المثنى الشيخ عطية

قل لي كيف أستعيدك من قلب هذا الموت يامحمود؟

null
المثنى الشيخ عطية

أعرف أيها الشاعر أنك باقٍ، ومتألقٌ أبداً كما هو محبوبك المتنبي/ صنوك الوحيد ربما لما
لا أعرف أيضاً من الأرزاء، وأعرف أن خلودك أمرٌ لا يحتاج إلى مراثٍ لإيقافه على أعمدة السماء، وأعرف أن مراثيك هي من تتسلّق عليك، وأنني لا أكتب مرثية.. غير أني أعرف ياصديقي الذي لم أقابله إلا مرة عبر الهاتف وفور فرحه البشري البسيط الذي أبكاني برؤية أمه بعد المنفى وإلا عبر تناقل الأخبار بين الأصدقاء، أنني سأفتقد حضورك، وأنني أفهم تساؤل من قال أنه لا يعرف كيف ستكون الحياة العربية بدون محمود درويش، أنني سأفتقد ذكاءك الصارخ إلى حد الخوف عليك. لطفَك الملتبس على من لم يفهموا أنك لا تحب مديح ظلك العالي. جرأتك التي أحسد على قول الشعر. مواجهاتك لمرآة نفسك. العالمَ من خلالك. فلسطينَ، بيروتَ ودمشقَ فيك. سأفتقد حبك وإخلاصك لأصدقائك، سأفتقد ذكريات إزعاج صديقك صبحي حديدي في منفانا الباريسي بإيقاظه يومياً في الصباح بنشيدي المضحك له من مرثية استعادتك لماجد: “صباح الخير ياصبحي.. صباح الخير”، سأفتقد خوفي على قلبه حين توقف قلبك.. أيها الشاعر الوحيد الذي يخجل منه أعداؤه، الذي يدّعي من لم يعرفه صداقته، الذي يصل أصدقاؤه للقول في بيروت: “ياليت لي قلبك، لأموت حين تموت”…

أعرف أيها الشاعر أنك انتقلت من ضريحك البشري إلى ضريح أساطيرنا، غير أني سأفتقد حضورك البشري، على الأقل في داخلي، وإلى الدرجة التي أريد فيها طرد هيمنة أسطورتك لاستعادة بساطتك البشرية، طيبة قلبك، صفاء عينيك اللتين أعرف أنهما تحفظان وجه بواب العمارة، سائق التاكسي، ماسح زجاج السيارة، وبائع الخضار، وتعكسان ضحكات الأصدقاء إلى الدرجة التي أريد فيها استعادتك دون شعر من قلب هذا الموت…

وأعرف أيها الشاعر أنك من اعترفت في قمة انتصارك على الموت وتدفعني للاعتراف كذلك أننا مهزومان في النهاية أمام الموت، وأنني لا أعرف حقيقةً كيف أستعيدك من قلب هذا الموت خارج تصديرنا لأساطير خصبنا في استعادة عشتارنا لإلهنا، وفي عملنا ومراثينا التي حاولت لملمة أشلاء أبطالنا وأصدقائنا ونثرها في قلوب أجيالنا كي تستمر الحياة على خبّ قولك لليائسين “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”…

أعرف أيها الشاعر مدى عجزي فقل لي أنت يامحمود..
هل ينفع أن يهدي كل شخص على كرتنا الأرضية التي تفتقد الحب حفنة من تراب كرتنا الأرضية تيمناً بحب أرضك لأول شخص يراه؟..
هل ينفع أن نجتمع نحن العرب جميعاً على الوقت الذي توقف فيه وقت قلبك لنطلق في وقت واحد صرخة واحدة تشق قلب السماء: فلسطين لنا؟..
أم هل ينفع ببساطة أن يكتب كل شخص على كرتنا الأرضية التي احتل شعرك أرجاءها علاقته بمحمود درويش، أو بشعر محمود درويش، علاقتك به، تأثيرك فيه، ماذا أضفت له وماذا أنقصت منه؟…
لقد كتب صديقك الناقد صبحي حديدي عن “الإرادة التراجيدية الغاشمة، التي قادتك عنوة إلى قَدَرَيْن لا ثالث لهما: إمّا أن تسير إلى الموت بقدميك، ساعياً إلى ملكوته، طامعاً في هزيمته للمرّة الثالثة (بعد موتَيْن سريريين، سنة 1984 وسنة 1998)؛ أو أن تنتظر ـ مكتوف اليدين، متعب القلب، واهن الشرايين _ مجيء الموت إليك، ساعة تشاء الإرادة الغاشمة”، وقرارك بالسير كما هي عادتك إلى مواجهة موتك؛ وكتبت صديقتك الشاعرة جمانة حداد التي أحبت رقص قلبك على الحافة راجية أن لا يتوغل قلبك العنيد أكثر، “أن لا تأخذه الحافة إلى الأبعد منها”، وكتب صديقك الشاعر أدونيس عن لطفك في حملك لابنته صغيرةً ومشاكساتها لك، وكتب صديقك الناقد كمال أبوديب عن بساطتك وبساطة فرحك واحترام قارئك بقدر احترام شعرك باستشارتك له وأنت المستشار ماذا تقرأ أمام جمهور أتى للنجم لا للشعر! وكتب آخرون وآخرون سيكتبون إلى أن تنتهي الأرض، وسأكتب بدوري عن تأثيرك بي، وربما طلبتُ من الآخرين بدونكيشوتية لا مبرر لها ضرورة أن يكتب كل منهم عن وجودك فيه، علّ دونكيشوتيتي تنفع، علّنا نلملمك من براثن هذا الموت، علّ معجزة ما ستحدث في أن يفيق إنسان فعلاً من الموت لأن البشر بحثوا فعلاً عن وجوده فيهم ووجدوه.. فهل ينفع أن أكتب وجودك في داخلي؟.. هل ينفع القول أن شعر “حديد سلاسلك الذي علمك عنف النسور ورقة المتفائل”، علمني شعر مقاومة الفاشية، لكنه غشّني وليس هذا خطأه في إصابة قصائدي الأولى بعطالة المباشرة؟.. وهل ينفع القول إنني استخدمتك في مشاركتي بمكافحة التعطيل في حركة جيلنا من خلال مكافحتك للتعطيل داخل نفسك، وأن شعرك التالي ومنه أمسيتك التي غضبتَ فيها من جمهور  لم يقدّر معنى الشعر على مدرج الآداب في جامعة حلب وأنت تفتح أبواباً جديدة للشعر في “تلك صورتها وهذا انتحار العاشق”، دفعني إلى شرف أن أشارك مع رفاق آخرين مثل الناقد الشاعر صبحي حديدي، القاص الشهيد هيثم الخوجة، الفنان التشكيلي بشار العيسى، الشاعر المبدع رياض الصالح الحسين، ورفاقنا وأصدقائنا من مفكرين وفنانين تشكيليين ومن شعراء وكتاب وسينمائيين عرفتهم أيام دمشق السبعينات والثمانينات والتسعينات والألفين، وعرفتهم سجون النظام السوري ومنافيه على مدى هذه العقود في ربط مشروعنا السياسي من أجل التغيير الوطني الديمقراطي ومن أجل سوريتنا الديمقراطية منذ عام 1973 بحركة الحداثة، والحداثة الشعرية التي كنتَ على رأسها ومؤثراً بجوهرها
يا محمود…
هل ينفع قولي إنك كنت معنا في كفاحنا الديمقراطي ضد فاشيي أحكام الطوارئ والفساد والسجون عندما كنا نوزع قصيدتك أحمد الزعتر على أشرطة الكاسيت في كفاحنا ضد ضرب الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية أيام مجزرة تل الزعتر، وهل ينفع قولي إنك كنت سنداً يجبر انكساراتنا أيام اعتقالاتنا ومنافينا في الثمانينات، وكنت زهرةً من أجمل أزهارنا في “ربيع دمشق”، وإنك كنت الجملة الشاعرة الحرة في “إعلان دمشق”، وإن مشروعك الشعري الحداثي الحقيقي المرتبط بمشروعنا الديمقراطي ما يزال يغذي روح الحرية والحقيقة والتغيير الوطني الديمقراطي  بدواخلنا من أجل دمشق؟..
هل ينفع قولي إن دراساتي البنيوية لقصيدتيك “أحمد الزعتر”، و “عابرون في كلام عابر” اللتين منحتاني شرف أن أكون حجراً في جدران المخيمات، وحجراً في يد طفل يشارك بالانتفاضة ساعدتاني كذلك بما تملكان من قوة جمالية على تكوين بنيويتي الشعرية؟.. وهل ينفع القول إنني سأفتقد جرأتي الماضية الباعثة على الغيظ أمام ابتسامتك في قولي إنني عرفت كيف كتبتَ “أحمد الزعتر” حيث كنتك في دراستي الأولى لقصيدتك؟.. هل ينفع قولي إنني ربيت أطفالي على إيقاع شعرك فنموا شباباً صالحين على الأقل؟.. هل ينفع قولي إنني سأفتقد وجودك الشخصي في شخصي، سأفتقد سرورك من تصدير قصيدة انتحاري إليك بقولك لنيرودا “هانحن نتفق/اختلفنا. هانحن نختلف/ اتفقنا”، واستغرابك انسحابي بعدها من الشعر؟.. إنني سأفتقد ذكريات تمزيقي لقصيدة كتبتها في بداياتي حين وجدت صوتك صارخاً فيها… هل ينفع القول إنني أشكرك يامحمود على هذا التحدي الذي فرضته بموهبتك الخلاقة على شاعريتي، إنني أشكرك على إغناء داخلي أيها الشاعر الفاتن بالجمال…

أعرف أيها الشاعر أنني عاجز عن استعادتك، فقل لي أنت يامحمود…
أعرف أنني عاجز عن اجتراح معجزة تستبدل طيف أسطورتك بجسد حقيقتك التي أحبها فيك أصدقاؤك…
أعرف أنني عاجز حتى عن مواساة صديقك صبحي حديدي، الذي أراد متمنياً ومصراً على وهمه في أن يبعد عنك الموت مسبقاً وهو يودعك في باريس بتذكيرك لما يجب أن تفعله في باريس بعد عودتك من عملية قلبك في هيوستن.. صديقك الذي سميتُه محمود في روايتي لمعرفتي أنه يحب اسمك، صديقك الذي هام على وجهه في باريس يبحث عنك وأنت مسجى في قارة أخرى، صديقك الذي سيضحك حين أعيد إيقاظه الآن من غفوته بأبيات استعادتك لماجد أبوشرار بإنشادي: “صباح الخير ياصبحي صباح الخير”، سيضحك وربما ستدمع عيناه مثلي حين يعرف أنني أحاول فقط عاجزاً استعادتك يا محمود من قلب هذا الموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى