صفحات مختارة

المثقف وصناعة الطاغية

محمد عاكف جمال
سأعفي نفسي من الدخول في وعورة مصطلح «الثقافة»، وسأبتعد كذلك عن تبني الصيغة الأكاديمية لهذا المصطلح الذي اعتاد المختصون في علم الاجتماع الحديث في أطره، داخل صوامعهم التي تحظى بطروحات نظرية متقدمة ذهنياُ على ما سواها في الساحات الجماهيرية، تتفق مع ما هو مألوف في السياقات التي يستخدمونها عادة حول مفهوم الثقافة، وهو ما يؤتلف عليه اجتماعياً من لغة وتاريخ وتقاليد ومعتقدات وعادات وطقوس وأوهام وأساطير..
وأكتفي بما اعتاد عليه سواد الناس بأن المثقف هو من يمتلك القلم وله القدرة على تقديم خدمات معرفية إلى أناس يستمعون إليه وينشغلون بمناقشة ما يصدر عنه في وسائل الإعلام. وغالباً ما ترتبط هذه الصفات بالصحافي أو الشاعر أو الأديب أو الكاتب أو القصصي أو المسرحي، ومن يكون له حضور في وسائل الإعلام. وقد اعتادت المجتمعات العربية على اعتبار من ينتمي إلى المؤسسة التعليمية مثقفاً.
أما المصطلح الآخر الذي يضمه عنوان هذه المقالة فهو «الطاغية»، وهو مصطلح خطير يستوجب التوقف عنده لأهميته، فقد ورد في اللغة اللاتينية، ثم في الإنجليزية لاحقاً، مصطلح «دكتاتور»، وهو يعني في لغة روما القديمة الحاكم المطلق، أو الشخص الذي يُعيّن في موقع اتخاذ القرارات المهمة لفترة مؤقتة، إبان نشوء الأزمات التي تتطلب اتخاذ قرارات فورية.
ورغم أن اللغة العربية قد استوعبت مصطلح الدكتاتور في معجمها السياسي ولا أقول الفقهي، إلا أن المصطلح العربي «الطاغية» شديد القوة والتأثير في معناه السياسي والنفسي، مقارنة بمصطلح «الدكتاتور».
فالطاغية ليس فقط الحاكم المطلق الفرد الذي يطلب من الجميع الطاعة والإذعان، وإنما من يستخدم أساليب عنف لا تعرف الحدود لمواجهة من يقف في وجهه، ويشرع لنفسه قوانين تمنحه المزيد من الهيمنة على مقدرات الشعب، وغالباً ما تتصف إجراءاته بالقسوة الشديدة. كما أن اللغة العربية حين تؤنث المذكر (نقول طاغية وليس طاغيا) فهي تضعه في مصاف من يصنع الشرور، فمعظم الكلمات في اللغة العربية التي تشير إلى المصائب والكوارث والنكبات هي كلمات مؤنثة.
الطاغية، في أي مكان من العالم، له دولة فيها مؤسسات مختلفة كباقي الدول، إلا أن أكثرها أهمية وتعقيداً وأكثرها ثقلاً على الميزانية المالية للدولة واستنزافاً لها، هما مؤسستان: المؤسسة الأمنية، والمؤسسة الإعلامية. وإذا كانت الأولى تدار من قبل أناس تدربوا على التفنن في إبعاد الآخرين عن التأثير في مجرى الأحداث التي يرسم مساراتها الطاغية، بالترغيب أو الترهيب إلى حد التصفيات الجسدية أو شراء الذمم، وفق استراتيجية غايتها إدامة وضع سياسي معين أو حكم شخص يجثم على أنفاس الشعب، فإن المؤسسة الأخرى بحاجة إلى من يحمل يراعاً ويوظف أدوات مؤثرة عقلياً ونفسياً في المجتمع، قد تكون ذات طابع قومي أو ديني أو مذهبي..
ويمتلك كذلك فنون التضليل، وتحويل الأكاذيب أو أشباهها إلى حقائق، وتغيير الألوان والمذاقات وتحريف المعنى، وطمس الحقائق أو تغييبها، والقدرة كذلك على التأثير في الجمهور، وهو في حجم ما يؤديه من تخريب في البنية الفكرية للمجتمع، أكثر شراً من النمط الأول.
المؤسسة الأمنية تحتاج إلى خبراء في بث الرعب في أوساط الناس بطرائق شتى، تحتاج إلى سجون ووسائل تعذيب وقضاة بعيدين عن النزاهة، وتحتاج إلى عيون تُدس داخل قيادات الأحزاب والمنظمات، وتحتاج إلى طوابير من الذين يحصون على الناس حركاتهم وسكناتهم، وينقلون ما يتفوّهون به سراً، لتصبح شاهداً غير مرئي على العلاقات الاجتماعية والأسرية في بداياتها، ولتصبح بعد ذلك عاملاً أساسياً في تمزيق لحمة هذه العلاقات من خلال زرع بذور الشك في صفوفها.
كما تحتاج هذه المؤسسة إلى رسم سياسة خاصة ووضع ميزانية مالية لشراء وسائل الإعلام غير المحلية، لتغض الطرف عما قد يتسرب إلى الخارج من أقاويل حول ما يجري في ساحاتها.
في حين تحتاج المؤسسة الإعلامية إلى محطات إذاعة وقنوات تلفزيونية وصحافة ودور نشر، وغير ذلك مما له صلة بصناعة الحرف وصياغة الكلمة. ولأجل أن يستفيد الطاغية من إعلامه، فهو بحاجة إلى أقلام صحفيين وديباجة أدباء وقوافي شعراء وأصوات جميلة لمطربين ومطربات تتغنى بمزاياه و…، و….، أي بحاجة إلى من يضعهم سواد الناس في خانة المثقفين.
إلا أن الطاغية بحاجة إلى من هو أكثر أهمية من هؤلاء جميعاً، فهو بحاجة إلى مثقفين من طراز خاص يؤدلجون مرحلة طغيانه فلسفياً ونظرياً، ليصبح وجوده ضرورة حتمية بحكم صيرورة أحداث التاريخ وتسلسل مراحله.
فالمثقف هو من يصنع صورة القائد في أذهان الناس، فهو القادر على رسم سياسة إعلامية وتوظيف أدوات ذكية يخلق من خلالها كارزما خاصة للقائد، حتى لو كان هذا القائد لا يتمتع بخصائص الشخصية القيادية.
قد يأتي الطاغية إلى السلطة على ظهر دبابة في انقلاب عسكري، كما يدخل المحتل مدينة أخضعت بالقوة رغم إرادة أهلها. فقد شهد القرن العشرون صعود الطغاة عشرات المرات في دول عديدة، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، بالانقلابات العسكرية وبتخطيط تآمري تحت جنح الظلام لتلصص السلطة والتسلط على رقاب الناس، وجل من وصل إلى ذلك هم من الناس المغمورين الذين يتمتعون بقدرات متواضعة.
ولكن الطاغية ليس بالضرورة شخصاً استطاع أن يصنع الخوف ويعممه على شعب بكامله، عبر تشريع القوانين الجائرة التي تضيق مساحات الحرية وتغلق عقل الإنسان، فذلك النوع من الطغيان لا يدوم طويلاً عادة. فقد تنقلب الأوضاع على هذا الطاغية في ثورة شعبية أو انقلاب يقوده طامعون آخرون بما تمنحه السلطة من جاه ونفوذ. وإن لم يحدث شيء من هذا القبيل فلا بد أن يطويه الموت في يوم ما، ويحدث عندئذ انفراج بشكل ما بسبب ذلك.
فهناك طواغيت من نوع آخر، هؤلاء ليسوا أفراداً ليعزلوا عن الحكم أو يموتوا بسبب المرض أو بسبب الشيخوخة، وإنما هي أفكار أو عقائد تمتد عميقاً في الماضي البعيد، صنعت عبر تاريخها نسيجاً معقداً من حبال متينة تطوق عقول البعض وترهبهم.
وهذه الأفكار أو العقائد تضم في ذاتها أساليب دفاع هجومية تدمر من يعترض عليها، ويجد فيها البعض ممن وصل إلى السلطة في بعض الدول الوسيلة المثلى للتحكم بإرادات الآخرين، والاستمرار في الحكم عبر مؤسسة إعلامية جعلت من هذه الموروثات طاغية يتفوق على جميع الطغاة في تأثيره وهيمنته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى