سلامة كيلةصفحات مختارة

تحولات نهاية القرن: نقد لينين، لكن ماذا قال لينين؟

سلامة كيلة
انبنى تصور ماركس لتحقيق الاشتراكية على مسار تطور أوربا، التي قد كانت بدأت تتحول إلى النمط الصناعي، أي الرأسمالية. لهذا لمس مرتكزات تحققها عبر سيادة الصناعة كوسيلة للإنتاج (طبعا على حساب الزراعة) وتملُّكها من قبل قلة (هم الرأسماليون)، وبالتالي تحول أغلبية الشعب إلى طبقة عاملة ما دامت الصناعة غدت هي المسيطرة (وبالتالي تهميش الزراعة، وإشغال الفئات الوسطى). ولهذا أصبحت هذه العناصر هي «الأرضية» الضرورية لتحقق الاشتراكية. وكان تحققها يفترض انتصار الرأسمالية انتصاراً ساحقاً، حيث يحل التناقض الجوهري بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، أو بين الشكل الخاص لتملك قوى الإنتاج والشكل الاجتماعي للعمل، عبر إسقاط الأغلبية (التي هي الطبقة العاملة) للأقلية (التي هي البرجوازية). هذا هو الشكل النمطي لتحقق الاشتراكية، هو «المثال» لتحققها. ولقد كان هذا «المثال» يخفي بعض آراء ماركس الأخرى، التي كانت «ملهم» لينين. حيث إن ماركس خالف هذا «الشكل النمطي» حينما ألقى على عاتق «الحزب الشيوعي الألماني» سنة 1850 مهمة تحقيق تطور ألمانيا: الإقطاعية (اقتصادياً)،المفككة (سياسياً). والمتخلفة (حضارياً). وكان يعي أنه يحقق ما لا تريد البرجوازية الألمانية المترددة الجبانة (وهي نفس تعبيرات لينين) تحقيقه، نتيجة تداخلها (وارتباطها) مع الإقطاع الذي كان ما زال يهيمن، ويفرض التجزئة السياسية.
لينين أمسك بهذا المخفي، حيث بدا له ـ عبر التحليل المشخص للواقع المشخص ـ بأنه رغم تطور الرأسمالية في روسيا (وهو عنوان كتاب له)، فإن البرجوازية مترددة وجبانة نتيجة ارتباطاتها مع الإقطاع (والنظام القيصري كذلك)، ولهذا فهي غير معنية بتحقيق «ثورتها الديموقراطية». إذاً سيبدو التطور محتجزاً، ولا أفق له، إذا ما «التزمنا» تصور ماركس لتحقيق الاشتراكية، وستعود الاشتراكية «يوتوبيا». الفكرة الأولى للينين كمنت هنا، فقد توصل عبر «التحليل المشخص للواقع» (وهذه فكرة منهجية ركز عليها لينين منذ عام 1893) إلى أن تطور الرأسمالية الروسية لا يوصل إلى تحقيق الثورة الديموقراطية، وكان يحاجج منذ سنة 1897 حول ذلك، وأعاد توضيحه في كتابه «خطتا الاشتراكية الديموقراطية في الثورة الديموقراطية» سنة 1905، انطلاقاً من ملاحظته لذاك «التداخل»، أو «الترابط»، بين الإقطاع (أي كبار الملاك) والبرجوازية، فهل كان مخطئاً؟
إن مسار تطور روسيا مذّاك إلى سنة 1917 كان يوضح هذه المسألة، حيث بدا الترابط بين البرجوازية (التي من المفترض أنها معنية بالثورة الديموقراطية) والنظام القيصري (الإقطاع) وثيقاً. حتى حينما تحققت ثورة شباط سنة 1917 لم تتقدم الفئات التي وصلت إلى السلطة (والتي من المفترض أنها تمثل البرجوازية) خطوة نحو تحقيق الأهداف الديموقراطية، وجوهرها حل مسألة الأرض وبالتالي إزالة الإقطاع، والميل نحو التصنيع، إضافة إلى حل المسألة القومية، ووقف الحرب..إلخ. ولهذا ظلت فكرة لينين الثانية حيوية، وأقصد فكرة أن تلعب «الطبقة العاملة» دور القائد للثورة الديموقراطية. ولهذا انتصرت ثورة أكتوبر.
لكن هذا التحليل الخاص بالوضع الروسي، والمتعلق باحتجاز التطور الرأسمالي، ارتكز على تحليل معمّق لطبيعة النمط الرأسمالي توضّح في كتاب «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، وأعتقد أن في هذا الكتاب بداية تلمس فهم عميق لطبيعة هذا النمط، بغض النظر عن كل الملاحظات التي يمكن إيرادها، حيث ستبدو فكرة التمركز المفضي إلى الاحتكار على الصعيد العالمي، ومن ثمَّ سيطرة دول رأسمالية وتقاسمها العالم (أي الأسواق)، مفتاحاً لفهم إشكالية احتجاز التطور هذا. وهنا يجب أن يكون منطلق البحث، ليس في فهم النمط الرأسمالي فقط، بل فهم اللاتكافؤ الذي يسكنه، وبالتالي «قدرية» انقسامه إلى أمم صناعية وأخرى زراعية (أي متخلفة)، وهو الأمر الذي يطرح السؤال عن أفق التطور ذاته، الذي يفرض تحقق الفكرة ونفيها في الوقت ذاته.
وهذه هي فكرة لينين الثانية، حيث ستبدو الطبقة العاملة (أو يمكن القول الخيار الماركسي المستند إلى الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء) محقِّقة لثورة هي برجوازية الطابع حسب ما كان يشير لينين. بمعنى أن الطبقة العاملة تنتج هنا الطبقة العاملة ذاتها، قبل أن تحقق حلمها، لأنها تعمل أولاً على بناء وسيلة الإنتاج الحديثة، أي الصناعة. كما تعمل على تهيئة كل الظروف الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية التي تسهم في ذلك. سيبدو الأمر غريباً، حيث كيف أن طبقة «تخلق» ذاتها قبل أن «تعمل لذاتها»؟ لكن نشوء الرأسمالية الأوروبية، والطابع العالمي للنمط الرأسمالي أفضيا إلى نشوء «برجوازية» في الأطراف، وكذلك نشوء طبقة عاملة، رغم أن كل ذلك تحقق في حضن الإقطاع المسيطر وبالتوافق معه وليس ضده كما حدث في أوروبا. لهذا نشأت الطبقة العاملة في روسيا، وأصبحت جزءاً من الصراع الطبقي. وبالتالي أصبح لها مطامحها ودورها، ومهماتها. هذا ما التقطه لينين (وقبله ماركس في ما يتعلق بألمانيا)، وأسس عليه فكرته تلك. حيث يتحول هذا الوجود الأولي إلى قوة تغيير هائلة، عبر الماركسية والحزب الماركسي، لكن ليس حين تهدف إلى تحقيق الاشتراكية (كما أشار ماركس)، ولا حين تهدف إلى دعم التطور الرأسمالي (كما كان قد تبلور في إطارات الأممية الثانية)، بل حين تقوم بخطوة مركبة لثورة متداخلة المهمات. لهذا سنلحظ أن لينين، في ذكرى ثورة أكتوبر الثالثة والرابعة والخامسة، يصر على أن ما يفعله البلاشفة هو تحقيق المهمات الديموقراطية بالذات.
إذا كان النقد الراهن يطال هذه المسألة، ويلقي اللوم عليها في الوصول إلى النهاية «المأساوية»، فإن السؤال الذي يجب أن يطرح هنا (وهو سؤال فلسفي بالأساس) يتمثل في كيف تحولت هذه الفكرة إلى واقع؟ بمعنى هل يمكن لفكرة أن تتحول إلى واقع دون أن تكون فكرة واقعية؟ أي دون أن تكون فكرة يتطلبها الواقع؟ ويفرضها كذلك؟ أي يوجد كل الممكنات التي تفضي إلى تحقيقها؟ من هذه الزاوية سيبدو النقد الموجه إلى لينين هشاً , فقد تناول الإرادة (إرادوية لينين) دون ارتباط بالواقع، وممكنات الواقع، وبالتالي بما يمكن أن تضيفه الإرادة إلى الواقع (الموضوع)، وحدودها في العلاقة معه. وهنا ستبدو فكرة لينين ممكنة، وضرورية كذلك، ولهذا انتصرت. لكن سيبدو الاختلاف واضحاً حين النظر إلى الزاوية التي يقوم الانتقاد على أساسها: هل ننتقد انطلاقاً من المثال الاشتراكي أم ننتقد انطلاقاً من صيرورة الواقع ذاته، وبالتالي المهمات التي يطرحها؟ هل ننطلق في دراسة الواقع من صيرورته ذاتها، أم ننطلق من فكرة «مستقبلية»؟ وسنلحظ على ضوء ذلك، أن الإشكالية تكمن في «منطقنا» وفي استيعابنا الماركسية ذاتها، حيث ستتعلق المسألة بطبيعة فهم الواقع، هل هو تركيب معقد له صيرورته التي يمكن أن نعطيها نحن صيغة ما متسقة، أم أنه تركيب بسيط ذو حركة خطية؟ البساطة والتعقيد هما الفارق بين نظرتين، إحداهما «قياسية»، حسية مسطحة (ولا أقول أرسطية لأنها تتحول حالئذ إلى نظرة فلسفية) والثانية جدلية مادية. يقبع في أساس الأولى تصور نسب إلى ماركس (قال به ماركس لكن لم يجزم بأنه الوحيد)، يؤكد على ضرورة (وهنا الضرورة جبرية) الانتقال من نمط إلى آخر، أي من المشاع إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية… ثم إلى الاشتراكية. إنها «صيرورة» (أضعها بين مزدوجين لأنها تبدو كصيرورة «واقعية») ضرورية، وحتمية، تمر بها كل المجتمعات! وربما كان الاختلاف هو في تعبير «كل المجتمعات» هذا (إضافة إلى اختلافات أخرى ليس هنا مجال سردها)، لأن الطابع المعقد للواقع ينفي هذه الضرورة وتلك الحتمية، حيث ينفي الواقع ذاته ذاته، فلا يكرر ما هو قائم فعلاً، بل يطرح ممكنات تجاوزه، أو يفتح أفق دماره.
ولهذا استحال منذ أن انتصرت الرأسمالية وتحولت إلى نظام عالمي بحدود نهاية القرن التاسع عشر (وهي اللحظة الأخيرة التي استطاعت اليابان الهروب منها إلى الحداثة والرأسمالية)، استحال أن تتطور رأسمالية في أي مكان في العالم إلا بإرادة المراكز ذاتها.
وربما كنا نلمس هذه المسألة اليوم، أي بعد أكثر من قرن من تشكل النمط الرأسمالي العالمي، لنلحظ أن الرسملة التي تعني تحقيق المهمات الديموقراطية (أي التصنيع والتحديث) لم تتحقق إلا في الأمم التي انتصرت فيها الاشتراكية (باستثناء النمور كما أسلفت). ولهذا ليس حتمياً أن تكون الرأسمالية هي المآل الطبيعي للإقطاع، ولا الاشتراكية هي المآل الطبيعي للرأسمالية، بل إن الحتمي (أو لأقل الضروري) هو الانتقال من الزراعة كوسيلة إنتاج إلى الصناعة كوسيلة إنتاج. ولقد حققت البرجوازية ذلك عبر «الطريق» الذي غدا كلاسيكياً. لكنها منعت تحققه بعد انتصارها، عبر الاستعمار أولاً (وبالتالي عبر العنف) ثم عبر الشروط التي أوجدتها (الشروط الاقتصادية / السياسية) والتي جعلت «الحركة الموضوعية» لرأس المال في الأطراف تنزع إلى القطاع الثالث (أي التجارة / الخدمات / المال) لأنه القطاع الأكثر ربحية والأكثر أمناً.
هل تغير الوضع منذ لينين؟ بمعنى هل أصبح التطور الرأسمالي ممكناً؟ نقاد لينين ينطلقون من «بديهية» التطور الرأسمالي، وبالتالي ضرورته، بل حتميته، ولهذا فإن أي خيار آخر هو «حرف لمسار التطور» عبر «إرادوية» فظة (حتى تجربة رأسمالية الدولة تصنف في هذا السياق، بعد أن توضع في إطار التجارب الاشتراكية). لكن ألا يستلزم ذلك تحليل النمط الرأسمالي العالمي، وتحديد إمكانات حركته الداخلية، حركته الاقتصادية بالاستناد إلى قوانين الرأسمالية الأساسية، وحركته المتعلقة بالتناقضات الطبقية و«القومية»، وحركته المتعلقة بالسيطرة السياسية كذلك؟ حيث إن كل ذلك هو الذي يحدد الممكنات: ممكنات الاشتراكية في المراكز، وممكنات التطور (الرأسمالي أو غيره) في الأطراف.
ورغم كل التطور الذي تحقق منذ بداية القرن العشرين، وتعمق التمركز والتركز الرأسماليين، بتشكل الشركات الاحتكارية متعددة القومية، وتعمق اللاتكافؤ في التكوين الاقتصادي (صناعة / غير صناعة، وأغنياء/ فقراء، وتقدم/ تخلف…) فإن النمط الرأسمالي بعالميته ما زال يقوم على مبدأ إعادة إنتاج تكوينه، القائم على أساس وجود أمم صناعية/ أمم «زراعية» (أو مهمشة)، لأنه أساس وجوده كنمط عالمي. وبهذا لم تشر تجربة القرن العشرين إلى إمكانات التطور الرأسمالي (رغم ترسمل العالم كله)، ولم يصبح ممكناً الإجابة بالإيجاب عن السؤال السابق الذكر، رغم كل «الأوهام» التي تثيرها تجربة معينة في لحظة محددة، مثل تجربة المكسيك في الستينيات، والبرازيل في السبعينيات، والنمور الآسيوية في الثمانينيات، والتي اعتبرت، كلها، كمعجزات. وربما كان اعتبارها معجزة هو الدليل (لدى الذين أسموها كذلك) على أن استحالة التطور الرأسمالي هو القانون، وأن تحققه يشير إلى تحقق معجزة ما، رغم أن كل هذه التجارب شهدت نهاية مفجعة، أكدت أن المعجزة هي فكرة ميتافيزيقية، وأن الركض وراء المعجزات هو تعبير عن استمرار تحكم الميتافيزيقيا في «عقول» الماركسيين، الذين يهربون من وعي الواقع ووعي ممكناته إلى البحث عن «معجزة» تحقق لهم حلماً رأسمالياً، ورأسمالياً بالتحديد. وهو ما يوضح بأن الإرادوية تقبع هنا وليس في أي مكان آخر، حيث يجب على التاريخ أن يسير من الإقطاع إلى الرأسمالية حتماً وجبراً. وهو ما يوضح كذلك مدى تحكم الميتافيزيقا والمنطق الميتافيزيقي.
إن تحليل آليات النمط الرأسمالي في اللحظة الراهنة (أي في الزمن الذي بات يسمى زمن العولمة) يقود إلى استنتاج عام يتمثل في استحالة التطور الرأسمالي، وهذا ما يعطي فكرة لينين ألقها. رغم أنه يجب علينا أن لا نعتبرها ـ كما هي ـ الفكرة الصحيحة، بل إنها كانت مدخل رؤية لتطور أمم كانت تنزع للترسمل عبر التصنيع والتحديث. وبالتالي يجب أن نعيد إنتاجها (خصوصاً بعد انهيار النظم الاشتراكية، وعلى ضوء كل التطور في النمط الرأسمالي «العالمي»)، انطلاقاً من استحالة التطور الرأسمالي، وبالتالي من الطابع المركب للتطور، ومن دور الماركسيين (الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء) في تحقيق المهمات التي ما زالت ديموقراطية، رغم كل الرسملة المتحققة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى