صفحات ثقافية

الثقافة والديمقراطية

null
د.إمحمد المالكي
يُعتبر تعريف الثقافة أحد أعقد المشكلات الفكرية والمعرفية. فقد اختلف علماء الاجتماع، والأنثروبولوجيون، وعلماء اجتماع المعرفة، وغيرهم من الباحثين في الاتفاق حول تعريف جامع مانع، ما يفسر وجودَ أكثر من 250 تعريفا للثقافة اليوم، تتنوع وتتباين أحيانا بحسب تباين المرجعيات الفكرية والفلسفية، وتعدد الرؤى في إدراك مفهوم الثقافة وضبط العلاقات مع غيره من المفاهيم ذات الصلة. بيد أننا إذا اخترنا أبسطَ هذه التعاريف وأعمقها دلالة، نقول إن «الثقافة حياة.. إنها جميع التعبيرات والسلوكات الإنسانية»، وبذلك توجد الثقافة بالضرورة أينما وجدت الجياة وحلّ النشاط الإنساني.. فثقافة الناس هي تلك التمثلات التي تتكون لديهم عن معيشهم اليومي بجزئياته وتفاصيله.
بهذا المعنى، يصعب فصل الثقافة عن سياقها المجتمعي، أي عن بنيتها الاجتماعية التي تحدد طبيعتََها كتمثلات ثقافية. لذلك، عادة ما يقع التمييز بين سيل من الأنماط الثقافية. وفي سياق ثنائية الثقافة والديمقراطية، يفصل علماء السياسة بين «ثقافة المشاركة» و«ثقافة الخضوع»، معتمدين مبدأ المشاركة مفهوما إرشاديا للتدليل على حضور الديمقراطية في الثقافة من عدمه. ففي المجال السياسي العربي، تبدو البنية الثقافية السائدة والمستَحكِمة في المعيش اليومي بعيدة عن روح الديمقراطية، بسبب انتسابها لثقافة مجتمعية ما قبل حداثية، أي ارتباطها بتمثلات ذهنية وثقافية غير حداثية ولاعقلانية، مؤسسَة على الولاء الشخصي، والزبائنية، وعلى كل ما من شأنه الإسهام في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية ما قبل الحداثية. لذلك، يسَّر هذا النمط من الثقافة تبيئةَ الاستبداد السياسي في أوطاننا وأسهم في توطين القيم الناظِمة لآلياته على صعيد الممارسة، والحال أن سياق ما قبل الحداثة يلائم النظم الاستبدادية ويخدُم ديمومتها.
ثمة العديد من المعضلات الناجمة عن علاقة الثقافة بالديمقراطية في سياق مجتمعي موسوم بالتكلُّس، كما هو الحال في بلادنا العربية. تتعلق الأولى بدرجة التداخل والتكامل بين مسؤولية البنية المجتمعية، ومسؤولية النظم السياسية في تكريس الثقافة السياسية غير الديمقراطية، أي ثقافة الخضوع والاتباع. فمن الشائع أن نظم الحكم في بلادنا، وان بدرجات مختلفة، تتحمل المسؤولية الأولى والأخيرة في تنامي ثقافة الخضوع، وضمور قيمة المشاركة في الحياة السياسية، وإدارة الشأن العام على وجه الخصوص.. بل هناك من ينظر إلى المجتمع بقدر من «القدسية»، ويضعُهُ في منأى عن كل ما يعوق انبثاث الديمقراطية في نسيجه العام. والحقيقة أن نظرة من هذا النوع كانت في أصل شيوع النزعات «الشعبوية» في أوطاننا. كما كانت مصدر نزع سمة الخطأعن أعمال الناس وسلوكاتهم.. علما أن الإنسان خطاء بطبعه، وأن العِصمة في البشر غير واردة ولا ذات جدوى.. ففي أحيان كثيرة، ولأن الثقافة السياسية السائدة غير ديمقراطية، يقاوم الناس فكرة حكم القانون وسيادة منطق المؤسسات، ويُرجِّحُون، في المقابل، المقومات المتأصلة في بنيتهم المجتمعية من قبيل اللجوء إلى العلاقات الشخصية والعائلية والطائفية والعشائرية لقضاء مآربهم وحاجاتهم، وقد يُكلفهم ذلك انتهاكَ سلطان القانون وروحَ العدالة.. وفي هذا المستوى بالذات تلتقي ميولاتُ الناس المحكومة بواقع بنيتهم المجتمعية بإرادات الحكام واستراتيجياتهم في استمرار الأوضاع على ما هي عليه. تخُصُّ المعضلة الثانية قدرةَ النظم السياسية على إعادة إنتاج ثقافة الخضوع والاتباع، وإشاعتها في النسيج المجتمعي العام. ففي مجمل الأقطار العربية تستحوذ الدولة على مجمل وسائل الإعلام، ووسائط الدعاية، وكل ما له صلة بتأطير وعي الناس وتوجيهه.. ومن الملاحظ أن جل الدعوات المُطالِبة بإحداث هيئات عليا إعلامية، أو تعليمية وثقافية مستقلة، لم تحظ بالقبول، وإن تأسست، تبقى قريبة من عيون السلطة ورقابتها، ونعرف جميعا الدورَ المنوط بهذه الأجهزة الوسيطة في إعادة إنتاج السياق المجتمعي المُعيق لانبثاق ثقافة المشاركة في المجال السياسي العربي.
أما المعضلة الثالثة، فتشير إلى قضية بالغة الأهمية، يتعلق الأمر بكون استمرارية النظم وممارساتها أعلاه، ليست قرارا نابعا من إرادتها المنفردة، بقدر ما هي محصلة عوامل بنيوية مركبة ومعقدة . فالسياق المجتمعي العربي الموسوم بالتأخر والتكلس، يسمح بتوطين الاستبداد وحكم الغلبة، كما يعمل هذا الأخير عبر احتكاره وسائل التعبئة والتأطير، على ضمان ديمومة الوضع على ما هو عليه. فالأمران معا يتكاملان أكثر ما يتعارضان.
تستلزم إعادةُ بناء علاقة الثقافة بالديمقراطية عمليةَ تفكيك على واجهتين متلازمتين: تفكيك السياق المجتمعي وتفكيك طبيعة النظم، وإعادة بنائهما كي يستقيم حال الثقافة بروح الديمقراطية، وتلك دون شك مهمة مركبة ومعقدة، تحتاج إلى قدر كبير من الوقت والتدرج والتراكم في الإنجاز. ولئن بدت العملية صعبة في طبيعتها ووسائلها، فإنها ليست بالمستحيلة، إذ تمكنت بعض دول العالم من تجاوز عتبة التنافر والتضاد بين الثقافة والديمقراطية، ودشنت أفقا فعليا على طريق إعادة تأسيس الثقافة على أساس الديمقراطية، كما هو حال بعض البلاد الأفريقية، التي تقلّ ثروة وإمكانيات وعناصر جاذبَة للديمقراطية عن عدد يسير من الأقطار العربية. ففي جل التقارير الدولية ذات الصلة بموضوع الديمقراطية ومؤشرات قياسها، احتلت أفريقيا مراتب متقدمة في سلم الدَّمقرطَة والحكامة، مقارنة مع البلدان العربية. وأظن أن مصدر ذلك يعود إلى توفق بعض البلاد الإفريقية في تفكيك السياق المجتمعي النابذ لفكرة الدَّمقرطة في معمارها المجتمعي والسياسي ، فقد تمكن الناس من امتلاك وعي خطورة استمرار الفساد في حياتهم، ومثالبه المدمِّرة على انتعاش الاقتصاد، وتطور الإنتاج، وانسياب رؤوس الأموال. كما لمسوا مفصلية انغراس فكرة القانون وسلطة المؤسسات في تدبير شؤونهم، واستشعروا استراتيجية ردم الهوة الاجتماعية بين أبنائهم، ولربما انبثقت داخل أوطانهم نخبة من القادة السياسيين الذين تجاوبوا مع رغبة الأفارقة في تفكيك بنيتهم المجتمعية المتكلسة، وإعادة بناء أخرى أكثر حداثة وعقلانية.. إنها القطيعة التي تحتاجها البلاد العربية، إن هي أرادت التغريد داخل سِرب الدول التي ارتضت طواعية التحول إلى الديمقراطية.
كاتب من المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى