صالح ديابصفحات الحوار

صالح دياب: أريد أن أروي حياتي كما هي في الشعر

null
بيروت – حسين بن حمزة: كتب الشاعر السوري صالح دياب قصيدة مقطرة وذات عناية مشددة بالصورة والكثافة والاقتضاب، وتجلى ذلك في باكورته “قمر يابس يعتني بحياتي” (1998)، ثم خطا خطوة أولى نحو التخفف من الصورة لصالح جملة أكثر راحة وسيولة في مجموعته الثانية “صيف يوناني” (2007)، وها هو يغامر بكتابة قصيدة تضخ الدم في اليوميات العادية التي وقعت له، مراهناً على أن الشعر يمكن أن ينبثق من الوقائعي الشخصي الذي ينقلب إلى ما هو شعري حميمي فوق واقعي في النهاية. في مجموعته الجديدة “ترسلين سكيناً أرسل خنجراً”، أدار دياب ظهره لكل التقنيات الأسلوبية والاستعارية التي جعلت قصيدته لا تشبه حياته بحسب تعبيره، واقترب من عالم شعري أرحب ولكنه يتطلب جهداً من نوع آخر لكتابة القصيدة.
عاش صالح دياب سبع سنوات في بيروت، قبل أن يتجه إلى باريس حيث يقيم حالياً. إضافة إلى الشعر، أنجز دياب أنطولوجيا الشعر السوري وصدرت بعنوان “نوارس سوداء” ضمن فعاليات ومنشورات الجزائر عاصمة ثقافية 2007. كما نشر بالفرنسية كتاب “وعاء الآلام/ مقاربة لحضور الجسد في شعر المرأة العربية”، إضافة إلى بعض الترجمات الشعرية:
* بدايتك كانت مع ملتقى جامعة حلب مع مجموعة أسماء صارت جزءاً أساسياً في ثمانينات وتسعينات الشعر السوري. ما الذي بقي من روح هذه التجربة ؟ وهل لا تزال تعني لك نوعاً من الولادة ؟
– شكل الملتقى الأدبي لجامعة حلب مختبرا تجريبيا للكتابة الشعرية الجديدة في سوريا. أعتقد أن روح الملتقى الأدبي كانت تكمن في الإعلاء من قيمة الشعر الحقيقي وهي كانت بالنسبة لي نوعا من الولادة، لكن هذه الولادة تبعتها ولادات كثيرة بالطبع. لكن هذه الولادة ذات خصوصية. وقد نقلتني سريعا إلى مطارح شعرية، على الصعيد النظري، لم أكن لأذهب إليها بهذه السرعة. اذ قرأت شعراء كنت سأتأخر في قراءاتهم ربما. في الملتقى كان كل شاعر شاعراً حتى في بداياته. أحسب أنه ليس هناك بدايات فمن اللحظة التي يدخل شخص معترك الكتابة عليه أن يكون عارفا وملما بعالم الكتابة نفسه، ليس على الصعيد النقدي بل على صعيد القراءة وأن يكون عارفا بأدواتها.عليه أن يسعى إلى صوغ صوته الخاص ضمن عجقة الأصوات. لا يوجد كلمة مبتدئ هنا. الملتقى أفرز معلمين لكل بصمته الخاصة: حسين بن حمزة، عمر قدور، لقمان ديركي، عبد اللطيف خطاب، محمد فؤاد وحتى بعض قصائد بسام حسين الذي لم يصدر كتابا بعد. وعبد السلام حلوم .
كان هناك معلمون في الصنعة الشعرية. حتى لو كانوا في سنتهم الجامعية الأولى. لا علاقة للأمر بإصدار مجموعة شعرية أولى ولا بالفترة الزمنية التي بدأنا الكتابة عندها. لم يحدث في تاريخ الشعر السوري أن اجتمع هذا العدد من الشعراء حول فكرة الشعر وتعلقوا بها. لم تكن هناك كنيسة شعرية بهذا المعنى لكن كان هناك نوع من هذا. شكل هذا الملتقى تيارا شعريا في سوريا. التيار الأكثر طليعية. الأسماء التي برزت في مدن أخرى كانت تقلد أدونيس . كأنما إذا كان شاعر كبير ينتمي إلى طائفتك عليك ان تقلده وتتخذه دليلا . لم يحدث هذا مع شعراء الملتقى . كان أفقهم الفني واسعا. لم تكن هناك أصوات ذات خصوصية في لغتها خارج الملتقى . الشعر في الملتقى كان يمر كحدث كبير للمرة الأولى في تاريخ سوريا. بين زحمة الأعياد الرسمية الاستعراضية التي تمجد الحاكم. يعني لي الملتقى الكثير. ما اقترحه الملتقى على صعيد علاقة الشاعر باللغة فضلا عن النقاشات التي كانت تدور وتشكل أسئلة فنية أساسية لا علاقة لها بالزمن وهي ما تزال طازجة والعالم باق. أجد أن اقتراحات الملتقى الفنية مازالت باقية وحية في ّ. فالأسئلة التي طرحها ما زال الشعر العربي يطرحها اليوم.

* هل ترى أن البدايات مع مجموعة أو تيار أو اتجاه شعري هو أمر مفيد
للشاعر عموماً . هل يعطيه ذلك حضوراً أو دفعاً إضافياً ؟
– لا أعتقد أن أحدا يمكن أن يبدأ بداية فعلية عبر تيار أو اتجاه شعري عموما. الأغلب أن يكون الكاتب قد سبق وكتب وقرأ وهضم المنجز في الصنف الأدبي الذي يكتب به. من لم يتحمس للغة خاصة به لن ينفع معه أن يكون في مجموعة. الموهبة وحدها لا تكفي . ظروف المكان والزمان أحيانا تلعب دورا في أن يجتمع عدد من الكتاب. التجمعات لها مستوياتها أيضا. كأن تكون هناك تجمعات لكتاب بريد القراء لم لا .التشابه أمر خطير. مشكلة المجموعة هي الانغلاق وعدم قبول الرأي الآخر. تساهم التيارات الشعرية في الحماس للشعر وغيره. وفي المنافسة أيضا. لكن الشعر قبل كل شيء شأن حميمي في جذره . هو ليس ماراثوناً. إنه يأنف ان يكون سباقاً. أن تكون بين شعراء لا يعني أنك بين عدائين. من الرضا أن تشعر بأن هناك من يستمع إليك. من ينصت لك و يناقشك فيما كتبته. وأن ما تحمله بين دفتي روحك يمكن أن يلقى آذانا صاغية. الانغلاق الذي يمكن أن يقع فيه التيار أو الاتجاه أو التجمع الأدبي هو عدم قبول الآخر. والوقوع في أسر النموذج. الذي ينبغي الاشتغال على منواله والسير نحوه . كنت قد نشرت كتابا أولاً، وقد لاقى ردود فعل ايجابية . كما بدأت الكتابة في الصحف اللبنانية المعروفة لكن البعض لم يكن ليذكرني عندما يتحدث عن الملتقى. كأنما مجرد ذكر اسمي سيقلل من حضوره. كما لو أن عدد من الأشخاص استقلوا باخرة ولا يريدون لأحد أن يصعد معهم إلى الضفة الأخرى. أتذكر أنك الوحيد الذي قبل قصائدي ووضعها في ملفين عن الشعر السوري الحديث. الآخرون تجاهلوا ذكر اسمي في الحوارات التي كانت تتم معهم. هناك ألوان شعرية كثيرة في الحياة وعلينا قبول ذلك. ثمة من يأتي بعدنا وربما يكون أكثر خصوصية وأهمية منا. لِمَ لا. علينا قبول ذلك. التجمعات الأدبية قد تتحول إلى نوع من الحزب وتنغلق على نفسها. أنا مع الصداقة الأدبية التي ترتكز على النوعية وعمق التجربة الشعرية ووضوحها. على مشتركات لا نهاية لها تنبع ليس من الشعر فحسب بل من الشخصية ذاتها. هي ما أحبذه. عندما لا تعود هناك صداقة لن يتغير في الأمر شيئ إطلاقا. عندما أتذكر الملتقى أو أي أحد منه يخفق قلبي بشدة. لكن إلى حد معين. ولن يغير هذا الخفقان أي شيء في الحياة إلا الغياب التام. الملتقيات قد تعطي دفعا ما ولكن ليس إلى ما لا نهاية. تعلمت أن الحضور يتأتى من تلك العلاقة مع الذات، و الحوار الدائم مع الأنا. لكل شاعر طريق وحيد ولا يوجد تواءم على طريق شعري واحد. يوجد لكل شاعر طريق خاص به.

* كتبت قصيدة تعتمد بشكل أساسي على كثافة الصور والاستعارات، وظهر ذلك بوضوح في مجموعتك الأولى “قمر يابس يعتني بحياتي”، ثم تخففت قليلاً في مجموعتك الثانية “صيف يوناني”، ومؤخراً صدرت لك مجموعة ثالثة “ترسلين سكيناً أرسل خنجراً”، تدير فيها ظهرك لكل ممارستك السابقة لصالح قصيدة مسترسلة وغير عابئة باصطياد الصور طوال الوقت. لماذا حدث ذلك؟
– كتابي الأول كتبته تحت سطوة النقاشات التي كانت تدور في الملتقى أو في “مقهى القصر” في حلب. كنت قد أحببت شعراء السبعينات في سوريا، لكنني لم أنشر أي قصيدة من القصائد التي تتقاطع فنيا معهم. سريعا وجدتني في منطقة أخرى. منطقة تأخذ الاستعارات والصور أهمية مركزية فيها مع الحفاظ على أهمية البناء المعماري الفني من جهة وصوغ عالم في كل قصيدة من جهة أخرى. كانت الاستعارات ككثافات نفسية مقطرة تختزل كثافات حياتية ووقائع شخصية عشتها في حلب. كنت مأخوذا بالقراءات والتنظيرات المبتورة التي تريد أن تحجّم الشاعر وتجعله يتبع قواعد معينة للكتابة الشعرية كالمقولات الثلاثة عن القصيدة النثرية، فضلا عن القول بعدم علاقة الشعر بالواقع مباشرة. أفكار هي نتيجة قراءات سلبتني إن لم نقل سلبتنا رؤيتنا لحركية الشعر وحركة الحياة التي توازيه بما فيها الحياة الشخصية التي كنا نتغنى بها و لا نكتبها. أفكار كان لها قوة و سلطة علي . كنت أرغب القول بأنني موجود.
في كتاب “صيف يوناني” و جدتني أدخل النثر أكثر فأكثر من دون أن أتركه يذهب بعيدا في الشعر . كنت أريد أن أثبت الأسى و الشجن الداخلي عبر لغة تتصف بالحركية وتحافظ على قدر كبير من العناية بالصورة الشعرية التي تنبثق وتتحقق من خلال المعطيات البيئية التي أحاطت بي أثناء كتابة القصائد ، أقصد بذلك الفضاء اليوناني. كانت القصائد تتقمص حركتي النفسية في ذلك الوقت . كنت أكتب القصيدة و أشتغلها جملة جملة و أعود كل مرة ، و مازلت أحتفظ بدفتر المسودات حيث كل قصيدة مرت بمراحل عديدة ، تحيل على الصوغ و البناء و قلق ولادات هذه القصائد . كنت أقرأ سيفيريس وأعيد قراءته وأقرأ بول تسيلان وريتسوس وبترجماتهم الفرنسية. وجدتني أعطي النثر مكانا أكبر و أحاول الخروج من أسر الصورة الشعرية، ومن دون أن أتخلى مباشرة عنها. على الصعيد الحياتي كنت أحب فتاة تونسية. كان ثمة سعي للمحافظة على الشفافية اللغوية، و توسل أن يشف النص من دون أن يقول مباشرة . كنت أن أريد أن آخذ الواقعي و أحوله إلى سحري رغم أن أدواته واقعية فلا يعود واقعيا . شأن الساحر تماما . التحول الذي أدى إلى تخففي من الاستعارات جاء بعد أن تركتني حبيبتي العربية وأصبحت عاطفيا ضمن عالم آخر. لم يعد عندي رابط عاطفي في فرنسا بما هو عربي. هذا من جهة من جهة أخرى بدأت أقرأ بكثافة الشعر الأجنبي المترجم للغة الفرنسية الأمريكي والاسباني والايطالي إلخ. لم أعد أحب الشعر الفرنسي وخصوصا الشعر الذي يعتمد على التجريب اللغوي وهو الشأن الأعم. صرت أحب القصائد التي تروي والتي تخاطبني من القراءة الأولى .
ما حصل هو استجابتي لتغييرات داخلية في أعماقي، تغييرات انتابتني وشكلت انفجارات وصواعق روحية بعد أن تركتني حبيبتي الفرنسية، دفعتني إلى كتابة قصيدتيّ “أتصل بالروائي” و”دم على الريش” دفعة واحدة من دون أن أعمل مسودات كالسابق . كنت أريد أن أكتب تعليقا على ما حصل معي مع ليلة افتراقي عنها ، كالذهاب إلى بلدة ” كارنو” والنوم أسبوعا في المركز البوذي إلخ. وجدت نوعا من الراحة النفسية تولدت بسبب الحوار بين حياتي الشخصية والقصيدة مباشرة. لقد تغيرت علاقاتي الشخصية والحميمية كليا و ابتعدت ابتعادا عن الماضي. ما حصل معي أراحني. كنت كمن رفعت صخرة كبيرة من على صدره. توسلت في قصائد المجموعة أن أضخ الدم في اليوميات العادية التي وقعت معي، متقصدا الدقة حتى و لو بدت اللغة خاما و مباشرة . لم أرغب بوضع خيوط في القصائد، ولا مفاجآت . كنت أريد أن أروي حياتي كما هي. أن أشبع القصيدة بتوتري بينما تعبرني مشاعر متشابهة أو متضاربة. مراهناً على أن الشعر يمكن أن ينبثق من الوقائعي الشخصي الذي ينقلب إلى ما هو شعري حميمي فوق واقعي في النهاية. كنت أريد دون أن أقصد ذلك أن اقترب من نفسي وأوقف عملية الانفصام التي كنت واقعا بها. حيث كانت القصيدة تذهب بموازاة أو بعكس الحياة، لا لشيء إلا من أجل أن تنام و ترقد القواعد والوصايا بسلام.
* يقال أن جملة الشاعر أو حساسيته التي يبدأ بها تظل ترافقه مهما بدَّل في سياسة كتابته. هل توافق أنك في العمق لم تتغير كثيراً رغم التغير التدريجي الذي حكم مجموعاتك الثلاث؟
– كنت و ما زلت أسعى إلى كتابة تتصف بالدقة و ليس الجمال . حيث بضربة واحد يحصل القارئ على تلك المتعة الفنية التي تتأتى من القراءة . القارئ الأول الذي هو أنا. الدقة هي الأخلاق التي أريد للقصيدة أن تتصف بها في كتبي الثلاثة. ربما هذا الكلام صحيح، لا يمكن للمرء أن يصبح شخصا آخر ، و اللغة معطى نفسي ، وشبكة العلاقات اللغوية التي يصوغها شخص قد تبقى هي هي مهما تغير الزمن. و لكن يمكن للكاتب أن يبتعد ابتعادا ويغير عدته و أدواته. ما يبنيه سيظل يذكر بالعمل الأول. ستبقى هناك جذور و آثار تحيل على الماضي .
في المجموعات الثلاث كنت أتوسل أن أكتب عالمي الشخصي على طريقتي الشخصية. أن أصنع فضاء أحسب أنه فضائي ومناخا يخصني. كنت وما زلت أنفر نفورا من الفوضى التصويرية والسيرك اللغوي والتحريضية والرومانس واللغة العقلانية واللغة الرخوة… حتى و لو كان الأمر يتعلق بيافطة التجريب أو مقاربة عن الجسد التي يرفعها البعض لإخفاء فقره الشعري وضحالة تجربته. كنت ومازلت أقرأ القصيدة مرات عديدة حتى اللحظة التي أشعر فيها بأنني سمعت صوت قلبها ينبض .. حينها أنام بسلام .

* بقصيدة مكتوبة بالسرد والنثر المفرط، تدخل إلى مشهد شعري عربي واسع ومتهم بالتشابه والتكرار في الاقبال على ما سمّي بالقصيدة اليومية أو قصيدة التفاصيل. كيف يمكن الحفاظ على الخصوصية في هذه الحال أم أنها لا تعود
هدفاً أساسيا؟
– لا أعتقد الآن بوجود عدد كبيرمن الشعراء الذين يكتبون قصيدة التفاصيل. التسمية فضفاضة وهي ليست إلا يافطة شأنها شأن كثير من اليافطات المرفوعة في حياتنا .
أغلب من يدعي أنه يكتبها هو يكتب نصا مزيجا من الوصف والحكمة و الاستعارات مع تطعيمات نثرية . القصيدة اليومية التي تحيل على ما هو يومي و حياتي ليست موجودة بكثرة كما هو معلن عنها. لا يمكن الكتابة عما هو يومي بهذه الدرجة من السهولة. والذين كتبوا قصيدة تستند إلى حياتهم الشخصية عربيا قليلون ولغتهم معروفة . شأن اليافطات الأخرى من يحدثك عن الجسد وكسر التابو تجده شخصا خجولا يرتاد الكنيسة أو الجامع و يقول لك عيب و حرام . انها مفارقات حياتنا الثقافية .
بمعنى ما الخصوصية معروفة و يمكن أن نجدها هنا، كما لا يمكن أن نجدها هناك. في الطرف الآخر، في النصوص التي يذهب أصحابها إلى الاشتغال اللغوي و التجريب.
وقع أغلبهم في مأزق النموذج و إعادة الإنتاج . وقعوا في تجريب ألقى بنا إلى الصحراء كليا . حيث لا حياة . لا شعور بوجود المياه ، فقط بعض العلماء المختصين الذين يحللون و ينشرون مطولات نقدية عن عظمة هذا الشاعر أو ذاك . مقالات تنسى مباشرة . المجربون الأصلاء عليهم الا يقلدوا الآخرين عبر موديلات بل يذهبوا نحو لغة خاصة بهم . وهذا نادر جدا .
هناك موديلات و نماذج يتم النسج على منوالها في سبيل نص يلقى الترحيب .
هنا أنت وجها لوجه مع حياتك و تجربتك الشخصية وعليك ان تجد الشعر ينبثق منها . لا أسعى إلى كتابة لغة خاصة بي ، ما أريده هو أن أكون شديد القرب من عالمي الروحي و حياتي الشخصية في آن . التجريب الشكلاني المحض لم يعد يهتم له أحد الآن .
الموهبة ليست مهمة أبدا هنا . كل الناس موهوبون . من يمتلك طريقة خاصة للنظر إلى الأشياء ، ووضع رؤيته لها في لغة خاصة به . من يصنع فضاءه الخاص به . و الذي يمكن أن نعرف شغله من دون أن يوقع . هو من يمكن لنصه أن يستمر في البقاء. اللغة الخاصة تخلق نفسها . و لا يمكن أن نفبركها كما قيل لنا.

*عشت فترة في بيروت قبل أن تستقر في باريس. لم ينجُ شاعر من تأثير بيروت، ولكنك أعلنت أكثر من مرة أن ابتعادك عن بيروت جعلك تراها بدون أوهام ؟
– كل المدن تمتلك سحرها الخاص وروحها السرية التي تعلق بنا أثناء العيش أو المرور فيها. المدن تغوي و تتبادل الأدوار مع المرأة: الحنان والرقة والأمومة وغير ذلك من المشاعر. لكن أحيانا نرى المدينة التي نريد أن نراها. و ننسى المدينة التي نحن فيها عمليا. نتعلق بها كما لو أننا وقعنا في الحب. و لا نعود نغادر. نؤسطرها. فنقضي شطرا من عمرنا إلى أن نستفيق. يمكن أن تكون مدينة لا ترحم . كنت غريبا في بيروت ولم أشعر أنني محتضن إلا عبر الأدب. تضاربت مشاعري بحسب الأحياء .ثمة أحياء سلبية وأحياء إيجابية.. في المدينة ذاتها. معرفة أسرار مدينة لا تأتي بين يوم و ليلة.
المناظر والمشاهد تخفي خلفها تاريخا طويلا من الحرب وغيرها . اللامرئي أحيانا هو الذي يأخذ بأعصابك و ليس ما تراه مباشرة . لكنك تشعر بأن المدينة تقبلك أوالعكس . ما أتذكره من بيروت الان هو أنها مقسمة إلى شوارع تحبني وشوارع تكرهني . لذة المشي والتسكع هنا وليس هناك .
بقيت حوالي سبع سنوات في بيروت. كنت مشَّاءاً في المدينة . كان هناك مشاؤون لبنانيون شباب أحبهم . كانت هناك متعة ما بأن اشعر أنني غريب. شعراء كثر أيضا أحبهم في لبنان كأشخاص وكشعراء. لا يمكن أن أنسى أن البعض احتضنني أدبيا احتضانا لم يحدث في مسقط رأسي. أحب الأماكن التي تحبني و البشر أيضا. في الآن نفسه ثمة عنصرية مخيفة و ذات طاقة تدميرية لحاملها، لا تقاس إطلاقا بالعنصرية الشكلية الموجودة في الغرب . في بيروت فهمت أن البعض لا يريد سوى نتاجك الفكري والأدبي أما أنت كإنسان فلتذهب إلى الجحيم. من يعش في بيروت عليه أن ينافق نفاقاً. أو أن يصمت. العالم مصنوع هكذا في هذه البقعة من العالم. العلاقات العشائرية و السياسية و الطائفية موجودة ليس في بيروت فحسب بل وفي سوريا أيضا والعالم العربي كله. لكن ما هو مريح في الأمر أنها معلنة في لبنان.
بيروت تبقى المدينة التي تتميز بشيء من الحرية غير الموجودة إلا في لبنان. الحرية وحدها لا يمكن أن تكون مأوى . التفكير الديني و الطائفي يسمم كل شيء.ثمة بيروتات كثيرة في بيروت و أنا أحن دائما إلى إحداها. بيروت مدينة من العالم العربي .

* بالحديث عن المدن، هل للجغرافيا والاقامة في مجتمعات مختلفة أي حصة
أو دور في التغيرات التي تحصل في الكتابة؟
– لقد عشت في أماكن متفرقة . شعرت دائما أنني ممزق بين مدن مختلفة. الأمر الذي لم يخلق عندي أي شعور بأن لدي جذورا. بالطبع لست شجرة .. روح قصائدي ليس مرتبطة بمكان معين في فرنسا، إنها مرتبطة بزمني الشخصي، وتنقلاتي في المكان. التنقل في المكان والانقطاع عن المكان الأول أثّر حتما. اللغة التي نكتبها و المعجم الذي نستخدمه مرتبطان بمحيطنا ارتباطا. أيضا العوالم الروحية للكائن تبدأ بالتغيير. المشاهد والمناظر التي نمر بها تعمل صدى داخلياً. صدى سينتقل عبر اللغة التي نكتب بها. عشت فترة حداد حوالي سبع سنوات . لم أتصل بأحد من سوريا باستثناء عائلتي. لم يكن عندي ذلك الحنين . المكان الذي يأتينا منه الحب هو ما أشتاق إليه. الإقامة في مجتمع مختلف ليست وحدها مدعاة للتغيير بل ثمة ما هو أكثر خطورة من مجرد المغادرة .. يمكن للاقامة الجديدة أن تشكل ما يشبه الولادة الجديدة . القطيعة سبع سنوات مع البلد كانت شيئا قاسيا بالنسبة للذكريات التي أحملها. وضعت موضع تساؤل ليس فقط علاقاتي مع الأصدقاء بل مع العائلة أيضا. بدأت الذكريات القديمة تبتعد وتنحو جانبا لتحل محلها ذكريات أخرى . البلد الأم تحول إلى رمز، ثم شعرت بأنني ربما لا أنتمي لا إلى هنا و لا إلى هناك و أن عملية البحث عن وطن هي في حقيقتها عملية بحث عن الذات ليس إلا . لم أكن أتكلم الفرنسية. اللغة الجديدة التي بدأت “أترغل بها” بدأت دونما أن اشعر بالدخول إلى نصي العربي عبر بنية النص النحوية. أعتقد أنني عملت نوعا من الحداد خلال كل هذه الفترة وبانتهائها، تغير أسلوبي في الكتابة . ليس فقط المكان وحده ما ساهم في هذا التحول بل أيضا تنوع قراءاتي الشعرية. ولهفتي الكبرى لقراءة هذا الكم الكبير من الشعر العالمي المترجم للفرنسية في شكل رصين . كل ذلك جاء مصحوبا بالقطيعة مع المرأة، و البدء من جديد مع امرأة أخرى. فخلف الكتب الثلاثة كانت هناك أيضا ثلاثة نساء أحببتهن و كان لهن دور في ذلك أيضاً.

* ما هو الشعر في النهاية؟ طريقة للعيش أم ترجمة لسوء فهم مزمن مع العالم؟
– لا أعرف حقيقةً ما هو الشعر. عندما ينبثق و يخرج عبر الكلمات أشعر أنه يختصرني و يحرر ما لا أستطيع الإمساك به. عرّاب الأعماق، هو وحده من يقدر على ذلك. إنه في كل مكان وهو غائب أيضا. الجبهة التي توقف زحف الاستيطانات نحو البوابة الروحية. رغم أنه يضع اللغة كلها في محترفه إلا أن الجسد هو أحد مؤسسيه.
أحترق داخل جلدي. أشعر أنني لا أصل وعلي أن أتابع المشي. أجد صعوبة في المتابعة. رغم أنني أرغب بأن أحقق ثقلا ما في العالم ولو صغيرا. الحياة الرتيبة التي تخيط و تنسج الصوف بصمت في زاوية، مسندة على الجدار، عليها أن تنهض وتمضي على قدمين. أشعر أنه هو وحده من يستطيع أن ينتشلها ويجعلها تغادر الزاوية بوصفه بيت التجربة الشخصية كلها، بوصفه حمالا للأسرار الأكثر غورا في الأعماق، ووفياً لها حتى لو حكى أشياء نافلة. سؤال ينفتح على سؤال، ينفتح على ما يسعى إليه، على ما ينقصه.
أوصلني إلى مرحلة القناعة أنني الشخص الذي أستطيعه. أنا أنا لا أكثر و لا أقل وعليّ ألا أكون إلا في حدودي. لن أفبرك صورة استعراضية لي. و لن أركض وراء صورة يرسمها غيري لأتقمصها تحت أي شكل من الأشكال. ليس على الشاعر ان يكون ملعونا أو ذكيا أكثر من الآخرين العاديين، إنه يشبه الآخرين. حتى لو نظر الناس اليه كـ “مهبول”، عليه أن يبقى مندهشا دائما أمام الأشياء التي تدهشه. مهما كانت تافهة وعادية أو كانت كبيرة ومهمة. إنه يغامر بحياته كلها في سبيل الوهم، الوهم الذي يضيء له الأعماق. هو يجعل من خيبة الأمل متعة دائمة.. الشاعر في صحة جيدة طالما استمر في الكتابة، و يسقط في المرض عندما لا يكتب. الشعر صحته الوحيدة. إنه أكثر من ضروري في الحياة .

الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى