صفحات الحوار

جان ماري غوستاف لوكليزيو: الرائع في الأدب أنه أشبه بذاكرة جماعية، ليس هناك خيال، ليس هناك ما هو متخيَّل، كلّه واقع

null
دانيال صالح
وفي لحظات حياتي الصعبة كان يغذّيني ويساعدني الى أقصى حدّ
نادرا ما تلتقي كاتباً يشبه كتابته الى حد التماهي المطلق. جان ماري غوستاف لوكليزيو من هؤلاء الادباء النادرين. “كاتب الترحال” هذا، حصد الأمجاد والتكريمات وقد كللتها جائزة نوبل للآداب العام الماضي، بدون أن يدعها تحرفه عن مساره الداخلي أو تلهيه عن عالمه، وعبر السنين بدون أن يفقد تلك القدرة على الإنبهار أمام الحياة والكائنات. قابلته في مدينة ليماسول القبرصية قبل ان يحلّ ضيفا على بيروت. جلس لنبدأ المقابلة، فعادت الى ذاكرتي مثل موجة جارفة مقاطع من رواياته التي قرأتها على مر كل تلك السنين، روايات كنت أنسلّ في جوفها واختبئ فيها لتحملني الى عوالم متنوعة متباعدة، من غابات افريقيا الى اراضي هنود القارة الأميركية مرورا بكثبان الصحراء، غابات ووديان وشواطئ وجزر، فضاءات تجمع بينها وتوحدها تلك الكتابة الفريدة بشفافيتها، كتابة تقول الأساس، تعرّي ببساطتها كل ما هنالك فلا تستبقي سوى الجوهر.
كل كاتب يهبك شيئا في حياتك. لوكليزيو وهبني فضاءات فسيحة مشرعة على حلم لا ينتهي، حتى وددت لو أستوطنها. ثمة كتب يصعب الخروج منها، يصعب الخروج حتى من حزنها، وإن خرجت أحيانا لا تكون أنت نفسك.
انه كاتب الإستثناء في زمن التماثل، كاتب الصمت في زمن الصخب، كاتب التجوال في زمن التقوقع. هنا أسئلة وأجوبة.
* أود البدء بسؤال حول الفرنكوفونية. هل تعتقد أن للفرنكوفونية والفرنكوفونيين مكانة فعلية في ظل فرنسا؟ أليست اللغة الفرنسية مدينة للكتّاب الفرنكوفونيين وللفرنكوفونيين عموما الشديدي التمسك بها كبوابة على العالم، لكونهم أثروها وأعطوها شبابا جديدا وديناميكية جديدة؟ يخطر لي هنا قول كاتب ياسين عن اللغة الفرنسية بأنها “غنيمة حرب”.
– الواقع ان مجموع الأفكار والكتابات والعلاقات التي قامت مع اللغة الفرنسية، أمر أضفى ثراء وعظمة على تاريخ فرنسا. هنا تخطينا تاريخ فرنسا، صرنا ما وراءه. عندما يستخدم أشخاص مختلفون للغاية في ما بينهم إرثا استملكوه، مثل كاتب ياسين بالطبع، ولكن أيضا كتّاب أفريقيا المتمايزين أقصى ما يكون الواحد عن الآخر، فإن كلاً منهم يأتي بشيء مختلف. هذا المجموع هو في نظري أسمى مما نعنيه بالتاريخ الفرنسي، بتاريخ فرنسا. فرنسا كانت الفرصة لا أكثر لخلق هذه اللغة، وهي في المناسبة لغة جميلة جدا. اللغة الفرنسية لغة موفقة جدا، انها لغة تمتلك كمالا، سواء لغويا أم ثقافيا، وهذا تحديدا لكون كل هؤلاء الأشخاص استخدموها. هذا الإرث هو إرث حيّ وسيبقى حيّا. فأنا أعتقد ان ثمة حاجة الى اللغة الفرنسية في جميع بلدان الفرنكوفونية، لأننا نعود الى مرجعية هذا الماضي الثقافي، ولأن هذه اللغة وسيلة عملية للتواصل، انها أداة متقنة. كأنكم تختارون بين برامج كومبيوتر، فتقولون لأنفسكم: ويندوز جيد، فلماذا أبدله؟ لكنكم ستفعلون به ما تشاؤون به. هذا لا يعني انكم تتكلمون لغة ويندوز، بل أنكم تستخدمونه. اللغة الإنكليزية أيضا جيدة، كلها لغات ذات ماض طويل، هذا يعود الى ثقافتها. اللغة الفرنسية مدينة بالكثير الى بودلير وراسين، الى كل هذا العمق الأدبي، لكنها مدينة أيضا الآن الى كاتب ياسين والطاهر بن جلون وفينوس خوري غاتا. كل واحد يضفي شيئا ما. كنت أقرا لفينوس خوري غاتا كتاب “رأفة الحجر”. انه كتاب فيه الكثير من الإبتكار والطرافة، تروي فيه قصة اللغة، كيف تم ابتكار الأبجدية. أعتقد ان لكلٍّ من كتّاب الفرنكوفونية دورا يلعبه في هذه المجموعة. انها أشبه بفرقة اوركسترا، بكورس.
لا أثق في السياسيين
* هل تعتقد أن للفن والأدب تأثيرا حقا على الحياة؟ هل يمكن أن يغيّرا أي شيء؟ ماذا في وسع الكلمة ازاء السياسة مثلا؟ أسلحتهما غير متكافئة إطلاقا.
– لا أثق كثيرا في السياسيين، بل إنني مؤمن بأن الذين يصنعون السياسة هم عادة اولئك الذين يتكبدونها، واعني بذلك خصوصاً المدنيين، النساء اللواتي يذهبن الى السوق لشراء الطعام لعائلاتهن، الصيادين… هم الذين يصنعون الحياة، وحين لا يكونون موافقين، فهم دائما على حق في نهاية الأمر.
* لكن هل ترى احدا ما يعير الأمر أي اهتمام؟ هل يؤخذ موقفهم ورأيهم في الإعتبار؟
– لديَّ إيمان كبير في تغيير الأجيال. إنني مؤمن بأن الأطفال الذين يولدون اليوم سيخلقون عالما مختلفا تماما عن العالم الذي عرفناه. أتحدث عن ذلك، لأنني ولدت خلال الحرب، ومنذ أن ولدت، لم يعد هناك عمليا حروب في أوروبا. عرفت آخر حرب أوروبية. الأجيال الجديدة التي تولد اليوم لا يمكنها أن تتصور مثلا انني حين كنت في العاشرة، أراد تلميذ ألماني الإنتساب الى مدرستي لكنهم لم يقبلوه وطردوه لمجرد أنه كان ألمانيا. كان في العاشرة من العمر، لم يكن اقترف أيَّ ذنب. اليوم يصعب تصديق مثل هذا الامر. لا يمكن أن يحصل بكل بساطة. اذاً، الاجيال تأتي، وكل جيل يدفع الجيل السابق بعيدا ويعيد ابتكار العالم، ويخلق عالما جديدا. ثمة بالطبع أمور لا تسير بشكل جيد، لكنني أعتبر ان الوضع بشكل إجمالي في تحسن واضح.
كالمياه هي العلاقة بين البشر
* في زمن يكثر الكلام عن التواصل والإتصال، عن الإنفتاح، نشهد في المقابل تنامي الانطواء على الهوية ونزعة الى التماثل والقولبة، لا يتركان فسحة للإختلاف أحيانا. هل تعتقد أنه لا يزال هناك مجال للهامشية، للثقافات المغايرة؟
– أعتقد أن هناك مساحة كافية. هذا ما يُعرف بالترابط عبر الثقافات. ينبغي إحلال الترابط عبر الثقافات. إنه غير موجود حاليا. ثمة بعض الدول تسعى اليه، ومنها بوليفيا. أما معظم الدول، فهي في وضع لبنان، أي تسودها التعددية الثقافية. لكن التوجه العام هو نحو الترابط. انا من جزيرة موريشيوس ويقول أحد أصدقائي هناك إن العلاقة بين البشر كالمياه، فهي تجري لا محال. الناس لا بد أن يتلاقوا. ثمة سواقٍ تجري وهي تلتقي مهما يكن. يمكنكم نصب حواجز إن شئتم، لكن المياه ستجري على الدوام. هناك أيضا الأحادية الثقافية، كما في فرنسا. في فرنسا ثقافة واحدة، إنها ثقافة راديكالية جدا، يقولون إن الديموقراطية هي على هذا النحو، والفكر هكذا يكون، وتلك هي ماهية الفلسفة، ولا أحد يسعى الى فهم الآخرين. أما في لبنان، فالجميع يعرف بحكم الواقع أن ثمة ديانات مختلفة مثلا. ثمة إذاً إدراك لوجود الآخر، نعرف أنه هنا. لكن هذا لا يعني أننا سوف نتقبله، مجرد أننا نعرف أنه هنا. يجب الوصول الى مرحلة نشعر فيها بالرغبة في إقامة تبادل معه، أن نرى ما هو جيد في ديانة الآخر، في فكره، في لغته، بالرغبة في التلاقي معه. أعتقد ان هذا ضروري، لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بتفويت هذه الفرصة. وإلا، عدنا الى الحرب. إذا لم نحقق الترابط عبر الثقافات، نحقق الحرب. لبنان مرّ بهذا الوضع الصعب للغاية.
* الأصعب في لبنان كان السلام، فهو لم يوجد أيّ حل بل أبقى جميع بذور الحرب. كان مجرد غطاء أسدل على كل شيء لإخفائه وكتمه بدون استئصاله.
– لكن الحرب ايضا ليست حلا. ثمة أوضاع يائسة لا يعود فيها من حل سوى الحرب. تصبح الحرب هي الحقيقة الوحيدة، لكنها حقيقة مدمرة كليا، حقيقة قاتمة تسيطر معها قوى العدم. إنها افتتان، إنجذاب كالإنجذاب الى الانتحار. لكن يجدر بنا أن نأمل بحصول التلاقي.
تعجبني فكرة الدائرة
* عند قراءة رواياتك، يلفتنا في السرد أنه لا يتبع خطاً، لا يتقدم بل يدور في حلقة الى ما لا نهاية، حلقة تكرر احيانا العناصر نفسها، الأحاسيس نفسها، التفاصيل الدقيقة البسيطة نفسها، نسمة هواء على ذراع عارية، نور الشمس وهي تغيب فوق غابة، صوت ساقية منسابة. كل حلقة جديدة تضيف لمسة جديدة، على غرار لوحة انطباعية. ومع تراكم هذه اللمسات والتماوجات في الألوان، نرتقي الى حالة مغايرة، الى مستوى مختلف من الوعي والادراك والفكر، في حين أننا لا نزال في المكان نفسه من السرد أو الوصف. الأمر أشبه بحركة عقارب الساعة، أو بالأحرى بدوران الدراويش الصوفيين.
– يعجبني هذا النقد الذي عرضتِه، هذه القراءة تتطابق حقا مع ما أشعر به. هذا ما احبه فعلاً، ولا يمكنني أن أشرح السبب.
* أشعر بأن الأمر على علاقة بمفهوم للزمن خاص بك. أعتقد أن لديك إدراكا للوقت مختلفا جدا عن سواك، وكأن الوقت غائب عن عالمك. إنه يمر، لكن مثل وجود بلا ظل، بلا أثر.
– لا شك أن هذا صحيح. الواقع أن الخطّية، فكرة التقدم في خط، أمر يضجرني، يبعث فيَّ الخيبة. لست ممن يرغبون في اتباع خط مستقيم. تعجبني فكرة الدائرة وتكرار الحلقة. أمر ما يعود باستمرار. لا أدري السبب خلف ذلك، لا بد أنه يعود الى تربيتي، أسلوبي في العيش. أعتقد أنه يتناسب مع اقتناعي الأدبي، مع ما يستهويني في الأدب. لم أفكر في الأمر من قبل، لكن أعتقد أن ما قلتِه يطابق حقا اقتناعي الأدبي وميولي الأدبية. تعجبني كثيرا لدى بروست مثلا هذه الفكرة بأننا نعود، بأننا كمن هو نائم فيما العالم يدور حوله، ونعود دوما الى نقطة انطلاق. هذا يرضيني ويرضي ذهني.
الحاجة الى الكتابة وماهية الكلمات
* هل أن الكلمة ترضيك؟ دعني اوضح فكرتي: أنا أرى الأدب ملجأ نبحث فيه عن النسيان. روايتك “الباحث عن الذهب” مثلا قرأتها في زمن الحرب، عدت اليها مرارا وتكرارا وكانت ملجئي، حلمي. ذاك الفتى الذي يبحث عن كنز بلا كلل، يعاود المحاولة مرة بعد مرة، يذرع الدروب نفسها، يعيد الحسابات نفسها بدون أن يأبه للشمس التي تحرقه والخيبة التي تتربص به. ذاك الكتاب رافقني في أوقات صعبة جدا. هل أن الكلمة فعلا تروي؟
– لم أطرح على نفسي مرةً السؤال عن ماهية الكلمات، لم تراودني هذه التساؤلات لأنني في حاجة ماسة الى الكلمات. حين أبدأ بكتابة رواية أو قصة قصيرة، أشعر ببساطة أنني أطوّر نقطة محددة من ذاكرتي أو من تيار فكري، وأوسّعها. الواقع أنه لا يسعني أن أقول “ذاكرتي”، لأنها غالبا ما تكون ذاكرة الآخرين. إذا رويتِ لي قصة ما، فسوف تثير لديَّ تلك الحاجة الى الكتابة، وسوف أكتب بحيث أُراكم كل ما يدور حول هذا اللب من الذاكرة، طبقة بعد طبقة، شيئا فشيئا. أنطلق من قصة تروى لي أو من واقعة أو شهادة وأبدأ بالتعمق، بالخوض في التفاصيل، بتكثيف تلك الذاكرة، بتحريك عناصر من حولها تعود لي وحدي. ويبدو أن هذه العملية مثمرة، لأنها سمحت لك في الواقع بولوجها. يعجبني طرح فكرة كتاب يكون ملجأ، لأننا في بعض لحظات الحياة نكون في أمسّ الحاجة الى ملجأ.
* أحيانا يكون الكلام كافيا، أعني أننا قد لا نحقق ما نريد، لكن إن حلمنا به بما يكفي أو قرأنا عنه بشكل مكثف، تصبح له ماهية ووجود وحضور قد يغنينا عن الواقع الفعلي الحسي. حتى شخصياتك تعرف قيمة الكلمة والقصة، فتلجأ اليها عندما تشتد وطأة الواقع. في كتاب “النجمة التائهة” مثلا، العمة حورية تروي قصصا عن غابات تجري فيها الينابيع وتظللها الاشجار حين يشتد الحر وتنضب المياه. إنها الكلمة التي تحل محل الواقع.
– ما أجده رائعا في الأدب، هو أنه أشبه بذاكرة جماعية، لأن الكاتب يكتب مستخدما أجزاء من ذاكرته، لكنه يحرك الذاكرة لدى قارئه. حين أقرأ بروست، لا أقرأ إطلاقا ما كتبه، بل أقرأ ما أتصور أنه في كتابه. وحتى إن كان يصف عالما غريبا عني كليا، لأنني لا أعرف إطلاقا المنطقة الباريسية ولا أعرف إطلاقا العالم الذي يصفه بروست، لكنه يحرك في داخلي كمّاً من العناصر الشخصية الخاصة بي، حتى أنه قد يولد ما يشبه مجرة أو عالما في حد ذاته.
الغالب والمغلوب
* ما الذي يغلب في نهاية المطاف، الحياة التي نكتبها أم تلك التي نعيشها؟
– كنت واثقا انك سوف تطرحين هذا السؤال.
* لماذا؟ هل يُطرَح عليك دائما؟
– لا، إطلاقا. هذا يذكّرني ببورخيس الذي كان يطرح على الدوام السؤال الآتي: ما هو أكثر حقيقة، الواقع أم المتخيل، وهل يتحتم القيام بخيار؟ أعتقد أنك أعطيت الجواب لأنك كنت في لحظات من الحياة مشحونة للغاية، صعبة للغاية، فترة حرب حيث تطغى الأحداث والوقائع، وتهيمن الأخطار التي تهدد من نحب، عندها نستبدل هذا الواقع بعالم يرضينا أكثر، عالم أكثر إبداعا وخيالا يجعلنا نقوى على تحمل الواقع الفعلي. الإثنان متكاملان في الواقع.
* لكنني أنا مؤمنة فعلاً بحقيقه الخيال. ليس خيالا في نظري بل هو واقع…
– هذا هو ردّي أيضا على السؤال حول جدوى الكتابة أو وظيفتها. هذا هو ردّي لأنني بدأت الكتابة خلال الحرب، أو في السنوات التي تلت الحرب. كانت سنوات صعبة جدا. ثم في سن العشرين كتبت خصوصا الشعر، وقليلا من المسرح، لأنني كنت فعلا في حاجة الى ذلك. كنت أواجه صعوبة كبرى في الإندماج في المجتمع، لم تكن لديَّ مهنة، لم يكن لديَّ مال. في تلك الفترة كنت في لندن، لكن لو كنت في أي مكان آخر، لكان الأمر سيان. كنت في وضع صعب جدا. وفي نهاية المطاف، إذا فكرتُ في قصة حياتي، لوجدت أنني في كل لحظة صعبة عشتها، كان الأدب يغذّيني ويعطيني الكثير ويساندني الى أقصى حد. وهذا ما دفعني الى الكلام عن بورخيس، لأنني أعتقد أنه يعطي الإجابة الصحيحة: لا فاصل بين المتخيل والواقع، إنه نسيج متواصل، وكأننا في لحظة ما ننظر من جانب من النسيج وفي لحظة أخرى ننظر من الجانب الأخر، لكنه النسيج نفسه، أننا مشبوكون، متداخلون فيه. هذا هو الواقع، نسيج تتداخل فيه خيوط الواقع بخيوط الخيال لتؤلف معا وحدة مترابطة، إنها خيوط ملموسة، موجودة، لهذا السبب أعتقد مثلك أنه ليس هناك خيال، ليس هناك ما هو متخيل، كله واقع.
* ما الذي غيّرته فيك السنوات؟ ما الذي تبدّل مع مرور الزمن؟
– أعتقد أن الزمن لم يبدّل الكثير. ثمة أمور تغيّرت في حياتي الفعلية، منها أنني رزقت بأولاد، كان هذا تغييراً مهماً في حياتي. عندما يصبح للواحد أطفال، تترتب عليه مسؤوليات، عليه ان يطعمهم ويساعدهم في إتمام دروسهم، وأن يدقّ الأبواب من أجلهم. عليه أن يقوم أحيانا بأمور ليس لديه أدنى رغبة في القيام بها لنفسه، لكنه يرغم نفسه على ذلك. الأطفال يمسكون بيدكم ويجرّونكم. وجهة نظري في هذا الشأن تغيّرت. فقد كتبتُ قبل أن يصبح لي أطفال “يمكنكم النجاة من الحمّى القرمزية والأمراض والحروب، لكنكم لن تنجوا من أطفالكم”. ما زلت على اعتقادي، وهو صحيح في نهاية الأمر. لا ننجو من أولادنا، لكنني لم اعد أرى الامر بمثابة تهديد، بل بمثابة جسر، أمر يشدّك أكثر الى الحياة حتى آخر رمق منها. أصبحت أكثر ايجابية بكثير حيال ذلك.
لا أحبّ مطالعة الروايات
* تكتب الرواية بصورة رئيسية، لكن رواياتك محبوكة بالشعر. بل وكأنها قصائد منثورة على طول رواية. ما هي علاقتك بالشعر ولماذا لم تعد تكتب شعرا؟
– لم أعد أكتب الشعر. بدأت في فترة ما كتابة قصيدة متعددة الأصوات، وكان يترتب عليَّ تقمص شخصيات مختلفة لأتمكن من كتابة قصائد عدة يُفترض أن تُقرأ معا، على طريقة معزوفة موسيقية.
* على طريقة معزوفة “فوغ”؟
– تماما، هذا كان اسمها تحديدا: “مقطوعات فوغ”. اذاً مضيتُ في مشروعي وبعد فترة حاولتُ تحقيقه، حاولتُ قراءته بأصوات ممثلين، لكن الأمر لم ينجح إطلاقا، وقلت لنفسي إنها فكرة سيئة، وإن المشروع طموح أكثر مما ينبغي، وانه يتعين العودة الى شيء أكثر بساطة. والرواية أكثر بساطة، أكثر آنية.
* لكن هيكل رواياتك يبقى الشعر.
– أحب الشعر، أحب قراءة تلك العبارات، تلك الكلمات التي تبدو وكأنها عائمة، هائمة، لا يهيأ لنا أنها مرتبطة بأيّ استنباط منطقي، وليست ملكاً لأي شخصيات. كلمات تخطفك وتجرفك. ربما أعود ذات يوم الى الشعر. عليَّ أن أبسط الأمور. أحب كثيرا قراءة الشعر، لا احب مطالعة الروايات، بل تضجرني.
* يجدر بك في هذه الحالة قراءة رواياتك، سوف تعجبك.
– أحب أيضا قراءة جبران خليل جبران. يقول جبران أشياء لها وقع قوي عن الأجيال، عن الأطفال. “أطفالكم ليسوا لكم، أطفالكم أبناء الحياة والحياة لا تقيم في منازل الأمس”. وهذا صحيح. أجد في كتابته بين الحين والآخر لمعات، عبارات قوية، حقائق. أحب أيضا جورج شحادة. اللبنانيون ميالون الى الشعر.
* كتبتَ في “”النشوة المادية” أن “الفنان هو ذاك الذي يشير بإصبعه الى جزء من العالم”. أي عالم تشير اليه؟ كيف تصف عالمك؟
– يصعب تحديد ذلك. أنه أمر يمتّ الى الثقة التي أضعها من جهة في المستقبل وفي الأطفال، ومن جهة أخرى في روعة العالم كما هو عليه. ويمتّ أيضا الى الغضب العميق الذي يتملكني حيال كل ما يعكر صفاء هذا الجمال. وهذا يحدث في كل لحظة من الحياة، ولا يرتبط في الضرورة بوضع كارثي. إنها التجاوزات، الإساءات التي تحصل في الحياة، أشحاص يستغلون آخرين، إنعدام الثقة، غياب المحبة إن أردت استخدام كلمة مسيحية. أحب فكرة المحبة، تعني أن نظهر مودة للغير. حين أشعر ببرودة الآخرين، يتملكني الضيق والإنزعاج. أكتب في الكثير من الأحيان أيضا عن هذه النواقص، لأنها تهمّني جدا، تؤثر في نفسي ¶
النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى