في القاعدة الحزبية، وعلى كل المستويات)… وفي سبيل التحقق الجدي والمنتظم لهذه الضرورات، يكون التحريض عملا «لا بأس به» ـ (هذا إذا أردنا لكلامنا ان يكون دبلوماسيا…) ـ أما اذا أردنا الحقيقة، فإن هذا التحريض هو العمل الضروري والمطلوب، دائما، وبإلحاح.
إنكم، أيها الرفاق، تجابهون حرباً ايديولوجية شرسة، يومية، ودؤوبة ومتواترة.. فأنتم مطالبون من الاصدقاء وسائر القريبين من الحزب، ومن المختلفين مع الحزب (الخارجين من الحزب والخارجين عليه).. أنتم مطالبون يوميا بردود على مختلف القضايا الفكرية والايديولوجية المطروحة، وبخوض حرب ايديولوجية بسلاح فكري، علمي، موضوعي، وثوري، يفترض ألا يملكه أحد غيركم.
هذا كله يحتاج الى مادة للثقافة والتثقيف.
أي: الى إنتاج فكري حديث، يدرس أوضاعنا وأوضاع بلادنا، بخصوصياتها وصراعاتها السياسية الطبقية، ويتصدى للمعضلات الاجتماعية بأفق فكري ونظري وثقافي عام.
… لهذا كله، ولغيره، فليتفضل الرفاق في القيادة التي سينتخبها، أو يجدد لها، المؤتمر: من الرفيق الأمين العام… الى الرفاق الطامحين بالأمانة العامة… والى مختلف الرفاق الطامحين بمختلف ألوان المناصب ـ فليتفضل هؤلاء الرفاق والرفيقات جميعا، ويضيفوا الى جهودهم الدؤوبة في هذا السبيل «المناصبي»، جهدا آخر، ضروريا، ومطلوبا، أي: أن يحكّوا أدمغتهم، وأدمغتنا، وأن يدخلوا جديا ـ ويدخلوننا معهم ـ الى آفاق الإنتاج الفكري المكتوب (أردد: المكتوب) وغير الموسمي، ودون ان ترتبط هذه الكتابات، ضرورة، بمواعيد مؤتمرات أو ندوات أو مناسبات.
وفي يقيني: ان بين هؤلاء الرفاق جميعا من يملك قدرات متميزة في الكتابة الفكرية والنظرية والثقافية وحتى الفنية. فإذا عملتم بما هو مطلوب في هذا المجال، وغادرتم الاستسهال والتساهل ـ أو: التكاسل ـ مع النفس… فسيرى الحزب، والناس، والشيوعيون، والله، عملكم، والمؤمنون… ولكم الأجر والثواب!
[[[
في قديم الزمان، عندما كنا نتداول بشأن كتابة تاريخ الحزب، طرحنا على أنفسنا مسألة القيام بقراءة نقدية في التاريخ الثقافي الفكري والنظري للحزب ـ (شقيا لذلك الزمان!).
الآن، نكتفي ـ فقط ـ بالراهن، أي: بتوجيه اهتمام ما، جدي، بالمسألة الثقافية التثقيفية داخل الحزب، وعلى صعيد إقامة علاقات ضرورية لقياديين من الحزب بمنتجي الثقافة وبأوضاع الثقافة والفنون في البلد، والاهتمام بمستوى إطلالات الحزب الفكرية والثقافية والإعلامية، في الناس…
مساء أمس، أضاف الرفيق خالد حداده ـ في خطابه الافتتاحي للمؤتمر ـ فقرات ممتازة الى تلك الفقرة اليتيمة، المأخوذة من «مشروع الوثيقة البرنامجية» والتي أوردتها في مطلع هل المداخلة… فهل نستطيع أن نأمل من القيادة التي ستنتخب، أن تأخذ ببعض وعود الرفيق خالد، وببعض من طرحته مداخلتي هذه، من مطالبات وآمال وأمنيات؟
[[[
ومنذ قديم الزمان أيضا، وفي عدد من وثائق مؤتمرات الحزب، كانت ترد (وتتردد) «توصية» من هذا النوع: «… تشكيل لجنة للعمل على كتابة تاريخ الحزب»!.. والتوصية هذه تتكرر على كرّ المؤتمرات!!.. وأنا أتساءل: متى تكف توصية كهذه عن مجرد كونها… «توصية»؟
… حتى جاء «مشروع البرنامج» الحالي، فكفت هذه «التوصية» أن تكون أصلا في البرنامج!!.. فاستنتجت من هذا الحدث الجلل أحد احتمالين لا ثالث لهما:
1ـ إما أن يكون الحزب قد استغنى عن كتابة تاريخه!! تاركا للآخرين أن يكتبوا ويخرفوا ويزوروا، ما يشاؤون!
2ـ وإما أن يكون الحزب قد قرر شطب «التوصية» هذه من البرنامج بهدف إدراجها في جدول أعمال تنفيذي، فأي الاحتمالين هو الأقرب الى واقع الحال؟
(… هنا، أشار لي الرفيق خالد حدادة والرفيقة ماري الدبس، معا، بما يفيد بأن الاحتمال الثاني هو الصحيح، ففرحت…)
[[[
والآن أصل الى قضية فكرية ثقافية عزيزة جدا عليّ، وقد وهبتها نصف عمري عددا وعملا ـ (بالمناسبة: منذ شهر بالتمام والكمال، وصل عمري الى الرقم 80 عاما)، فأكون قد أمضيت 40 عاما من العمل والكدح في تحرير مجلة «الطريق».
ولكن مجلة «الطريق» توقفت عن الصدور منذ خمس سنوات.. وأصارحكم بأن «الطريق» قد توقفت وهي في ازدهار تحريري، وانتشار ممتاز: كانت توزع أكثر من أي مجلة فكرية عربية، وتستقطب العديد العديد من أبرز المفكرين والكتّاب والأدباء العرب.
والمسألة مالية بالأساس وبالتحديد: فكل نسخة كانت تباع بأقل من تكاليفها، ولا يمكن للقارئ أن يبتاع النسخة بأكثر من 5000 ليرة… فتراكمت عليها الديون.
ولست بحاجة لترداد قول تعرفونه، وهو، ان مجلة «الطريق» تحديدا هي الآن حاجة فكرية ثقافية ضرورية لنا كشيوعيين وكماركسيين لبنانيين، ولدائرة أوسع بكثير من الشيوعيين والماركسيين… وهي أيضا حاجة فكرية عربية لجميع قوى اليسار، المحرومين ـ الآن ـ من مجلة فكرية ماركسية بالمستوى الفكري الذي كانته «الطريق».
فهل بالإمكان أن تعود «الطريق» الى الصدور؟
نعم، ولكن…
ـ نعم: لأن الحزب وضع مسألة إعادة إصدار «الطريق» على جدول الأعمال، ويخيل لي أن المسألة جدية.
ـ ولكن: «الطريق» تحتاج الى دعم مالي دائم.. جميع المجلات الثقافية العربية مدعومة ماليا من جهة ما.. فمن يمكن أن يدعم «الطريق»؟
ـ أنتم، وبصورة أساسية، ودائمة.
تحتاج «الطريق» أولا، الى ما لا يقل أبدا عن تأمين ألف اشتراك، مدفوعة سلفا، والاشتراك السنوي يبدأ من 30 دولارا، فقط، في العام.. و»الطريق» تحيي كل من يدفع أكثر من هذا الرقم القليل (وعلى حد علمي فإن هؤلاء ليسوا قليلين).
وتحتاج، ثانيا، الى تعهد منظمات الحزب ببيع كميات معينة من كل عدد. كما تحتاج الى تأمين باقي المصروفات من قيادة الحزب وكرام المتبرعين.
… بهذا، بهذا أساسا، إضافة الى الجهود المتنوعة، والمضنية سلفا، التي تقع على عاتق الهيئة التي ستتولى تحرير المجلة وإصدارها، واستعادة الصلات المعقدة لاستقطاب الكتّاب والمفكرين الماركسيين والديموقراطيين العرب. بهذا كله، وبغيره، يصير بإمكان هذه المجلة/ الضرورة… أعيد: مجلة انطون تابت وعمر فاخوري ورئيف خوري، ومجلة المفكرين الشهداء حسين مروة ومهدي عامل وسهيل طويلة… ومجلة المئات من الكتاب والمفكرين الماركسيين واليساريين والتنويريين والديموقراطيين العرب… أقول: بهذا كله، يصير بإمكان مجلة «الطريق» ان تعود الى الصدور، كحاجة فكرية ثقافية اكثر من ضرورية… فمثل هذه المجلات هي الخبز للعقل وهي الزاد المعرفي لكيان إنسانية الإنسان.
أصارحكم بأنني، في المؤتمر السابق، طرحت هذه المسألة بالذات، وقدمت الاقتراحات نفسها، وكان هذا قبيل أن تتوقف «الطريق» عن الصدور… صفّق أعضاء ذلك المؤتمر كثيرا لطرح القضية، وللاقتراحات… واكتفوا بفرحة التصفيق!! أتوسل إليكم: أن تبادروا، دون أن تصفقوا.
÷ ملاحظة ضرورية، صريحة، أخيرة:
ـ ان الفقرات الأساسية من مداخلتي هذه، منقولة من مداخلات لي سابقة في مؤتمرات لنا سابقة! ـ الكلمات نفسها.. والقضايا نفسها.. والنواقص هي هي نفسها!.. كأنها تنتقل بالعدوى من مؤتمر الى مؤتمر الى مؤتمر!..
وأخشى ما أخشاه: أن تكون الاستجابات ـ الآن ـ على مختلف الصعد، العليا وما دون العليا، بالصورة نفسها! ولكن الأمل الذي يحمله لنا هذا المؤتمر، وبهذا الرف الجديد الشاب الذي أخذ يضخ الحيوية فيه، يُشيع التفاؤل والنضارة في قلب هذا «الختيار».. وألف شكر لكم ايها الرفاق.
[ مداخلة ألقيت في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي اللبناني 26 ـ 28/ شباط 2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى