صفحات الحوار

حوار مع انطونيو تابوكي: صرت كاتبا.. بالصدفة!

null
محمد آيت لعميم
ألا يمكن اعتبار كتابكم الأخير طريقة في تدجين الشيخوخة والموت أكثر منه تأملا حول الزمن؟
إنه السؤال الأبدي: لماذا نكتب؟ أعتقد أن كل الكتب التي نكتب، لها، بطريقة أو بأخرى، طموح لتدجين الموت. يمكن أننا نكتب لأننا نخاف الموت. ويمكن أننا نكتب لأننا نخشى الحياة. هذا أيضا محتمل. فالخوف هو شيء يهيمن على الكتابة. إنه البنزين الذي يدير محرك الكتابة.
يمكن أننا نبحث عن خلود ما؟
من ذا الذي يعرف كم من الزمن سيبقى العمل؟ لا أعقد آمالا البتة على الأجيال القادمة. فهذا مفروغ منه. لنعد إلى كتابي. فالأجيال القادمة، والمدة الزمنية، والعلاقة بكرونوس، يعني مع الزمن بحرف أول بارز، هو الشخصية المحورية لهذا الكتاب كما أعتقد هو نوع من الشخصية الفوقية التي تهيمن على الباقي، كما هو الشأن في ‘أنواع صغيرة من سوء التفاهم بلا أهمية’، حيث هناك شخصيات، لكن أيضا هناك شخصية مجازية أكبر كانت ملتبسة. أود أن أرى كتابي شبيها بإحدى لوحات الفنان Arcimboldo مكونة من عناصر مختلفة، حين نراها عن بعد، تشكل وجها، وجها يؤطر كل الشخصيات. هذا الوجه هو الزمن طبعا، زمن الحداثة هذا هو الذي يعنيني أكثر فأكثر. كنت قد كتبت كتابا تحت عنوان ‘إنه متأخر أكثر فأكثر’. كنت أبحث فيه عن القبض على الطريقة التي نحيا بها الزمن في زمننا الحداثي. بعد روايتي ‘Tristam ميتا’ التي تشتمل على نوع من الدياليكتيك بين زمن التاريخ وزمن حياة الشخصية. كانت لدي رغبة في أن أعكف على هذه الطريقة التي نحيا بها الزمن الذي لا ينتمي إلا لحداثتنا. كان لدي بالفعل انطباع بأن إحساسنا بالزمن مختلف جدا عن الإحساس الذي كان لدى الناس في عصور أخرى.
أعتقد أنه اليوم، في ما بعد الحداثة، هناك تفاوت كبير بين زمن الوعي، يعني زمن حياتنا، زمن الديمومة، كما سبق لبرغسون أن قال ذلك، والزمن الخارجي، الزمن الذي تدور فيه كل هذه الأشياء التي نسميها ‘التاريخ’ أو بالأحرى الحدث، أعتقد، أنه، بين الحدث والوعي، هناك تفاوت كبير جدا، ومن الممكن أن هذا هو الذي يشوش السير الاجتماعي، والاقتصاد.
لماذا اخترتم هذه المجموعة القصصية؟
كتب ميلان كونديرا نصوصا رائعة حول ما نسميه الرواية المعاصرة. قال من بين أشياء أخرى قالها، إن الإحساس بالزمن الذي كان يحدد الرواية التقليدية مختلف بالمرة عن زمن الرواية المعاصرة يمكن لرواية معاصرة أن تتكون من شذرات، ومقتطفات، وأنا أحب كثيرا مستوى المحكي القصير للقصة. إنه وزن موسيقي مختلف تماما عن موسيقى الرواية، لأنه كما قال خوليو كورتثار ‘كاتب القصص يعرف أن الزمن ليس صديقا له’.
فكتابة قصة في الشعر تشبه، كتابة قصيدة فروسية أو سوناتة. فالسوناتة شكل مغلق، تنتصب تحديا كبيرا أمام الذي يكتبها. كذلك الأمر بالنسبة للقصة، يمكننا أن ننجزها في فضاء زمني محدود جدا، لكن لا يمكن أن نتخلى عنها أثناء الطريق. فإذا تركتم قصة ولم تنهوها، وحاولتم الرجوع إليها بعد ستة أشهر، ستدركون أن هذا غير ممكن. أما الرواية فإنها تنتظركم، فهي صبورة. يمكنكم تركها، والذهاب إلى أقصى العالم وعند عودتكم بعد سنة، ستجدونها تنتظركم في أناة. إنها منزلكم، ملككم. في حين أن القصة هي شقة للكراء/ إذا غادرتموها دون أن تخبروا مالكها، فإنه سيقول لكم عند عودتكم ‘آسف، اكتراها شخص آخر’
تعترفون عن رضا أنكم مفتونون بقراءة Tabacaria لفرناندو بيسوا.
هذا صحيح. كنت مفتونا باستعماله للشكل الروائي في الشعر، كان قد تمكن من صوغ روايات أو مسرحيات بشعره. هذا أمر صعب للغاية. إذن فأن تكتشف في قصيدة كتبت في 1930 حداثة مسرحية جلية للعيان، نعم، هذا، أمر فتنني. بيسوا يشبه الكوميديا الإنسانية في الشعر: فالبناء، والعمارة تنتمي للرواية، للفكرة الروائية.
هل بيسوا هو الكاتب الذي أثر فيكم بقوة؟
كل شيء يؤثر في. إنني أندهش حينما أسمع أحد الكتاب يقول: ‘أنا لم أتأثر بأي شيء. أنا أحبك. أو …….أؤمن بما قاله فيليب روث ‘الكاتب الجيد يسرق، والكاتب الرديء يقلد’. في العمق، الكاتب دائما سارق، يسرق الواقع، يسرق الحكايات التي تقع للآخرين. إنه بصاص ومتلصص: يسرق، يهضم ثم يذيع الأمر ثانية. إنه كائن شره.
هل قراءة قصيدة بيسوا كانت حاسمة في ظهور موهبتك باعتبارك كاتباً؟
لا. صرت كاتبا بعد ذلك بزمن. نشرت روايتي الأولى في سن الثانية والثلاثين بالفعل. صرت كاتبا عن طريق الصدفة. وعن طريق السأم. كتبت روايتي الأولى لأنني كنت مصابا بالسأم. لأصارحك، كنا في المدينة، وكان الوقت صيفا، لا نستطيع التحرك إذ كنا ننتظر مولودي الأول. كنت أستاذا باحثا في المدرسة العليا فيPise . ولكي أمضي الوقت، وألعب، شرعت في الكتابة. أقول كي ألعب لأن الكتابة لعب، لكنه لعب جدي جدا. الكتابة تسبب الكثير من المعاناة والكثير من المتعة أيضا. أنهيت الكتاب، تركته جانبا. لم أكن أتمنى بالمرة نشره. كنت أستاذا، باحثا، فيلولوجيا. اهتم بمخطوطات العصر الباروكي، خصوصا الإسبانية والبرتغالية. كانت وظيفتي. زد على ذلك كانت حياتي. تابعت تدريسي للفلسفة، بعد سنتين من ذلك، جاء أحد أصدقائي Enrico philipie الذي كان يسير دار نشر Boripion ليتناول العشاء معي في المنزل. رأى المخطوط، أخذه، قرأه فقرر أن ينشره. إنها الصدفة إذن. لكن كما سبق لهوغو أن قال ‘إذا كانت الصدفة موجودة فإنها حاذقة’.
تعلمتم اللغة البرتغالية، وكتبتم بها رواية Requiem .
حينما دخلت إيطاليا، وأنا ما زلت شابا، وبعد أن قرأت للمرة الأولى بيسوا اكتشفت أنه، في شعبتي، في الجامعة، كانوا يدرسون اللغة البرتغالية، قلت يا لها من مناسبة جيدة أن أتعلم لغة هذا الشاعر المدهش، إنها لغة تعلمتها وأنا كهل. إذن، إذا كنت اليوم مزدوج اللسان فهذه الازدواجية ليست طبيعية، إنني allogloe (صاحب لغة أخرى) كما يقول المتخصصون في اللسانيات. فاللغة البرتغالية ليست بالنسبة إلي في مستوى اللغة الإيطالية لنقل إنني عمدت كهلا في ديانة أخرى. فأنا إذن لا أكون الشخص نفسه حين أكتب في اللغة الإيطالية أو في اللغة البرتغالية. وإذا وددتم أن تعرفوا لم كتبت رواية Requiem باللغة البرتغالية، فالأمر في غاية السهولة: ذات يوم استيقظت في مدينة باريس وانتبهت إلى أنني قضيت الليالي الأخيرة وأنا أحلم باللغة البرتغالية، وأعتقد أنه حينما نحلم في لغة ما، فهذه اللغة تنتمي لنا بطريقة عميقة. إنها تنتمي للروح. وهي لم تعد فقط أداة للتواصل ولذلك دونت على شكل نقط، المحادثات التي رصعت هذا الحلم، باللغة البرتغالية. طبعا، بعد ذلك تابعت كتابة الكتاب في اللغة نفسها. هذا الأمر بدا لي طبيعيا.
أنت لست أنت في اللغة الإيطالية والبرتغالية.
لا. فأية لغة، هي أيضا طريقة وجود. إنه سياق مختلف، عالم ثقافي، تاريخ مختلف، فالذي يكتب في اللغة البرتغالية هو إذن أنا آخر alterego، وشخص آخر، فحينما نكتب في لغة أخرى، فإننا نكون أمام حكم الغيرية. في الواقع نحن متعددون.
ترجمتم العديد من القصائد من لغات مختلفة. حينما تترجمون هل تنسون الكاتب الذي أنت هو؟
نعم. ترجمت بيسوا، وإيميلي ديكنسون، وبعض قصائد رامبو لم أنشرها بعد. الكتابة ليست وظيفة، ولكنها بالتأكيد حرفة بالمفهوم الأكثر حرفية للكلمة. هناك كتاب يختلقون أسطورة الموهبة، والإلهام. وبالضبط فكل هذه الأشياء، الرغبة، والخيال هي أشياء مهمة جدا، لكن الحقيقة هي أنه يجب أن نقعد لمدة طويلة أن نكتب أن نشتغل، يجب أن نكون هنا، مثل الساعاتي الذي يصنع القطعة الصغيرة جدا في جهاز الساعة التي يصنع. دون العمل، الأدب هو…..(يصمت وبفرقعة أصابع) فحينما يطلب مني كتاب شباب بعض النصائح، أرفض أن أعطيها لهم. أو بالأحرى لن أعطيهم سوى نصيحة واحدة: إذا كان هناك نجار في حيكم، اذهبوا عنده المساء قبل أن يغلق محله وانظروا في أرض حانوته.
حينما تبدأون كتابا هل يكون لديكم مخطط مسبق؟ هل كل شيء مرتب في مخيلتكم؟
في الواقع. كل كتاب له متطلباته الخاصة. عادة ما تكون لدي فكرة غامضة عن القصة. لكنها أحيانا تتخذ طرقا غير منتظرة. تصبح الشخصيات أحيانا مستقلة عني بالمرة، لأنها في حاجة لتأكيد فرديتها. لا يمكننا أن نزعم أننا قادرون على التدجين الكلي لحيوان متوحش: لأن الكتابة حيوان متوحش. أحيانا تكون هناك شخصية نفكر في جعلها الشخصية الرئيسية، وبعد ذلك في لحظة ما، تخرج هذه الشخصية من المشهد وتدخل شخصية أخرى لتأخذ مكانها. بالطبع نضع مخططا. لكن الأمر لا يشبه ما يحصل في السينما حيث كل شيء متوقع. هنا ننطلق في مغامرة ونسافر.
كان لديكم سجال مع أمبيرتو إيكو حول دور المثقف.
لا يمكن أن نسميه سجالا. في بداية البرلسكونية، كان قد كتب في إحدى الصحف بأن المثقف يجب عليه أن يلوذ بالصمت. لأن هناك ضجيجا، أناس كثيرون يتحدثون. وأضاف بأن المثقفين متغطرسون حينما يطالبون بحقهم في معرفة ما وراء الأشياء البديهية. وكان قد استعمل هذه الاستعارة: المثقف مواطن مثله مثل الآخرين، فحينما يشب حريق في شقته، ما عليه إلا أن يطلب رجال المطافئ، مثله مثل باقي المواطنين الآخرين. أجبته بكلمتين. هو إذا شب حريق في شقتي، سأطلب بالطبع رجال المطافئ. لكن أود زيادة على ذلك أن أعرف هل الحريق نتج عن التقاء أسلاك كهربائية أو عن cocktail Molodo. وأعتقد أن هذا هو دور المثقف، أن يبحث عن معرفة أكثر مما تقوله لنا السلطة.
ما دمنا نتحدث عن دور المثقف، أليس لديكم الإحساس بأن عملكم تمت قراءته بصيغة سياسية مفرطة؟
هذا الأمر قد حصل خصوصا مع رواية Peveira Pretend فالقراءة السياسية حجبت قراءة أخرى، بالنسبة إلي أكثر أهمية: هي القراءة الوجودية لأن هذه الرواية هي رواية استبطانية لحياة ولوعي. فالظروف التاريخية تحدد قراءة بعض الكتب. فرواية Peviera Pretand كانت تتحدث عن فاشية salazar، وإذ اخترت أن أكتب هذه الرواية فلأني لا شعوريا كنت قد أحسست أن رياحا عاتية ارتفعت فوق أوروبا ذكرتني بالثلاثينيات: نزعة وطنية مفرطة، وكراهية الأجانب. والحالة هذه، أثناء ذلك الوقت، دون أن يكون هذا له علاقة بكتابي، وصل برلسكوني للسلطة، والانتقاد الأول الموجه لكتابي نشر في إحدى جرائد il Giornale تحت عنوان ‘رواية برجنيفية’ إنهم هم الذين تعرفوا على أنفسهم في روايتي وقادوا إيطاليا كلها لقراءة هذا الكتاب باعتباره رواية ضد البرلسكونية. إنه نموذج رائع لقراءة مشروطة بظروفها التاريخية. لنأخذ رواية دون كيشوت: حينما كتبها سرفانتس، كانت موجة ضد رواية المغامرات والفروسية. في عصر الأنوار، قرأها الناس بنظرة مختلفة، بعد ذلك جاءت الرومانسية، ثم التحليل النفسي، وفي كل مرة قراءة أخرى.
في رواياتك، الشخصيات الرئيسية ليست أبدا أبطالا بالمعنى القوي للكلمة.
بالفعل، لأن الشخصيات البطولية بالمعنى الرومانسي، وبالمعنى التقليدي للكلمة، تخيفني بعض الشيء. لكي تكون بطلا حقيقيا، يجب أن تكون بلا إحساس ولا ينبغي أن تخاف، وأنا أخاف من الذين لا يخافون. أنا أقصد الناس الذين يخافون. فالخوف شكل من أشكال الحكمة، الخوف إنساني.
في نهاية كتابكم، تحكي غالبا قصة هذه الشخصيات.
ليست قصتهم، أعطي فقط بعض المؤشرات، بعض الظروف لأني أود جيدا معرفة من أين يأتون، وكيف يأتون. إنه أمر غريب. فلماذا وكيف يظهر في الوعي شخص ما، مخلوق شبحي، ورويدا رويدا يكتسب تصرفا ووجها وصوتا يجتذبكم؟ في الواقع، نحس دائما أننا مذنبون في حق هؤلاء الشخصيات. نهبهم الحياة، نخرجهم وفجأة يوجدون. ثم نغلق عليهم في قفص. ونجبرهم على العيش بطريقة مؤبدة في القصة التي نخترع. إذا حكينا للقارئ كيف تولدت هذه الشخصية، فهذه هدية، نقول له: ها أنا أعطيك هذه الشخصية، افعل بها ما تشاء، يمكنك أن تتخيل لها قصة أخرى.
ترجمة عن: Le magazine lieraire
N’ 486. MAI 2009.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى