صفحات الناس

التربية بين الجنس والدين

null
كامل عباس
أعترف أن برنامج الاتجاه المعاكس من أنجح البرامج الإعلامية , وسر نجاحه يعود الى طريقة تقديمه على شكل ديكين متصارعين . والمشاهد العربي يتحمس للمصارعة أيا كان نوعها . إضافة الى اختيار المواضيع الساخنة مثل موضوع الحلقة الأخيرة – التربية الدينية والتربية الجنسية –
التربية الجنسية والدينية موضوعان شائكان ومتداخلان جدا في عالمنا العربي , ونادرا ما تُخطَط مناهجنا العربية على اعتبار كل منهما علم منفصل بحد ذاته , يجب تدريس أسسه وقواعده وتاريخه بصورة منطقية ومنهجية .
الدين يُدرّس في بلداننا حسب هوى وميل الدولة الديني او الطائفي. وقلما تجد عرضا موضوعيا في مناهجنا التربوية لتاريخ الدين وأطروحاته وفرقه . لابل تكاد تنعدم المعرفة في بلداننا بالديانة البوذية والكنفوشيوسية وغيرها .
والجنس فضاء مترامي الأطراف يوازي فضاء الدين والصراع الطبقي برأي المرحوم بو علي ياسين , ويزيد عنهما برأي عالم النفس الشهير فرويد. الجنس من أهم مكونات ثقافة العصر وهو يفرض نفسه على علم البيولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع . ولكنه لا يُدرّس في بلادنا ككيان منفصل أبداً ولا وجود مستقل له لا في وزارة التربية ولا في وزارة التعليم العالي . وقد أشار ضيف الأستاذ فيصل الى ذلك بقوله – مدارسنا وجامعاتنا تعلم الطالب خرائط البلدان وتنسى تعليمه خريطة جسده .
كان من المفروض ان تكون التخوم واضحة بين علم الجنس وعلم الدين وتربيتهما في بلد تقوده جبهة وطنية تقدمية علمانية . ولكن مع الأسف الشديد تتداخل التربية الدينية والجنسية في بلدنا , ولدينا مشاكل جمة في الحقلين , ذاد الطين بلة , محاولة توظيف الدين من قبل القيادة “الحكيمة والشجاعة ” سياسيا .
وقد جاءت تلك الطريقة بنتائج عكس المرجو منها على ما اعتقد . سأحاول تقديم البرهان على ذلك من تجربتي الخاصة .
لقد درّست منهاج العلوم الطبيعية للحلقة الإعدادية والثانوية طيلة النصف الأول من السبعينات في القرن المنصرم . كلمة حق تقال : كان المنهاج المقرر حينها مصاغ بلغة علمية منطقية صرفة وحلقات مترابطة من صف الى آخر, همّه تعريف الطلاب على شجرة الحياة وتطورها من أدنى الكائنات الحية الى أرقاها . وهو يتضمن الى جانب النظرة الشمولية لتطور الحياة تعريفا دقيقا لأجهزة جسم الانسان . جهاز الهضم , جهاز التنفس , جهاز الدوران . الجهاز العصبي . جهاز التكاثر الخ . وجهاز التكاثر يصلح ان نقول عما جاء عنه في الحلقتين الاعدادية والثانوية : مقدمة موضوعية لتربية جنسية علمية . لأول مرة في المناهج السورية يتم رسم جهاز التناسل الذكري والأنثوي بما فيه رسم الأعضاء الجنسية (القضيب والفرج ). ولأول مرة أيضا تتحدث دروس الطلاب عن سن البلوغ وما يرافقه من قذف لسائل منوي عند الذكر , وعن دارة مبيضية ودارة جنسية عند الأنثى تفرز هرمونات مختلفة النسبة من يوم الى آخر في الدارة مما يجعل التهيج الجنسي عند المرأة مختلفا بين يوم وآخر ..
بالطبع لم يخل تدريس المنهاج من المشاكل , كون التجربة كانت جديدة , وكثيرا ما كان الطلاب يتداولون رسوم الأعضاء الجنسية المنسوخة عن الكتب فيما بينهم , ويحاولون إحراج أساتذتهم بالأسئلة عنها .
لم يكن منهاج العلوم الطبيعية يروق للعاملين في حقل التربية ذوي الميول الدينية , وخاصة أساتذة مادة التربية الاسلامية , لا بل رأوا فيها تقليصا لنفوذهم التاريخي , وهم الذين كانوا يتولون تعريف الطلاب على الجنس الآخر من خلال الحديث عن الوضوء والنجاسات التي تفسده بين صلاة وأخرى ومنها القذف او الحيض .
انقطعت عن المجتمع عقدين من الزمن تقريبا بين ملاحقة وسجون , وعند عودتي وجدت منهاجا للعلوم الطبيعية في الحلقتين الاعدادية والثانوية يخلو من الربط المنطقي بين حلقاته ودروسه , وقد حُذِف من فصوله كل ماله علاقة بالتربية الجنسية .
جرت مساومة غير معلنة على ما يبدو بين القيادة والتيار الديني جوهرها كما يلي: التساهل مع حركة التيار الديني داخل الدولة والمجتمع مقابل ضمان دعمهم ومساندتهم للدولة في صراعها مع العدو الخارجي المتمثل بالأمبرالية الأمريكية والصهيونية . في ظل هذه المساومة عمل التيار الديني بذكاء , فقام بالسيطرة على مناهجنا التربوية وصاغها بما يتلاءم مع نظرته الدينية ورؤيته للخلق والتطور والجنس . حتى وصلنا الى الوضع الحالي التي تبدو فيه المفارقة على أشدها بين دولة تُحكم نظريا باسم العلمانية وتعم شوارعها ومدنها وأريافها ومدارسها عملباً حركة دينية متزمتة استطاعت ان تقنع الكثير من فتياتنا التسربل بالسواد من أسفل الى أعلى .
الحقائق الحالية في المجتمع السوري تفقأ العين .
– كل الجوامع ومعاهد تحفيظ القرآن تستلم صغارنا فترى المحجبات ولابسي الطرابيش من الصغار في كل جامع وزاوية وتكية يتربون على المفهوم الديني للجنس.
في شواطئ اللاذقية هذه الأيام لا ترى سوى النساء المتشحات بالسواد وداخل البحر , وعددهن يفوق أضعاف مضاعفة الفتيات اللواتي يرتدين لباس البحر . في حين كانت الصورة على العكس تماما بداية السبعينات .
عمل المتزمتون في مدارسنا ومؤسساتنا بهدوء وبدون ضجة وبذكاء , في حين عمل العلمانيون من خلال الشعارات والضجيج والفرقعة الاعلامية , والنتيجة على الأرض مختلة جدا لصالح الفكر الغيبي المتزمت أيضا .
تعديل ميزان القوى على الأرض من جديد لصالح العلمانيين ممكن في ظل الرياح العالمية التي تهب على الأرض , اذا انطلقوا من مكونات مجتمعنا السوري الحالي, فاتجاه الريح مواتية لهم . وانطلاقتهم الجديدة تحتاج الى العمل بروح جديدة قوامها :
الإقرار أولا بان وضع العلمانيين الحالي في سوريا بكافة تلاوينهم ( شيوعيين وبعثيين واشتراكيين وقوميين ولبراليين ) أقل تأثيرا وتواجدا من اللاهوتيين في الدولة والمجتمع .
الاتفاق فيما بينهم على تنحية تعارضاتهم ومهاتراتهم , ووضع خطوط عريضة يلتزمون بها من اجل نشر الفكر العلماني في كل المجالات .
ان أسلوب نشر الفكر يجب أن يكون على قاعدة احترام الرأي والرأي الأخر. والتنافس معه بروح وطنية يهمها مستقبل البلد لا افتعال المعارك الجانبية او رفع الشعارات التي تؤذي مشاعر جماهيرنا العفوية المتدينة .
طريق الألف ميل يبدأ بخطوة . ترى متى يخطوها العلمانيون في سوريا ؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى