صفحات من مدونات سورية

مزرعة الحيوان – جورج أورويل

لجورج أورويل (1903- 1950) بصمةٌ و تاريخ في أدب القرن العشرين لا يمكن تجاهله مثلما يصعب تصنيفه كأديب, فهو كاتب المقالة و البحث و الرواية في قضايا الاستبداد و التحكّم بالشعوب و تسييرها بتزامن مع أزمنة سوداء في أوروبا و العالم و هي حقبة ظهور النزعات القومية و الحروب الأهلية الأوربية, مروراً بالحرب العالمية الأولى و ظهور الديكتاتوريات الأوربية الكبرى, المختلفة المشارب الفكرية و المتشابهة في ممارساتها القمعية, نهايةً بالحرب العالمية الثانية و سقوط بعض هذه الديكتاتوريات على حساب توطيد ديكتاتوريات أخرى, و أعتقد أن اختصار نتاج أورويل الواسع في أنه “أدب سياسي” هو رأيٌ كسول بتعبيره, فتوصيفه للديكتاتور و نظامه و أسلوبه, الرمزي منه و الصريح, يتجاوز السياسة البحتة ليمر في كافة مجالات العلوم الإنسانية من فلسفة و علم نفس و علم اجتماع, و يعبّر عن موقف إنساني عنيد و صلب ضد التيارات التي تدعم أو تبرر أو تتفهم الاستبداد و القمع, و المحيطة به من جميع الجهات, و قد يكون من الممكن اعتبار نتاجه البحثي و الصحفي مظلوماً على حساب رواياته التي أصبحت عناويناً كلاسيكية في الأدب العالمي, و بالأخص روايتيه الأخيرتين (مزرعة الحيوان المنشورة عام 1945 و هي مجال حديثنا اليوم و 1984 المنشورة عام 1949, و التي سبق لي الحديث عنها في مقال قديم), رغم أنني لا أعتقد ذلك لأن رواياته هي خلاصة حياة مسخّرة للوقوف ضد الطغيان و الظلم, و كاتبها أرادها كذلك.
مزرعة الحيوان رواية يمكن اعتبارها ساخرة بقدر ما هي عميقة في رمزيتها, تدور أحداثها في مزرعة إنكليزية عندما تثور الحيوانات ضد قسوة صاحب المزرعة و رجاله متأثرة بأفكار خنزيرٍ عجوزٍ روى لجميع الحيوانات أحلامه بحيوانات متحرّرة من تسلّط و استغلال الإنسان لها قبل أن يموت, و تنجح الحيوانات في طرد البشر من المزرعة و يقيمون لأنفسهم نظاماً حيوانياً برموزه و أعلامه و مبادئه الثابتة الخاصة باحترام الحيوانات و حقوقها و حريتها, و سرعان ما تبرز الخنازير كقائدة لهذه المزرعة بسبب الإرث الطبيعي للخنزير العجوز صاحب الأفكار التحررية الحيوانية و أيضاً بسبب نسبة ذكائها الأعلى بكثير من ذكاء باقي الحيوانات التي رضيت بهذه القيادة و آمنت بحكمتها و وثقت بقراراتها, و مشت الأمور بشكل ممتاز و جميل برهةً من الزمن إلى أن نشب خلاف بين أبرز خنزيرين في المزرعة انتهى بطرد أحدهما من المزرعة و اعتباره خائناً للقضية الحيوانية و موالياً لأعدائها و تنصيب الآخر حاكماً مطلقاً على المزرعة, و يبدأ عندها تحوّل المزرعة من الجنّة الموعودة للحيوانات الحرّة إلى نظام ديكتاتوري قمعي بقيادة الخنازير التي بدأت تستحوذ على امتيازات كبيرة في جميع المجالات و باستخدام الكلاب كقوّة قمعية ضاربة.
أبدع أورويل في وصف طريقة تحوّل المزرعة إلى الديكتاتورية الخنزيرية, خصوصاً في تصويره الرمزي لدور البروباغندا التي استخدمها الخنازير لإقناع الحيوانات الأخرى بأن الأمور تتطوّر كل يومٍ أفضل من اليوم السابق, و تزوير الأحداث و التلاعب بالذاكرة و تغلغل الحيرة في عقول الحيوانات التي تجعل كلّ واحدٍ منها يشك بنفسه و بعقله قبل أن يشك بحكمة الخنزير الكبير و صواب قراراته.
بطبيعة الحال لم يخترع أورويل أسلوب استخدام الحيوانات الرمزي في الرواية, فهذا الأسلوب قديم ربما كقدم فن الرواية بحد ذاته, لكنه نجح في تسخير هذا الأسلوب لقلمه و أفلح في نسج نص روائي بسيط بسرده و عميق بأفكاره, بلغة شيّقة و ممتعة في جميع مراحلها, و بالطبع مع نهاية رائعة جداً.
عانى أورويل الكثير من الصعوبات في محاولته نشر هذه الرواية, فعلاقة الحلفاء المتوتّرة بين بريطانيا و الاتحاد السوفيتي عند نهاية الحرب العالمية الثانية جعلت وزارة الإعلام البريطانية (في تلك الحقبة كان هناك وزارة إعلام في بريطانيا) “تنصح” دور النشر بعدم التورّط في هذا الاستفزاز للنظام السوفيتي, و في دراسة نقدية حول هذه الرواية قرأتها منذ مدّة وجدت رسالة من مسؤول إحدى دور النشر إلى أورويل يطلب منه تعديل بعض الأمور في الرواية كي يستطيع نشرها له, مثل ألا تكون الخنازير هي الطبقة الحاكمة للمزرعة, و هو طلب قوبل بالرفض من قبل أورويل الذي نجح في نشر الرواية في النهاية دون تعديلات.
لا يمكن الحديث عن هذه الرواية دون المرور بتوجّهها النقدي المباشر للاتحاد السوفيتي و النظام الستاليني القمعي, و من السهل بمكان على أي عارفٍ بتاريخ الاتحاد السوفيتي أن يجد أن شخصيات الرواية مرادفة للشخصيات القيادية في الاتحاد السوفيتي, لكنها برأيي رواية تصلح لكل الأنظمة الشمولية و القمعية, إن كانت ضمن دول أو حتى عابرة للدول و القارات. فأغلب (إن لم نقل جميع) الثورات على مرّ التاريخ قامت كفورة شعبية ضد الظلم و الطغيان و الفقر, و بآلية معيّنة, تكاد تكون موحّدة تاريخياً و عالمياً, تظهر قوى مستبدة و تنجح باختطاف أحلام الشعوب و تطلعاتها و تحوّلها إلى أداة و سلاح فعّال و مفيد في تطويع هذه الشعوب و قمعها.. و تدور الحكاية..
حديقة الحيوان و 1984 هما, كما قلنا, خلاصة حياة أورويل, و قد كتبهما بعد معرفته بإصابته بالسل, هذا المرض الذي سينهي حياته بعد نشر روايته الأخيرة بسنة و بضعة أشهر عن عمر لم يصل إلى الـ 47 عاماً, و سيرة حياة أورويل هي قصّة نضالٍ فكري محموم من أجل زرع مبادئ الحرية و الإنسانية في وجه السلطة, قصة رجلٍ سبح ضد كل الأمواج و عانى عداء و تجاهل أغلبية الطبقة المثقفة في عصره, المتوزّعة بين الماركسية العاشقة للعملاق السوفيتي و بين اليمين الليبرالي أو المحافظ البريطاني, و هناك جزئية تنال إعجابي بشدة في سيرة حياته و هي الخاصة بسجالاته العميقة و علاقته العدائية مع الماركسيين البريطانيين رغم كونه يسارياً و اشتراكياً مرّاً.. فأورويل كان ضد الطغيان, أي طغيان.. بل أنه ربما يعادي الطغيان المستند على فكره و انتماءه السياسي أكثر من غيره, و ليس فقط الانتماء السياسي بل و الوطني حتى, ففي بداية حياته عمل موظفاً لدى الجيش البريطاني في إحدى المستعمرات إلا أنه استقال بعد أعوام قليلة و قضى فترة زمنية طويلة بعدها ينتقد التوجّه الاستعماري البريطاني بشراسة بدت و كأنها تكفيرٌ عن عمله لدى الجيش البريطاني في سنين يفاعته و شبابه الأول.
وضع أورويل في أعماله الكثير من المصطلحات التي ما زالت تستخدم إلى اليوم مثل “الأخ الأكبر” أو “التفكير المزدوج”.. و لعلّ من انتكاسات الإنسانية الكبرى أنه رغم انقراض و عدم صلاحية الكثير من المصطلحات و المفاهيم التي كانت سائدة منذ عشرين عاماً فقط في مجالات أخرى من الحياة مثل العلوم و التكنولوجيا إلا أن المصطلحات الأوريلية الخاصة بالاستبداد و الظلم و الطغيان ما زالت سارية المفعول.. بل ينبغي علينا جلب مصطلحات جديدة نظراً لتطوّر هذا المجال… بدل انقراضه و ضياعه في أوراق التاريخ الغابر.

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى