صفحات العالم

عندما يصبح المستقبل أسوأ من الحاضر

نهلة الشهال
للمرة الأولى منذ دخول القسم الغربي من العالم إلى «الحداثة» بشقيها الفكري والاقتصادي، ومؤسساتيهما، وما يرافقها من فكرة التقدم المضطرد، تسود قناعة عامة في تلك المجتمعات بأن «الأبناء»، أي الجيل المقبل، سيعرفون شروط حياة أسوأ من آبائهم، وأنهم سيكونون أشد بؤساً اقتصادياً، وأقل اطمئناناً على استقرارهم في العمل وحصولهم على التقديمات الاجتماعية الأساسية الحامية لهم، كالطبابة والتعليم والسكن… ولا تختلف في ذلك البلدان التي طورت مؤسسات دولتية عامة لتوفير هذه الضمانات، كمعظم بلدان أوروبا الغربية وعلى رأسها فرنسا، حيث الدولة الرعائية شديدة القوة، عن تلك التي اعتمدت على فكرة الازدهار، أي تدفق الثروة ودينامية المجتمع القادرين على تنظيم مؤسسات خاصة للرعاية، كما في الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا منذ انتصار الثاتشرية.
للمرة الأولى إذاً منذ ما يتجاوز القرنين، لا يبدو المستقبل أفضل من الحاضر! يمكن تحسس هذه القتامة في تكرار الأفلام الكوارثية والأخروية التي تنتجها هوليوود منذ أكثر من عقد، والبعيدة من مجرد الرغبة في إثارة ارتعاشة خوف مسلية لدى مشاهدين ضجرين من رتابة حياتهم. أفلام تبدو ساعية اليوم ليس إلى التسلية بل إلى حمل الناس على تقبل تراجع أحوالهم، على أساس أن القادم يمكن أن يكون أبشع.
والحق أن العنف بأشكاله المختلفة لم يغادر تلك المجتمعات أبداً. فإن كانت قد قبرت العوز والمجاعات والجائحات التي كانت تحل بها حتى نهاية القرون الوسطى، ثم في القرنين الأولين من غزو القارة الأميركية، فهي بعد ذلك لم تتوقف عن ممارسة الحروب (العالميتين الأولى والثانية، وتلك الاستعمارية القديمة والجديدة). كما عرفت أزمات اقتصادية كبرى، أشهرها تلك المؤرخة بعام 1929. ولكنها في سياق ذلك كله، كانت متيقنة من أنها تقاتل من اجل دحر صيغ من تنظيمها لنفسها تتسم بالشذوذ عن الوعد بالرفاه والحرية والسعادة (كما في قتال النازية)، أو من أجل تحقيق مزيد من المكاسب لها، وإن كان الاستحواذ عليها ليس عادلاً تماماً (كما في مخططات الهيمنة على بقية العالم سلماً أو حرباً، واستغلاله).
نزول أكثر من مليوني فرنسي إلى الشارع الثلثاء الماضي يتجاوز التحرك المطلبي، ليلاقي هذه المعاني الوجودية. صحيح أن شعارات النقابات والأحزاب الداعية له تركزت على مناهضة مخططات السيد ساركوزي لإزالة المزيد من المكتسبات الاجتماعية بحجج مختلفة، وتحديداً منها: أولاً، التأقلم مع معطيات ديموغرافية جديدة، كارتفاع متوسط الحياة وتزايد أعداد كبار السن مقابل تناقص الشباب العامل (وهو واقع فعلي لا حل له إلا… بفتح باب الهجرة، على النقيض من الوجهة القمعية والأمنية المنتهجة في هذا المجال!)، وثانياً ضرورة مجابهة الأزمة الاقتصادية بـ «جهد عام»، بينما ترى الفئات الوسطى والفقيرة أن حصتها فيه تتجاوز نصيبها من المغانم، فيما تنفجر فضائح بنكية وحكومية تدور حول أرقام فلكية من بلايين اليورو، وتُصدر مؤسسات عريقة في الدولة الفرنسية تقارير تشير إلى أن الإعفاءات الضريبية التي قررها السيد ساركوزي لأصحاب الثروات الكبرى والمداخيل الأعلى تتسبب بخسارة للموازنة العامة تبلغ بلايين عدة أخرى، كفيلة بردم جزء معبِّر مما يقال له «فجوة» الضمان الصحي مثلاً. إنها حقاً معركة حول الخيارات الأساسية.
وهكذا، فتلك التحركات، وتحديداً في ارتباكها حول كيفية الاستمرار في المعركة أو تصعيدها، وفي تشوش إجاباتها عن البنود «التقنية» في مخططات الحكومة الحالية، تشي بواقعة أن المجابهة الدائرة ليست ظرفية، أو متعلقة برفع سن التقاعد إلى الـ62 عاماً بدل الستين، الذي يبدو والحال تلك مسألة تافهة بالنظر إلى القلق والمخاوف التي تنتاب الناس حيال الصرف الجماعي من العمل والتفكيك المتعمد، طويل النفس، للتعليم والطبابة، ودعم الخصخصة في قطاعات أساسية، منها تلك، ومنها أيضاً خدمات الكهرباء والماء والبريد…
ثمة أمران مستجدان على واقع الصراع الاجتماعي إذا ما رصدنا المثال الفرنسي. أولهما التناقض المتزايد بين استقلال المؤسسات الدولتية – ما تبقى منها – وبين الحكم. وهذه مسألة جوهرية في بنية النظام. فموضوعة الفصل بين السلطات تأسيسية كما هو معروف. ولكن المؤسستين التشريعية والقضائية تتعرضان بصورة منهجية إلى «اجتياح» بأساليب مختلفة من قبل الجهاز التنفيذي، يجري تبريره بأنه عائد إلى أسلوب ساركوزي الشخصي المتوتر والمتسلط. هناك تكرار انكشاف فضائح التعيينات في مواقع حساسة، قضائية وتشريعية وإعلامية… للمقربين والأتباع، بما يتجاوز من بعيد ممارسة الواسطة إلى عملية اخضاع و «تنوية». وهناك فضائح غير معهودة في النظام الفرنسي تعبر عن فساد مستشرٍ، لم يعد يقيم الدنيا ويقعدها ولا تصل محاسبته الى نتائج وعقوبات، بل هو يستفيد على الأغلب من «لفلفته» وطيه بالنسيان… وهناك مثال سياسي علني هو الأبرز، ربما لأنه الأكثر بساطة، هو ما رافق ويرافق الجدل حول الهوية، ومن ثَم الهجرة والحجاب والنقاب، وهي قطاعات متصلة. فقد سبق للمجلس الدستوري مثلاً أن أبدى تحفظه على قانونية حظر النقاب في الأماكن العامة، ولكن فريق السيد ساركوزي هزئ بهذا الرأي وأمعن، كما يمعن في السعي إلى إقرار التعديلات على قانون إسقاط الجنسية الفرنسية بسبب جرائم حق عام ليس إلا.
وقد يقال إنها أمثلة تتعلق بالسعي الديماغوجي للفريق الحاكم إلى كسب قطاعات اليمين المتطرف وأصواته الانتخابية (بينما هي في الواقع تعبير عن وجود هذا اليمين المتطرف في الحكم، بدلالة أبرز رموز تلك المعارك)، ولكن نتائجها تطاول ليس المهاجرين أو المسلمين فحسب، بل كل بنية الدولة: الاعتداء على، أو تجاوز، تقاليد المهابة والبطء والتأني والاستثنائية التي تحيط عادة بآليات المس بالدستور، بل بإقرار القوانين أو التعديلات عليها (بعكس الوزير إياه الذي قال بخفة: «نعدل الدستور إذا ما تناقض مع ما نسعى إليه»!).
أما المستجد الثاني فهو طغيان شعبوية فاقعة في مقاربة قضايا جوهرية بحيث يتم عمداً تشويش النقاش وتحويله إلى مهاترات واستعراض للعضلات، والتلويح بالقمع أو ممارسته فعلاً. وهذا رديف ذاك. أي لا يمكن إضعاف مؤسسات الدولة والإخلال بفصل السلطات من دون توسل هذا الأسلوب – إن لم نقل هذه «الأيديولوجيا»، فهي ليست مكتملة في مثالنا.
يبقى القول إن هذا المنحى العام لم يبتدعه ساركوزي، بل بدأ قبل وفوده إلى الحكم. ولا بد من التمييز هنا بين ما يبدو ظرفياً – ومبتذلاً، سهل الفضح – وما هو مستقر، يعبر عن وجهة عامة، لعلها تقول إن النموذج القائم وصل إلى نهايات طاقته. أليس ذلك ما يجعل الشعور بالمستقبل متشائماً؟
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى