صفحات العالم

عقيدة أوباما

إيلي شلهوب
عجيب أمرك يا زمن. تقلِّب الآيات. تبدِّل المواقع. تُعيد توزيع الأدوار. العلاقات الأميركية الإيرانية تبدو نموذجاً. من كان يتصور قبل سنوات فقط أن تبلغ الأمور حداً تستجدي فيه واشنطن حواراً، تشترط طهران خريطة طريق لبلوغه؟ أن يمد العم سام يده لـ«شعب إيران وقادته»، فتطالبه الجمهورية الإسلامية بـ«أفعال لا أقوال»، تلك الجملة التي احتكرتها إدارة جورج بوش في علاقتها مع «مارقي» المنطقة.
رسالة باراك أوباما لمعايدة «العدو» الإيراني بعيد النوروز، لا شك في أنها بالغة الأهمية. أقل ما يقال فيها أنها أسقطت 4 من عناصر السياسة الخارجية التي اعتمدتها الإدارة السابقة: تغيير النظام والخيار العسكري ومقاربة العصا والجزرة وأولوية البرنامج النووي الإيراني الذي وضع في إطار «سلسلة القضايا المطروحة أمامنا»، على ما لاحظ روجر كوهين في «نيويورك تايمز».
المعنى واضح: تسليم بنظام الملالي الذي أثبت عبر التجربة أنه «عقلاني» يمارس سياساته انطلاقاً من «حساب الربح والخسارة»، وليس «مجنوناً» كما كان يُعتقد. وإقرار بلا جدوى الخيار العسكري، الذي ثبتت كلفته المرتفعة على دافع الضرائب الأميركي وعقمه في إحداث تغيير بنيوي، على ما ظهر في كل من أفغانستان والعراق. واعتراف بفشل العقوبات الدولية، رغم القرارات الأممية المتعددة، وبفشل ثنائية «الحوافز» و«العقاب». والأهم، تسليم باستحالة حل عقدة الملف النووي، إلا في إطار تسوية شاملة تطال عدداً كبيراً من الملفات العالقة بين البلدين.
بل أكثر من ذلك. جولة سريعة على حراك إدارة أوباما خلال الأسابيع الماضية تكفي لتبيان كيف أن إيران تحولت إلى حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأميركية، على غرار ما كانت عليه عملية السلام لإدارة بيل كلينتون، الذي رأى في التسوية عاملاً حاسماً في استقرار المنطقة يؤدي إلى تهميش إيران وتقوية الأنظمة الموالية وقيام «الشرق الأوسط الجديد». وما كان عليه غزو العراق بالنسبة إلى إدارة بوش، الذي رأى في استبدال نظام صدام حسين بآخر ديموقراطي سيبعث برسالة قوية إلى باقي الدول المارقة ويؤدي إلى حركة دمقرطة على طريقة أحجار الدومينو تسهّل التسوية السلمية وتقلص إمكان شن هجمات داخل الولايات المتحدة.
البداية من موسكو، التي عرضت عليها واشنطن تعليق العمل بالدرع الصاروخية في مقابل تعاونها في الملف الإيراني. وأفغانستان، التي دعت إدارة أوباما طهران إلى اجتماع إقليمي لبحث الأوضاع فيها، فيما الجيش الأميركي يقترح طريقاً لإمداد قوات الأطلسي المنتشرة هناك يمر عبر الجمهورية الإسلامية. وبغداد، حيث التعاون الإيراني عامل حاسم في توفير خروج القوات الأميركية من بلاد الرافدين. وسوريا، التي بات واضحاً أن الانفتاح الأميركي (والعربي) عليها عنوانه فك ارتباطها بطهران. وتل أبيب، حيث يبدو الملف الإيراني أحد ملفات الخلاف مع واشنطن، على ما ظهر من خلال الزيارة الأخيرة لغابي أشكينازي إلى العاصمة الأميركية. ورام الله، حيث الفيتو الأميركي على «حماس» (المدعومة من إيران) يعرقل قيام حكومة الوحدة الوطنية. وبيروت، حيث المخاوف الأميركية من فوز حزب الله (المدعوم من إيران) في الانتخابات التشريعية يفرض مراجعة للسياسة الأميركية حيال لبنان.
من هنا، يمكن المخاطرة بالافتراض أن إيران ستمثّل العمود الفقري لـ«عقيدة أوباما»، التي لم تستكمل عناصرها بعد. عقيدة تقوم على البراغماتية منهجاً ناظماً، تأخذ في الاعتبار أولوية ترتيب الوضع الاقتصادي الداخلي المنهار، وتمدد القوات المسلحة إلى حدودها القصوى وحاجتها لإعادة بناء، إضافة إلى نمو قوة الخصوم والمنافسين عبر المحيطات، والتحولات «اليسارية» التي طرأت على الحديقة الخلفية للولايات المتحدة. سياسة جديدة تعتمد الحوار أداة، والبحث عن القواسم المشتركة دليلاً هادياً، وتحييد خلافات الماضي نقطة بداية. هذا ما ظهر في مقاربة واشنطن لبكين، حيث نُحِّي ملف حقوق الإنسان جانباً، على حساب رغبة العام سام في تحفيز الصين على شراء سندات خزينته على قاعدة أن الجميع في مركب اقتصادي واحد. وفي مغازلتها لموسكو، التي دعتها إلى استئناف العلاقات من البداية، أي «من الصفر». وفي معالجتها لملف أفغانستان، حيث أعلنت رغبتها بالحوار مع معتدلي طالبان وتحفيز التنمية في هذا البلد، في إطار ترتيبات إقليمية تسهّل «الخروج»، ومساعدات اقتصادية ودبلوماسية (مع الهند) لباكستان تكفل تعاونها. وفي فلسطين، عبر استكمال مسيرة أنابوليس.
مقاربة لا بد من الإقرار بأن بذورها الأولى زرعتها الإدارة الثانية لجورج بوش بمعية ثنائي رايس ـــــ غيتس، الذي انقلب على ثنائي تشيني ـــــ رامسفيلد. ففي الولاية الثانية لهذه الإدارة جرت المفاوضات الثنائية مع كوريا الشمالية، وأول حوار علني مع إيران (ولو في إطار متعدد الأطراف)، كذلك أقر مبدأ الانسحاب من العراق مع موعد (الاتفاقية الأمنية السيئة الذكر)، وعقد مؤتمر أنابوليس، وذلك بعد التخلي عن فكرة نشر الديموقراطية في العالم العربي.
غير أنها مقاربة أخذت مداها الأقصى، مع تغيير في وجهتها، في عهد أوباما، الذي يبدو واضحاً أنه يسعى إلى التهدئة على جميع الجبهات. يحاول بناء نظم إقليمية لإدارة الأزمات واحتواء «المارقين»، لا القضاء عليهم على غرار ما حاول سلفه، وذلك عبر تسويات وترتيبات متعددة الأطراف تحول دون انتقال المخاطر إلى الداخل الأميركي وتتيح للعام سام الفرصة لإعادة البناء.
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى