صبحي حديديصفحات سورية

حكمت الشهابي العائد: مهازل المخضرمين وهزال ‘الحرس الفتي’

null
صبحي حديدي
هل هو ‘عميل أمريكي’، كُشف أمره لدى حافظ الأسد منذ مطلع السبعينيات، بمساعدة مباشرة من أجهزة الإستخبارات السوفييتية آنذاك؟ أم هو ‘رجل وطني بكل ما تحمله الكلمة من معنى’، و’لم يضع يده في يد أي من أعداء سورية’؟
صاحب الرأي الثاني هو اللواء المتقاعد سليمان حداد، النائب في مجلس الشعب السوري ورئيس لجنة العلاقات الخارجية حالياً؛ المعاون السابق لوزير الخارجية، والسفير الأسبق في دول اوروبية عديدة، بينها ألمانيا؛ ورجل الظلّ الذي كان أحد القلّة المقرّبين من الأسد الأب شخصياً. أما صاحب الرأي الأوّل، حول العمالة للمخابرات المركزية الأمريكية، فهو العماد أوّل المتقاعد مصطفى طلاس: 32 سنة في وزارة الدفاع السورية، و52 سنة في السلك العسكري، حامل 39 وساماً محلياً وعربياً وأجنبياً، حتى ليكاد المرء يعجب كيف يطيق احتمال أثقالها على صدره. وأمّا موضوع المدح أو القدح، فإنه العماد أوّل المتقاعد حكمت الشهابي، رئيس الأركان الأسبق (1974 ـ 1998)، أحد أبرز أعضاء مجلس الأمن القومي السوري، وأرفع ضابط في الجيش السوري يلتقي مع رئيس أركان إسرائيلي (أمنون شاحاك)، في واشنطن سنة 1995، صحبة وزير الخارجية السوري الراهن وليد المعلم؛ العائد مؤخراً إلى سورية، من إقامة طويلة في الولايات المتحدة.
هؤلاء ثلاثة من مخضرمي ‘الحركة التصحيحية’، ذلك الإنقلاب العسكري الداخلي الذي نفّذه اللواء حافظ الأسد، وزير الدفاع، خريف 1970، وتولى بعده السلطة المطلقة، فأرسى تقاليد نظام استبداد وفساد سوف يمتدّ حتى رحيله في حزيران (يونيو) 2000، ليواصل نجله ووريثه بشار الأسد التقاليد ذاتها، في طبعات بعضها أسوأ، وبعضها الآخر أردأ. وللمرء أن يبدأ من تنويه ضروري حول انعدام الأهمية، أو وهن الدلالة وهزال المغزى، في أن يختلف حدّاد وطلاس حول تقييم الشهابي، ليس لأنّ الأخير صار في متحف ‘الحركة التصحيحية’ فحسب، بل لأنّ ذامّه مثل مادحه ليسا البتة في وضع أفضل. وقبل أيام معدودات، راقب وزير الإعلام السوري محسن بلال حلقة من برنامج ‘علامة فارقة’ ـ التي تُبثّ من الفضائية السورية الرسمية، بإشراف ممتاز الشيخ، المدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون! ـ كان ضيفها سليمان حدّاد، دون سواه، قبل أن يهبط قرار بعدم بثّها وإلغاء البرنامج كلّه وإنهاء عمل مقدّمه ومعدّه الإعلامي والشاعر إبراهيم الجبين. من جانبه، لم يعد لدى العماد المتقاعد طلاس أي منبر محلي أو عربي يكترث باستضافته ومنحه فرصة إطلاق فقاعاته الدراماتيكة المعتادة، فلجأ إلى تلفزة ‘روسيا اليوم’، وأتى حقاً بما لم تستطعه الأوائل!
لقد روى طلاس ـ وهذه السطور تقتبسه حرفياً، مع تعديل من العامية إلى الفصحى فقط ـ أنّ الأسد الأب أرسل العماد حكمت الشهابي ليجلب سلاحاً، لكنّ الـ KGB كانت تعرف أن للشهابي علاقات بالمخابرات الأمريكية، وكانت تعرف ارتباطه الكامل، ولهذا أحضروا له قائمة أسلحة بـ 262 مليون روبل فقط، وأخبروه أنه يستطيع أن يشطب من اللائحة ما يشاء، ولكنه لا يستطيع إضافة طلقة واحدة إليها. ولأنّ اللائحة تضمنت أسلحة قديمة فقط، فقد عاد الشهابي خائباً، وهنا لجأ الأسد إلى ‘حظوة’ طلاس عند السوفييت، وسأله أن يذهب لمتابعة مهمة الشهابي، فاستمهله طلاس أن يتشاور مع صديقه وزير الدفاع السوفييتي الماريشال غريتشكو ـ عبر الخط الأحمر الذي يصل بينهما دائماً ـ فقال له الأخير: إذا جئتَ أنت فهناك أسلحة حديثة، أمّا عملاء المخابرات الأمريكية، فلا نعطيهم أسلحة. وهكذا كان، فتمكن طلاس من توقيع 26 اتفاقية، بقيمة تتجاوز 3 مليارات روبل. وإذْ يسأل المحاوِر، كيف سكتت القيادة السورية عن الشهابي وهي تعرف ‘ارتباطه الكامل’، يجيب طلاس: الرئيس حافظ كان يحب أن يبقي علاقاته مع الأمريكان، ولا يقطع شعرة معاوية معهم، في حين أنّ الرئيس بشار حاسم في هذا الموضوع، وهو مثل حدّ السيف، فعدوّنا هو عدوّنا، ولا مجال للمجاملة.
وبمعزل عن سخف هذه الحكاية، سيّما الزعم بأنّ السوفييت لا يعطون أسلحة لعميل أمريكي، رغم أنّ هذا العميل سيعود بها إلى ترسانة النظام ذاته الذي ينتمي إليه طلاس ذو الحظوة عند السوفييت، فإنّ حدّ السيف لم يقع على رقبة الشهابي من يد بشار الأسد (الذي أعاد له الإعتبار)، بل من يد أبيه حافظ الأسد (الذي أرسله إلى التقاعد). وفي صيف 1998 اتخذ الأسد الأب سلسلة قرارات لافتة، بدأت بمرسوم إعفاء شقيقه رفعت الأسد من منصب نائب الرئيس، ثمّ أعقبتها بمجموعة مناقلات في صفوف كبار قادة الألوية العسكرية، وبعض فروع الأمن الحساسة في جهاز الأمن العسكري ومخابرات القوى الجوية خاصة؛ وصولاً إلى القرار الأهمّ في تلك الحقبة، أي إحالة العماد أوّل حكمت الشهابي إلى التقاعد من رئاسة أركان الجيش. وكانت تلك الإجراءات تخدم جميعها الغرض البعيد المتمثّل في ترتيب البيت الداخلي على أكثر من صعيد، وربما على جميع الأصعدة في آن معاً، وإنْ بطريقة بطيئة أقرب إلى منطق الأواني المستطرقة إذا صحّ القول، حيث المرحلة الأولى لا تمهّد لمرحلة ثانية فحسب، بل تستولد الشروط الموضوعية الباعثة على الشروع في مراحل ثالثة ورابعة وخامسة أيضاً.
ذلك لأن معنى ‘البيت الداخلي’ هنا لا يتضمن المجتمع، أو هو ليس هياكل المجتمع في أية منظومات دينامية حيوية ضاغطة على الأقل (معارضة، صحافة حرّة، حريات التجمع أو التظاهر أو الإضراب، الخ …)، بل هو تلك الآلة المعقدة التي ظلّت تدير التوازنات العسكرية والأمنية والحزبية ـ السياسية والاقتصادية ـ الاجتماعية في سورية، طيلة 28 سنة، ودون هزّات كبرى حقيقية، ما خلا سنوات الصراع المسلّح مع الإخوان المسلمين (1979 ـ 1982). ولأنه ليس المجتمع بهذا المعنى، فإنّ ترتيب البيت الداخلي ذاك خضع لقوانين داخلية خاصة قد لا تُسْلم قيادها للتحليل المنطقي، اعتماداً على معطيات قياس تدفع إلى استنتاجات سليمة معيارية أو حتى نمطية. الغاية كانت خدمة انتقال السلطة إلى بشار الأسد، على نحو سلس وآمن ووطيد؛ أمّا الوسائل فإنّ الغاية لم تكن تبرّرها فحسب، بل كانت تضفي على إدراكها أستاراً خلف أستار من الغموض، او حتى تطمس الحاجة إلى مناقشة منطق الوسيلة أصلاً!
ولأنّ التقاعد هو التقاعد، فإن القياس المنطقي النمطي كان يسوق أسئلة قياسية نمطية، من النوع التالي على سبيل المثال: أتلك كانت إطاحة بالشهابي، كرئيس أركان فقط؟ وإذا كانت كذلك، فكيف ولماذا؟ ألم تكن الحكمة الشائعة تقول إن الشهابي كان واحداً من أقوى وأخلص الرموز في الفريق العسكري المحيط بالأسد الأب، وأنه كان أرفع مكانة من طلاس نفسه؟ ألم تكن الحكمة ذاتها تقول إن وجوده في رئاسة الأركان شكّل، طيلة نحو ربع قرن، صمّام أمان وتوحيد، وضبط وانضباط، في آن معاً؟ ألم يكن ضابط الإرتباط التحالفي بين ‘الحركة التصحيحية’ وتجّار مدينة حلب، الذين لا يقلّ دورهم في الحياة السياسية السورية عن دور تجّار مدينة دمشق؟ ألم يكن الشهابي هو العسكري السوري الأكثر حظوة بالمباركة الخليجية إجمالاً، والسعودية بصفة خاصة؟ ولكن لأنّ التقاعد يمكن أن يعني الإراحة وليس الإطاحة، فإن القياس المنطقي (غير النمطي هذه المرّة) كان يسوق أسئلة غير نمطية بدورها، دون أن يعني ذلك أنها ليست قياسية: ألا يصحّ أنّ الشهابي، وللأسباب السالفة إياها، يمكن أن ينقلب إلى صورة القياس الأعلى، أو أقصى القياس في الواقع، إذا كان الأسد الأب يزمع تجديد دم القيادات العسكرية العليا، وإعادتها إلى حاضنة المؤسسة العسكرية المحترفة، المنضوية في الثكنات وحدها، وليس المؤسسة التي تمارس جملة أغراض سياسية وأمنية قد تُلحق الأذى ببرامج ترقية بشار الأسد؟ وإذا كانت عملية تجديد الدم هذه تتطلّب إحالة حفنة من كبار رموز الحرس القديم إلى التقاعد، أفليس الشهابي هو منتهى القياس بالنسبة إلى الآخرين، ابتداءً من رأس المخابرات العسكرية علي دوبا، مروراً بقادة فرق وصنوف أسلحة من أمثال شفيق فياض وعلي الصالح، وانتهاء برأس مخابرات القوى الجوية اللواء محمد الخولي؟
هذه أسئلة تتردد أصداؤها اليوم، ليس لأنّ عودة الشهابي إلى سورية يمكن أن ترتدي أية دلالات سياسية (من طراز كاريكاتور الحديث عن دور للرجل في انقلاب وليد جنبلاط، أو دور مستقبلي في تحسين العلاقات الأمريكية ـ السورية، أو حتى الأمريكية ـ السعودية)؛ بل لأنها أسئلة تصلح، مع تعديلات تقتضيها تبدلات الأزمنة وتباينات الأشخاص، في فهم نهايات أو بدايات رجال المرحلة الراهنة من عمر ‘الحركة التصحيحية’: من اللواء آصف شوكت، صهر الرئاسة، ورأس جهاز الإستخبارات العسكرية الفعلي (رغم وجود اللواء عبد الفتاح قدسية في سدّة المنصب، رسمياً)، ونائب رئيس الأركان (ريثما يتقاعد العماد داود راجحة، أو يُنقل إلى وزارة الدفاع مثلاً)؛ إلى اللواء علي مملوك، رأس المخابرات العامة، وعرّاب كلّ الأعمال، من اعتقال العباد إلى منعهم من السفر وتسريحهم من الوظائف، الذي يتولى المنصب بصفة مدنية بعد إحالته إلى التقاعد كعسكري، في انتظار ترقية نائبه اللواء زهير حمد؛ دون أن يتغافل المرء عن مصائر غازي كنعان، المنحور أو المنتحر؛ وبهجت سليمان، عزيز ضبّاط جهاز الأمن القومي الذي ذُلّ فى إلى سفارة في العاصمة الأردنية عمّان؛ أو اللواء حسن خلوف، الرئيس السابق لفرع فلسطين في المخابرات العسكرية، والسفير حالياً في السويد؛ واللواء محمد منصورة، رئيس شعبة الأمن السياسي السابق الذي أُحيل إلى التقاعد، ويتردد أنه اليوم رهن التوقيف…
هذه، وإنْ بدت أشبه بلعبة كراسٍ موسيقية وأسماء متقاطعة، ليست سوى تجليات متعاقبة لمأزق مركزي عاشه نظام الأسد الابن منذ بدايات ترقيته، وقبل سنتين على الأقلّ من رحيل الأسد الأب: العثور على طاقم حكم متماسك متين، أمني وعسكري وسياسي، يواصل تقاليد ‘الحركة التصحيحية’ دون كبير هزّات وانتكاسات. وفي حين أنّ الأسد الأب تمكن، في أسابيع قليلة بعيد ‘الحركة التصحيحية’، من تشكيل ذلك الطاقم، الذي ضمّ ضباطاً من أمثال رفعت الأسد وعلي دوبا ومحمد الخولي وعلي حيدر وحكمت الشهابي وشفيق فياض وابراهيم صافي ومحمد ناصيف وناجي جميل، ومدنيين من أمثال عبد الرحمن خليفاوي عبد الحليم خدام وعبد الرؤوف الكسم ومحمد حيدر، وجد الأسد الابن أنّ أفضل ما يستطيع تركيبه من ‘حرس جديد’ هو إحاطة القصر بالأخ والأخت والصهر والخال وابن الخال!
وليس بغير تبرير جلي، حتى إذا كان نصيبه من الصحة منعدماً واهياً، أنّ عودة العماد أوّل المتقاعد حكمت الشهابي إلى مزرعته الشخصية في ظاهر حلب، يمكن أن تحرّك ما هبّ ودبّ من طواحين الشائعات، وأن يختلف في عمالته أو وطنيته اثنان من مخضرمي الحرس القديم!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى