بشير البكرصفحات العالم

ساركوزي والتوازن المفقود بين العرب و”إسرائيل”

بشير البكر
قام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مؤخرا بخطوة سياسية جديدة، على صعيد التراجع عن سياسة الموقف الفرنسي المتوازن من العرب و”إسرائيل”، وذلك عندما عين “فاليري هوفنبرغ” في منصب “سفيرة فوق العادة”، مكلفة “متابعة شؤون الشرق الأوسط والنزاع العربي  “الإسرائيلي”، وقد كان لهذه المبادرة أن تمر من دون ردود فعل من حولها لولا حمولتها الرمزية الفاقعة، فالمعنية ليست ديبلوماسية عادية، بل هي “ملتزمة” سياسيا في ما يخص الدولة العبرية، من خلال الدور الذي تلعبه كممثلة ل”اللجنة الأمريكية  اليهودية” في فرنسا، وهي جمعية من اكبر منظمات اللوبي اليهودي واكثرها نفوذا في أمريكا، ويعود تأسيسها إلى قرن من الزمن، وعلى رأس أهدافها “حماية اليهود والطائفة اليهودية في العالم ودعم “إسرائيل”، عدا عن انها تعد من اكبر المنظمات اليهودية في العالم واكثرها نفوذا، وخصوصا في الولايات المتحدة، وآخر نشاط عدائي لها ضد العرب والمسلمين احتجاجها في الثاني والعشرين من اغسطس/آب الحالي، على قرار جامعة “ييل” الشهيرة، بمنع نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول في كتاب، واعتبرت اللجنة قرار الجامعة يتعارض مع حرية التعبير، وأعادت التذكير بأنها قامت بحملة للتضامن مع صحيفة “يولاندر بوسطن” التي نشرت الرسوم سنة 2005.
لا يعد قرار تعيين “هوفنبرغ” أمراً مخالفاً للمألوف بالنسبة إلى ساركوزي، نظرا للعلاقات الخاصة التي تربطه بالدولة العبرية، التي وصفها في السنة الماضية بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسها بأنها “معجزة القرن العشرين”، وهو يأتي في سياق يتجاوز حدود العلاقات المرسومة بين الدول والأعراف الدبلوماسية، إلى جوانب شخصية لها صلة بجذوره اليهودية، ولهذا السبب ذهب به تعاطفه الخاص إلى حد الإعلان في غير مرة، عن انه لن يمد يده لمصافحة شخص لا يعترف ب”إسرائيل”، وهو يقصد بذلك الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الذي درج على اصدار تصريحات يدعو فيها إلى تدمير “إسرائيل”.
مع وصول ساركوزي للرئاسة في فرنسا تغير الجو العام كليا بين باريس وتل أبيب، وزال كلياً التقلب والاضطراب، الذي عرفته العلاقات الثنائية خلال بعض  الفترات السابقة، وخصوصا في المرحلة الأولى من حكم الرئيس السابق جاك شيراك، الذي حاول أن يوقف زحف رئيس الوزراء “الاسرائيلي” السابق ارئيل شارون لتدمير “اتفاق أوسلو”، قبل ان يعود ويرضخ للأمر الواقع ويستقبله في “الإليزيه” في سنة ،2005 لينهي مرحلة من الفتور. ومن مظاهر التغير توافد المسؤولين “الإسرائيليين” على باريس، في صورة لم تشهدها العلاقات منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، وقد كان لافتاً ان الأشهر الأولى من حكم ساركوزي شهدت هجمة “إسرائيلية” كبيرة على فرنسا، حيث لم يبق زعيم “إسرائيلي” واحد من دائرة القرار، دون أن يزور “الإليزيه”، من رئيس الوزراء السابق أيهود أولمرت، ومن بعده شيمون بيريز الذي قام بزيارة دولة، وحظي باستقبال في “الإليزيه” قل نظيره، ومن بعد ذلك وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع إيهود باراك. ولم تنقطع مبادرات الرئيس الفرنسي الرمزية تجاه الدولة العبرية، وكان اكثرها بلاغة تكريس معرض الكتاب الفرنسي سنة ،2008 للاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس “إسرائيل”.
لم يكن ذلك تعبيرا عن ولادة حركية جديدة من طرف باريس تجاه تل أبيب فحسب، بل إنه شكل عملية فتح للأبواب الفرنسية التي كانت موصدة في وجه “إسرائيل”، بسبب حسابات متعلقة بمصالح فرنسا الخاصة في العالم العربي، انطلاقا من قاعدة التوازن التي وضعها ديغول، وسار عليها الرؤساء الذين خلفوه من جورج بومبيدو حتى شيراك، مرورا بجيسكار ديستان وميتيران.
حاول ساركوزي  ان يبرهن على انه يقيم صداقات جيدة مع العرب و”الإسرائيليين”، ولن يرهن صداقة فرنسا لطرف مقابل الآخر، ولا يمكن إنكار انه قام بسلسلة من المبادرات السياسية المهمة في إطار إحلال السلام في الشرق الاوسط، وقد كان هدفه المباشر من التحرك تجاه المنطقة هو الظهور بمظهر الرئيس الفرنسي المتوازن، على غرار أسلافه من الرؤساء الفرنسيين السابقين، الذين استمروا على خطى ديغول، حين قرر سنة 1967 الوقوف على مسافة واحدة من أطراف النزاع في  المنطقة. إلا أن عدم ممارسة ساركوزي أي ضغط على “إسرائيل”، بل على العكس، يؤكد اليوم ان هذا التوازن هش ومختل. وبعيدا عن كل الاعتبارات فإن ساركوزي وجد أمامه تصلباً “إسرائيلياً” لا حدود له، الأمر الذي جعل طموحه لتحقيق اختراق فرنسي على الجبهة “الإسرائيلية” يتراجع، الى حدود استجداء رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو بإصدار وعد لتجميد الاستيطان لفترة مؤقتة.
لن يقدم أو يؤخر قرار تعيين “هوفنبرغ” على صعيد تحريك عملية السلام، لكنه سوف يبعد فرنسا خطوة عن نقطة التوازن في الشرق الأوسط.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى