صفحات العالممحمد سيد رصاص

الفرقة الزيدية والحوثيون

محمد سيد رصاص
قدّم الإمام زيد بن علي زين العابدين (79-122هـ مات740م) رؤية وسطية في مسألة الإمامة، التي يقول الشهرستاني عنها في كتاب “الملل والنِحل” إن “أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان”. كان جواب الإمام زيد متمثلاً في قوله بجواز “إمامة المفضول” (أبو بكر وعمر) مع وجود “الأفضل” (عليُّ)، معتبراً أن علياً قد ترك الخلافة وبايع الإثنين من أجل “وحدة الجماعة”، لهذا رفض اعتبار خلافتهما”خروجاً”، ولهذا رفض أيضاً قول الشيعة الإمامية بأن الإمامة، مثل النبوّة، من أركان الدين ومن شروط الإيمان، مستخلصاً من خلال هذا ضرورة نبذ التفريق بين الإيمان والاسلام.
كان من الطبيعي أن تقود هذه الوسطية إلى موقع ثالث، بدأ بالتبلور منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري بالتوازي مع التكوُّن البطيء والمتعدد الطرق لكل من السُنّة والشيعة، ربماكان أحد تجلياته هو تتلمذ الإمام زيد على يدي واصل بن عطاء (ت131) مؤسس مذهب المعتزلة الذي كان ببداياته مرفوضاً من الطرفين أيضاً(مثلاً: أنكر الإمام محمد الباقر على أخيه زيد أن يكون تلميذاً لذلك المعتزلي الذي يقول بمقولة المنزلة بين المنزلتين في الحكم على متجابهي معركتي الجمل وصفيّن)، لتصير الزيدية بحكم تلك الوسطية ترى – كما يقول الشهرستاني أمور أصول الدين على”رأي المعتزلة……. وأما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة يوافقون فيها الشافعي رحمه الله والشيعة”.
عملياً، أدى هذا الوضع إلى أن لا يكون هناك متابعون زيديون للإمام زيد لا في الأصول ولا في الفروع، وربما كان صحيحاً ما قاله الشيخ بدر الدين الحوثي منذ ثمانينيات القرن العشرين بأن “نسبة الزيدية إلى زيد بن علي هي نسبة حركية وليست مذهبية”. أيضاً ، كان من الطبيعي أن يقود هذا الوضع، الذي بدأت فيه الزيدية هكذا مع الإمام زيد، إلى طريقين توزعت الزيدية بحكم وسطيتها بينهما: ظهرت أولى الملامح عن ذلك مع اقتراب أحد أهم تلاميذ الإمام زيد، وهو أبوجارود (ت160هـ)، من القائلين بالإمامة، لما رفض قول أستاذه بأن “النص على الإمامة هو بالوصف “لا بالتعيين أوبالتسمية، قائلاً بأن هناك “تسمية خفية”، وأن الناس “كفروا” لما قصّروا في طلب الموصوف أوبالتعرف عليه. حصل هذا أيضاً مع الإمام الهادي الذي أقام أول مملكة للزيدية في اليمن بصعدة عام897م، والذي كان أول من حاول وضع قوام مذهبي للزيدية في مجالي الأصول والفروع، حيث يلاحظ عنده اقتراب من الشيعة لما رفض كل حديث نبوي إلاعبر”مرويّات الأئمة “ومن جاورهم، وقد أعلن (الهادي) تلك المملكة اليمنية بوصفها امتداداً للإمامة الزيدية المقامة في مناطق الجبل والديلم من بلاد فارس، والتي كان البويهيون قد أتوا منها للسيطرة على مقدرات الدولة العباسية بعام945م متبنين الإمامة الإثني عشرية وتاركين الزيدية، ربما لأن”غياب الإمام “عند الإثني عشرية هو أكثر تناسباً معهم كحكام لبغداد من الخضوع لحكم إمام قائم. في موازاة هذا الطريق، بدأ اتجاه ثانٍ بالتبلور منذ القرن الخامس عشر الميلادي عند الزيدية نحو الإقتراب من السُنّة أولاً مع ابن الوزير اليمني الصنعاني(ت1436م) الذي كان متأثراً بإبن حزم الظاهري وابن تيمية الحنبلي في قولهما بعدم التقيّد بأي مذهب أوبالتقليد، معتبرين المرجعية في الكتاب والسُنّة فقط، وهو ما أكسبه ثورة الزيدية التقليدية ضده وأولهم أساتذته، ليصل هذا الإتجاه إلى الترسخ والقوة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين مع الإمام الأمير الصنعاني (ت1770) وهو من كبار علماء الحديث بين مسلمي عصره، ثم مع الإمام الشوكاني (ت1834)، وهو كبير علماء الزيدية وقضاتها بأيامه، والذي لم يقتصر تأثره على ابن حنبل وابن تيمية وإنما امتد عنده للتأثر بأفكار الحركة الوهابية. من هنا، لم يكن خارجاً عن السياق أن يوجد أناس زيديون بعضهم من آل الوزير في (حركة الأحرار) التي تأسست عام 1944 وهي التي كانت على ارتباط مع زعيم حركة الإخوان المسلمين حسن البنّا ومتأثرة بالشوكاني أيضاً قبل أن تقوم بمحاولة انقلاب في 17شباط 1948 التي قتل فيها الإمام يحيى ولكن من دون أن تستطيع إسقاط حكم الأئمة من آل حميد الدين، كما أنه، وبحكم المسار نفسه، فقد كان من غير المستغرب أن يوجد انسان زيدي، مثل الشيخ عبدالله الأحمر زعيم اتحاد قبائل حاشد، على رأس تنظيم (التجمع اليمني للإصلاح) عند تأسيسه في أيلول1990، وهو الذي يشكّل (الإخوان المسلمون) نواته الرئيسية.
لا يمكن فهم حركة الحوثيين بدون هذا المسار الثنائي الإتجاه للمذهب الزيدي، والذي استغرق قروناً طويلة من الزمن: أُعطيت الملامح الفكرية الأولى لهذه الحركة على يدي الشيخ بدر الدين الحوثي، وهو أحد كبار علماء الزيدية بالنصف الثاني من القرن العشرين، ثم من قبل ابنه حسين الذي قاد التمرد الحوثي الأول في حزيران 2004 قبل أن يقتل في أيلول من ذلك العام. منذ الثمانينيات، خالف الشيخ بدر الدين مشايخ آخرين من كبار علماء الزيدية (مجد الدين المؤيدي، أحمد الشامي، محمد المنصور… إلخ) قالوا بأن شرط البيت الهاشمي للإمامة كان من ضمن ظرف تاريخي هو لم يعد قائماً. بالمقابل، اعتبر الشيخ الحوثي أن الشيعة الإمامية هم أقرب المذاهب من الزيدية، وليس السُنّة، في اتجاه معاكس لحوالي ستة قرون من حراك غالب على الجسم الفقهي (والاجتماعي) للزيدية، كما أنه اقترب من عقيدة (أبو جارود) التي تقول بالنص على إمامة عليّ، ليصل من خلال هذا إلى رفض صريح لقول الإمام زيد حول “إمامة المفضول”، ثم ليقفز من هذا للقول بأن الإمامة من شروط الإيمان، الذي فرّق الحوثي بينه وبين الاسلام، وهو ما تابعه ابنه حسين الذي أسس (تنظيم الشباب المؤمن) في عام 1997 قبل أن يذهب لايران، ليعود ويعطي حركة تنظيمه طابعاً شيعياً في مقولات العقيدة، ثم في المظاهر التي كانت غير موجودة عند الزيدية، مثل الإحتفال بـ(عيد الغدير) وبـ(يوم عاشوراء).
السؤال الآن: هل تؤشر الحركة الحوثية إلى قرب انتهاء حالة التعايش في المذهب الزيدي (30% من سكان اليمن الموحَد، و50% من اليمن الشمالي) بين طريقين مختلفين ظلاَ لقرون مديدة من الزمن تحت خيمة المذهب، خاصة وأن هذه الحركة يوجَّه تمردها ضد سلطة رئيس ينتمي إلى الزيدية وضد جيش يشكل الزيديون، الذين هم من صنعاء وحواليها، عصباً رئيسياً فيه، ليتحول الحوثيون من خلال ذلك إلى حركة ذات لبوس عقائدي جديد على الزيدية هي محصورة ضمن مناطق مدينة صعدة ومناطقها، وهي المناطق التي تعاني تهميشاً في الوظائف والتعيينات والخدمات الحكومية منذ مصالحة آذار1970 بين الجمهوريين والملكيين “المعتدلين” والتي استبعد منها غلاة أنصار الملكية الإمامية في أقصى مناطق الشمال، حيث يبدو، ومن خلال مؤشرات عديدة، أن الحوثيين امتداد لهم من خلال رفضهم لشرعية ثورة26أيلول 1962 الجمهورية التي أطاحت بحكم إمامة آل حميد الدين؟.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى