صفحات العالم

المشهد الإقليمي والمبادرات الأمريكية

سليمان تقي الدين
يتحضّر الأمريكيون نهاية الصيف لبلورة الخطوط العريضة لاستراتيجيتهم الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط. ينتظرون أجوبة إيرانية ليباشروا التفاوض مجدداً أو تشديد العقوبات الخانقة ويستعيدون التحضير لعمل عسكري إذا فشلت الوسائل السياسية. على المسار السوري يطلبون المزيد من التعاون لوقف الهجمات التي يتهمون بها حزب “البعث” العراقي المنحل والذي لجأ بعض قادته إلى سوريا. ما يزعج الأمريكيين أيضاً الحراك المستقل الذي قام به السوريون مع تركيا وإيران والعراق من أجل بناء تفاهمات حول مستقبل العراق ومعالجة مشتركة للمسألة الكردية التي تهم هذه الأطراف.
على المسار الفلسطيني يهم الأمريكيين أن تنجح المرجعية المصرية بشكل رئيسي في جذب “حماس” إلى مشروع التفاوض انطلاقاً من مبدأ التسليم بحل الدولتين وبشرعية السلطة الفلسطينية المستمدة من اتفاقية أوسلو. وعلى جانب الكيان الصهيوني يريد الأمريكيون مرونة أكبر من نتنياهو تسمح لهم بالضغط على العرب من أجل المزيد من التطمينات. لقد رهنوا وقف الاستيطان بالتطبيع.
يريدون إزالة كل آثار الموقف العربي الذي أعقب الحرب على “غزّة”. نتنياهو يمارس أعلى درجات التصلّب ويضع مسألة الأمن القومي للكيان الصهيوني في رأس الأولويات. يركز نتنياهو على الأمن في إطاره الإقليمي الأوسع. يبدأ من إيران . يريد ضمانات بعدم إنجاز إيران التكنولوجيا النووية بأي ثمن. أما الجوار العربي فهو يبحث عن “درع صاروخية” مع أمريكا وأوروبا كالتي تنشرها أمريكا حول روسيا. على المسار اللبناني يحرص الأمريكيون على أن يحتفظوا بدورهم من خلال الفريق المتعاون معهم ويريدون لهذا الفريق أن يقبض على المفاصل الأمنية في السلطة: وزارة الدفاع والداخلية والاتصالات. ويريدون أن يبقى “سلاح المقاومة” قيد التداول ويسعون إلى جعل توطين الفلسطينيين في لبنان مقبولاً لدى بعض الأطراف. هم يعتقدون أن الوجود الفلسطيني يخدم التوازن في لبنان ولو أن المسيحيين هم الأكثر تضرراً من ذلك. ينظر الأمريكيون إلى الأطراف الفاعلة من لبنان في منظار البعد الإقليمي. المسيحيون لم يعودوا طرفاً رئيسياً بالمعادلة. يظهر الأمريكيون اهتماماً وقلقاً شديدين من الموقف والموقع الدرزي في المعادلة الوطنية. يعرفون أن الجغرافيا الدرزية تغيّر الخارطة برمتها. تعاون الدروز مع الشيعة أو مع “حزب الله” والمقاومة يجعل ثلاثة أرباع لبنان في هذا المدار أو التحالف بما في ذلك نصف جبل لبنان أو أكثر ونصف بيروت.
يعرف الأمريكيون أن معاجلة سلاح “حزب الله” لا يعالج إلاّ في إطار إقليمي من خلال سوريا وإيران حرباً أم سلماً. الدولة العبرية ترغب في شن حرب على لبنان لكن الأمريكيين هم الذين يدفعون كلفتها في مناطق أخرى. الحرب على لبنان تصبح مطروحة عندما يحتاج الأمريكيون إلى ممارسة الضغط الكبير على سوريا وإيران إذا فشلت المفاوضات حول العراق وأفغانستان.
يسهم الأمريكيون وأصدقاؤهم اليوم في إعادة التفجيرات في العراق فتبادر إيران إلى رعاية التوتر في اليمن. مصر البعيدة عن المشكلات الأمنية تعتقد ان الورقة الفلسطينية هي التي تجعل منها طرفاً في الترتيبات الإقليمية في المشرق العربي. لقد بدت منزعجة جداً من التفاهم السوري- السعودي الذي يخرجها من المعادلة فساهمت في تشجيع بعض الأطراف اللبنانية على عدم تسهيل تأليف الحكومة والانفتاح على دمشق وتطبيع العلاقات معها. ترابط الأزمات والمشكلات في المنطقة يفرض نفسه على صانعي القرار. يحتاج لبنان إلى حد أدنى من التفاهمات الكبرى ليحل مشكلاته الداخلية. تأليف الحكومة لا يتوقف على الحصص السياسية وحدها، هو دليل على رغبة الفرقاء في التعاون ومعاجلة المشكلات الكبرى. الجميع في لبنان يراهن على التحولات والمتغيرات. على الأقل هناك طرف ينتظر في منتصف سبتمبر/ أيلول قرار المحكمة الدولية الظني. يعتقد أنه في جميع الظروف سيربك الفريق الآخر وسيسهل الضغط عليه واستدراجه لتقديم التنازلات. لكن لا أحد يعرف طبيعة رد فعل الفريق الذي يشعر بالضيق من قرار المحكمة. على الأقل لن يسلم بنتائجها وقد لا يستجيب لإجراءاتها. تأخير الحكومة اليوم يمهد لأزمة وطنية وليس العكس.
لن تتوقف المبادرات الداخلية لتسهيل تأليف الحكومة، وكذلك اللقاءات والحوارات. لكن شيئاً فعلياً لن يحصل ما لم تأتِ إشارات خارجية ضاغطة على الأطراف لإيجاد مخرج. النظام نفسه لا يوفر وسائل للمعالجة والتوازنات الواقعية لا تسمح بنظرية الديمقراطية وحكم الأكثرية النيابية. فضلاً عن ذلك لم يعد هناك أكثرية نيابية مهما كابر بعض الأطراف. يكفي أن تتمايز كتلة نيابية صغيرة لكي تبدّل المشهد وهذا ما حصل.

محاولات ترميم الأكثرية النيابية لن تنجح في إعادة التماسك السابق والاصطفاف، لأن بعض المصالح الحيوية عند فريق مذهبي تفرض عليه الخروج من موقع المواجهة بين الكتل الكبرى. قد تستمر الأزمة اللبنانية إلى ما بعد جلاء المعطيات الإقليمية. هل يسمح الأمريكيون لتركيا وإيران أن يصلحا العلاقة السورية – العراقية؟ وهل تسارع أمريكا إلى طرح أفكارها لحل أزمة الشرق الأوسط والصراع العربي – “الإسرائيلي” فتوقف التداعيات الأمنية وتسير في اتجاه التفاوض؟ تلك هي المسألة الآن.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى