صفحات سورية

سورية وحماس.. السياسة تتجاوز الأيديولوجيا

null
عياد البطنيجي
حين يُنظر إلى العلاقة بين سورية وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، لا يساور المرء أي شك بأن تبادلاً للمصالح والنفوذ، وتقاطعاً في المصالح والأدوار يجري بين الطرفين؛ بالرغم من التباين بين طبيعة النظام السوري ونظيره الحمساوي. فهذه تنتمي إلى فضاء الإيديولوجية الإسلامية (حماس)، وذاك نظام يستمد قوة دفعه من إيديولوجية دنيوية — علمانية (سورية)، فضلا عن حالة العداء الشديد التي تسم علاقة سورية بجماعة الإخوان المسلمين أشد خصوم النظام البعثي في سورية. وهذه طبقة حاكمة علوية المذهب، وتلك حركة سنية المذهب. ومع ذلك تقيم حماس الإخوانية علاقات وطيدة مع النظام السوري “اللاديني” كما تصفه الأيديولوجية الإخوانية.
وعليه، فإن الطرفين يفترقان أيديولوجيا؛ ويلتقيان سياسيا؛ لأن الاعتبار الديني يتراجع في مثل هذه الحالات، التي سنأتي على بيانها في موضع آخر، لصالح الجانب المصلحي، وهو ما يعكس البرجماتية التي كثيرا ما ميزت سياسة الطرفين. وهكذا، يتضح أن إكسير العلاقة بين الطرفين قائمة على المصالح لا أكثر ولا أقل؛ لا على الشعارات المرفوعة التي يطلقها الطرفان هنا وهناك عبر وسائل إعلامهما وألسن قيادتهما. وبالتالي طالما عرفنا مربط الفرس في العلاقة بينهما، نستطيع استشراف مستقبل العلاقات فيما بينهم. وسوف نحاول الاقتراب من هذه العلاقة، لمعرفة كيف بدأت، وأسباب هذا التقارب، والعوامل التي قد تؤدي إلى أضاعفها، ومدى صلابتها في مواجهة الضغوط. وذلك من خلال طرح التساؤلات التالية: ما هي تلك المصالح التي تجمعهما؟ والى متى ستبقى سورية تسير في خطاها إزاء حماس؟ وهل ما تقوم به من دعم لحماس سوف يستمر طويلا؟ وماذا سيحصل لتلك العلاقات في حال وقعت سورية اتفاق سلاما مع إسرائيل؟ ماذا سيكون الموقف السوري إزاء حماس، هل ستبقى قيادتها متواجدة على الأراضي السورية أم سينتقلون إلى أماكن أخرى؟
إذا كانت أس العلاقة وتجذرها بين الطرفين قائمة على المصالح، فإنه من المنطقي ـ والحالة هذه ـ أن نحكم على استمرارية العلاقة أو انتفائها على أساس استمرار المصالح بينهما أو انتفائها، وبالتالي ستنقشع بمجرد انتفاؤها لعدم الحاجة إليها لوجود مصلحة أخرى.
بعبارة أخرى طالما أن العلاقات السورية— الحمساوية تشكلت على أساس المصلحة، فإن استمراريتها مرتبط ببقاء هذه المصلحة، واختفاء هذه الأخيرة أو انتفاؤها لعدم وجود الحاجة إليها لوجود مصالح أخرى أهم وأفضل منها، فمن المنطقي أن العلاقات بين الطرفين ستنتهي حالما تنتفي الحاجة إليها.
*السياسة السورية تجاه حركة حماس:
ترتبط حماس بسورية بعلاقات متشعبة: سياسية وأمنية وعسكرية. بيد أن الغالب في هذه العلاقة هو الطابع الأمني؛ لأن علاقة المنظمات الفلسطينية القابعة في دمشق تكون مع قيادة المخابرات العسكرية السورية، بغية التنسيق فيما يتعلق بالقرارات الأمنية والسياسية، وبالتالي لا يتم عبر أطر وزارة الخارجية السورية، وإنما عبر شعبة المخابرات العسكرية المكلفة بتبليغ القرارات ونقل وجهات نظر هذه المنظمات الفلسطينية إلى الرئيس السوري مباشرة، فهي القناة الوحيدة التي تعامل بها الرئيس حافظ الأسد مع المنظمات الفلسطينية الموجودة على الأراضي سورية.
ولعل ما له دلالة في هذا السياق، أن التنسيق الأمني العالي بين الطرفين، وهذه العلاقة القائمة على التعاون الأمني أكثر من أي شيء آخر، يثيران الشكوك بتورط سورية وعلمها مسبقا بالانقلاب الذي قامت به حركة حماس واستيلائها على قطاع غزة في حزيران/ يونيو 2007.
وهناك العديد من المتغيرات تدفع الطرفين إلى التعاون وتنسيق سياساتهما مع بعضهما البعض. فكلا الطرفين وجد مبتغاه في الطرف الآخر، وأن ثمة منفعة مشتركة في تعميق تعاونهما وتنسيق سياساتهما، سورية مهمة لحماس كما أن حماس مهمة لسورية أيضا.
فمن المنظور السوري، تعتبر حماس حركة منافسة لـحركة فتح وهيمنة هذه الأخيرة على النظام السياسي الفلسطيني، فضلا عن أنها ترفض التسوية السلمية التي تقودها فتح مع إسرائيل، في الوقت الذي اختارت فيه حماس نهجًا آخر انحاز إلى خط المقاومة.
ولأن الاحتلال لا يزال قائما، فإن حماس بموقفها المقاوم والرافض للحلول التسووية، بدأت في كسب الشارع الفلسطيني، وتعاظم ذلك الكسب بمضي الوقت بفعل عدة عوامل منها: استمرار تحديها للعدو الإسرائيلي بعمليات تمت داخل إسرائيل ذاتها، وشعور الفلسطينيين بالإحباط حين أدركوا أنهم لم يجنوا شيئا من اتفاقيات أوسلو، وفشل المحادثات التي أجراها في كامب ديفد عام 2000 الرئيس الفلسطيني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك بحضور الرئيس كلينتون.
وبعد فشل أوسلو واندلاع انتفاضة الأقصى وحصار الرئيس عرفات في رام الله، وتسميمه هناك ثم وفاته عام 2004، وفوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات عام 2006م، وما أعقب ذلك من حصارها وتهميشها إقليميا ودوليا، فضلا عن قدرتها على أن تلعب دورا في غاية الأهمية في إرباك خصومها (الذين هم خصوم سورية أيضا) أو الضغط عليهم لفرض بعض شروطها، بالإضافة إلى أنها تسير باتجاه معاكس للسياسة الأمريكية في المنطقة، زد على ذلك أنها حصلت على الشرعية القانونية بفوزها بالانتخابات التشريعية الثانية 2006. لهذه الأسباب عمقت سورية ارتباطها بحركة حماس. أي أن حماس عنصرٌ مهم من عناصر الإستراتيجية السورية.
وتعاون سورية مع حماس يأتي ضمن رؤيتها الإستراتيجية ومنهجها تجاه فلسطين. فسورية لم تأل جهداً في محاولات صعبة وأحياناً شاقة لاحتواء النضال الفلسطيني ثم بعض منه عندما اندفعت قيادة منظمة التحرير إلى خيارات لا تتفق والأهداف السورية، وجاهدت لإفشال أو إعاقة أكثر من مشروع للتسوية التي حاولت القيادة الفلسطينية تبنيه أو سارت في ركابه، فانحازت انحيازاً سافراً إلى منظمة حماس، وسعت لدعمها والتنسيق معها وحضها من غير تحفظ على العمليات التفجيرية داخل ما يسمى بـ”الخط الأخضر”، وتشجيعها على توتير أجواء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي كلما هدأت.
ومن منظور حماس، تعتبر سورية قوة رئيسية بما يسمى ” قوى الممانعة “، ومناهضة لنهج واشنطن وإسرائيل في المنطقة. فضلا عن الدعم والتدرب العسكري السوريين لأفراد حركة حماس كما تشير بعض التقارير. أضف إلى ذلك أن سورية تعد منفذا وبوابة حماس على إيران، بالإضافة إلى أن الدعم السوري يشكل رافعة قوية في مواجهة كثافة الضغوط الإقليمية والدولية عليها، وهو أيضا رافعة تستقوي بها حماس في الداخل في إطار الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني، وتصفية وإفشال الخصوم السياسيين الداخليين.
وهذا يعكس حالة التردي الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية. فإسرائيل أخرجت نفسها من خانة العدو الأوحد والرئيس للشعب الفلسطيني، فأصبحت حركة حماس هي العدو الرئيس للسلطة ولحركة فتح، وحركة فتح غدت العدو الرئيس لحركة حماس. وهكذا يستعين كل طرف بأطراف خارجية لمناصرته على خصمه الداخلي.
ويمكن القول أيضا، إن سورية وحماس بفعل كثافة الضغوط العربية والإقليمية والدولية عليهما، يقبعان في بيئة إستراتيجية متشابهة، ويعيشان نفس الظروف والتحديات، فضلا عن أن تعاونهما جاء في بيئة إقليمية ودولية مضطربة يعتريها المخاطر والقلق والتهديد مما اشعر الطرفين بجدية استهدافهما. من هنا، فإن سورية وحماس تجدان منفعة مشتركة في تنمية العلاقات بينهما بما هي رد فعل على مخططات عدوانية مفترضة من جانب قوى إقليمية أو دولية. فضلا عن حالة التهميش والعزلة التي يعيشانها.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن وضع النظام السياسي الفلسطيني وأزمة نخبه السياسية والخلل الهيكلي الذي يعانيه النظام السياسي الفلسطيني تسمح بالتدخلات الخارجية، لأنه لو كان هناك نخب سياسية فلسطينية متماسكة حول القضايا الوطنية، الإستراتيجية والتكتيكية، لضعف تأثير العوامل الخارجية. وهذا ما أفقد النظام السياسي الفلسطيني الحصانة أو المناعة الذاتية ضد التدخلات الخارجية(1).
* محددات العلاقة بين الطرفين:
ـ مقارعة عرفات
وجدت سورية مبتغاها في منظمة حماس لتتعاون معها، ليس فقط بغية محاربة إسرائيل؛ بل أيضا لمقارعة عرفات واستفزازه وإفشاله، تمهيدا لسحب البساط من تحت قدميه. وكلا الطرفين جمعهما هذا الهدف المشترك. فالعقدة السورية، أنها لم تنجح في امتلاك ورقة فلسطينية واحتكارها لنفسها. وأمام الفشل السوري في السيطرة على القرار الفلسطيني، برزت حماس، التي وجدت سورية فيها ضالتها. بغية إفشال الرئيس عرفات، حتى لا يذهب منفردا باتفاق سلام فلسطيني- إسرائيلي دون إشراك سورية، لأن هذا الاتفاق المنفرد سوف يزيد من العزلة الدولية والإقليمية عليها، فضلا عن قضية اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في سورية، مما يجعل هذه الأخيرة طرفا في أي اتفاق فلسطيني- إسرائيلي.
ـ منافسة مصر:
وضمن الأهداف السورية، يأتي منافسة مصر ومقارعتها، وعدم ترك فلسطين ورقة بيدها بعد شعور سورية بالعزلة، ولا نماري إن قلنا إن العلاقات السورية-المصرية يغلب عليها الطابع التنافسي والضغينة، وبخاصة من جانب سورية، لأن سورية لا تزال تستذكر بما توصفه بـ”خيانة السادات” لها في حرب 1973، وذهابه باتفاق منفرد مع إسرائيل في كامب ديفيد، وما صاحب ذلك من عزلة دولية على سورية. فضلا عن أن مصر حسمت خيارها في السلام كخيار إستراتيجي.
وبعد فشل عملية السلام أصبحت سورية تميل أكثر إلى خيار المقاومة أو “الممانعة” كخيار استراتيجي، وهي تدعم بهذا الاتجاه. ومن هنا، يبدو أن العلاقات بينها وبين مصر تأخذ في أحيان كثيرة علاقات صفرية، من خلال إثبات أي الخيارين أجدر بقيادة الأمة. وهذا لا يعنى أن سورية لا ترغب بالسلام، بل تريده وتسعى إليه، ولكن ضمن أهدافها ورؤيتها هي، وأن تحصل على الأقل بقدر ما حصلت مصر من خلال مفاوضاتها مع إسرائيل، ولكن أن تقدم سورية أقل مما قدمته مصر لإسرائيل، حتى تظهر بشكل جلي بأن أدارتها للصراع مع إسرائيل أفضل من إدارة مصر.
ومن هنا، تسعى سورية إلى تحجيم الدور المصري ولجم نزوعها إلى السيطرة على القرار الفلسطيني. ففلسطين جزء من الشام، وهي كانت دائما أقرب إلى مصر، بدلا من سورية التي تنظر إلى فلسطين بأنها الإقليم الجنوبي لها. “كانت هذه الورقة (الفلسطينية) دائماً أقرب إلى مصر: مصر الراحل عبد الناصر أولا، ومصر مبارك الحالية ثانياً. وبسبب ذلك كانت سورية ولا تزال تشعر بشيء من العزلة داخل منطقة الشام. فالأردن عصي على السيطرة السورية، والفلسطينيون حسموا أمر تحالفهم مع مصر منذ أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات (2).
لذلك تعاونت سورية مع حماس لفك الاحتكار المصري عن الورقة الفلسطينية، وبالتالي جعل موطئ لسورية في فلسطين من خلال حماس حتى لا تترك الأمر كله إلى مصر.
ج ـ تحقيق ميزان القوى أو الردع مع إسرائيل:
بنت سورية سياسة خارجية طموحة ومثالية، تتناقض مع إمكاناتها وقدراتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، مثل تحيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. لذلك بدأت تشكل تحالفات إقليمية ودولية من أجل تحقيق هذا الهدف، فتحالفت مع الإتحاد السوفيتي، وإيران، ومنظمة التحرير في وقت من الأوقات. وما تحالفها مع حماس إلا تحقيقا لهذه الرؤية المثالية؛ لاستغلالها في اتجاه يخدم الإستراتيجية السورية.
خلاصة ذلك، أن ارتباط حماس بسورية هو ارتباط دفعته الضرورة والمصالح المترابطة التي تجمع الطرفين، لكنه ليس ارتباطا تخضع فيه حماس خضوعا مطلقا لسورية، كما هي علاقة السيد بالعبد، بل هو ارتباط يخضع للتشاور والتحاور والتوافق حفاظا على المصالح المشتركة التي تجمع الطرفين. وما يبقي لحماس هامش الاستقلالية عن سورية هو استقلالية وضعها المالي والاقتصادي، فمصادر تمويل الحركة يعتمد على (3):
الأموال التي تجمعها الحركة من أنصارها، أو من المتعاطفين معها، أو من عامة الشعب داخل الأراضي المحتلة.
الأموال التي تتلقاها الحركة من مصادر غير رسمية خارج فلسطين.
الدعم الصادر عن الحركة الإسلامية العالمية، التي تضم الحركات الإسلامية من مختلف الأقطار.
الدعم من بعض الدول المتعاطفة مع حماس.
المشاريع الاستثمارية للحركة..
وهكذا، فإنه من اللافت أن تتلقى حماس الدعم المالي من مصادر متباينة، وهذا ما يجعلها غير خاضعة بشكل مطلق للسياسة السورية، وبذا فهي تمتلك هامشا في حرية حركتها وسياساتها عن سورية.
وعليه، فإن كلا من سورية وحماس تدركان ضرورة الاعتراف المتبادل بينهما، وأن لا يسعى أحد إلى منافسة الآخر وحشره بالزاوية أو التنافس معه على حسابه الخاص على الأقل في المدى المنظور. ومن هنا، فإن إمكانية حدوث صراع بينهما هو في حده الأدنى، ومن غير المحتمل أن يقدم أي من الطرفين على خطوات جذرية قد تنهي الحد الأدنى من الاتفاق والتشاور فيما بينهما، حفاظا على المصالح المشتركة وإبقاء تعاونهما والمحافظة عليه طالما بقيت البيئة الإستراتيجية التي عززت التعاون كما هي، والنتيجة هي استمرارية التنسيق والإستراتيجية المشتركة بينهما؛ إلا في حالة وصول سورية إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، إذ ذاك سوف يُقوض التعاون بينهما، وستلجأ سورية إلى خطوة جذرية من قبيل إنهاء التعاون وقطع العلاقات بينها وبين حماس. وهذا ما سنعرج عليه في السياق التالي.
* تأثير السلام السوري — الإسرائيلي على حركة حماس:
كما قلنا سابقا إن جذر العلاقة بين الطرفين قائمة على المصالح، وبالتالي فاستمرارها مرتبط باستمرار المصلحة بينهما ومتى تحققت مصلحة أهم وأكبر وأنفع لأحد الطرفين فإن من المؤكد أن العلاقة ستختلف جذريا بينهما. ومن هنا لا غرو من القول إنه إذا حقق اتفاق السلام بين سورية وإسرائيل مصالح لسورية تفوق المصالح التي يحققها التعاون بينها وبين حماس، حينئذ يمكن القول إن سورية سوف تفك تعاونها مع حماس وتنهي ارتباطها بها، وستضحي بحماس وستكون هذه الأخيرة هي كبش الفداء التي تقدمه سورية إلى إسرائيل.
وللتدليل على أن اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل سوف ينعكس سلبا على حماس، وسيكون من نتائجه فك الارتباط وإنهاء التعاون بينهما، نورد الملاحظات الهامة التالية:
بادئ ذي بدء، نورد الملاحظة المنهجية التالية: إن خيبة الأمل التي أفرزتها تجارب الوحدة السورية مع مصر(1958-1961)، والعراق من خلال توقيع ميثاق العمل القومي المشترك بين دمشق وبغداد في تشرين الأول/أكتوبر 1978، وتكوين هيئة سياسية عليا. هذه المشاريع الوحدوية التي منيت بالفشل، أدت إلى تنامي الوعي السوري بالعقبات التي تقف في سبيل تحقيق الوحدة العربية، الأمر الذي جعل العمل على تحقيقها يفقد زخمه في السياسية الخارجية السوري، وهذا ما أدى إلى إتباع سورية سياسة خارجية، تهدف إلى الدفاع عن سورية كدولة مستقلة تسعى لتحقيق مصالحها الوطنية. هذا المتغير لابد من إدخاله ضمن تحليل سياسة سورية الخارجية، وعلاقاتها مع الفصائل الفلسطينية التي تتساوق سياستها مع سياسة دمشق، وبخاصة حركة حماس.
بعبارة أخرى، طالما أنه يصعب دخول العرب في اتفاق سلام مع إسرائيل بشكل جماعي، وطبقا لرؤية عربية موحدة، يمكن من خلالها استرجاع الحقوق العربية، لا مانع إذا من دخول سورية في اتفاق سلام يحقق المصالح الوطنية السورية بشكل منفرد، إن أمكن لسورية تحقيق مبتغاها من خلال هذا الاتفاق المنفرد، وبالتالي العمل على توظيف الأوراق التي تمتلكها سورية وبخاصة الفلسطينية، التي هي أوراق تحريك في الأساس. وما يدلل على هذا الطرح هو دخول سورية بشكل منفرد مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل بوساطة تركية، بهدف تحقيق مصالحها الوطنية، وعلى رأسها استرجاع الجولان.
وعودة على بدء، بعد أحداث 11 سبتمبر، وما أفرزته من احتلال أمريكي للعراق، وسقوط النظام العراقي المدوي في 9 نيسان/أبريل 2003، مارست واشنطن ضغوطا شديدة على سورية لوقف دعمها ” للإرهاب”، إذ قَدِم باول ـ خلال زيارة الشهيرة في 3 أيار/ مايو 2003 إلى دمشق ـ مدججا بلائحة من المطالب، وجدتها دمشق لا نهائية وتتزايد باستمرار، وأن على سورية أن تستجيب لها وإلا خضعت للعقوبات. لذا حاولت دمشق تخفيف هذه الضغوط فأوعزت إلى الفصائل الفلسطينية الموجودة في سورية بأن تغادر “طوعا”، أو أن توقف على الأقل أنشطتها العامة، منعا من اتخاذها كذريعة للضغط عليها (4).
ولم يكن هناك خيار أمام حماس إلا أن ترضخ، وهكذا أوقفت نشاطها لتخفيف الضغوط الدولية على سورية، حتى لا تستخدم كمبرر لهجوم عدواني من قبِل قوى دولية، وحتى لا تكون حماس سببا في إحراج سورية دوليا.
وفي أعقاب مؤتمر انابوليس، مارست سورية ضغوطا على قادة المنظمات الفلسطينية لتأجيل مؤتمرها المناهض لانابوليس في دمشق، فعرضت طهران استضافة المؤتمر، في حين قرر قادة الفصائل الفلسطينية تأجيله بعد ممارسة ضغط سوري كي لا تظهر دمشق وكأنها تعمل على إفشال مؤتمر انابوليس.
وتأسيسا على ما تقدم، يبدو واضحا التأثير السوري الكبير على حماس، وخضوع هذه الأخيرة لصانع القرار السوري، وبالتالي هذا ما يدفع إلى القول بأن حماس طرفا تابعا لسورية، وتخضع لقراراتها وتوجهاتها السياسية. ولكن يبدو أن هذا القول فيه الكثير من المبالغة والجهل بطبيعة العلاقة بينهما. فهذه المطالب لا تخرج عن كونها ضمن الرؤية التكتيكية وليست الإستراتيجية، فحضور سورية انابوليس يعد موقفا تكتيكيا منعا لإحراجها وعدم ظهورها بمظهر الدولة الرافضة للسلام، وهي بالتالي تعلم جيدا أن هذا المؤتمر لن يجلب سلاما مع إسرائيل. لذا فحضور سورية مؤتمر انابوليس لا يشكل تناقضا جوهريا بين الطرفين؛ لأنه لا يشكل تناقضا في الإستراتيجية السورية. ومن هنا خضعت حماس لتلك الضغوط السورية؛ لأنها لا تجد حرجا في ذلك، فالمطلوب منها الصمت ووقف ممارساتها المناهضة لانابوليس، خوفا على موقف سورية الدولي ومنعا لإحراجها وتعريضها للخطر.
أما بخصوص زيارة كولن باول الشهيرة إلى سورية، ومطالبه التي رأت سورية بأنها لا نهائية، وإيعازها للفصائل بأن “تغادر طوعا” أو أن توقف على الأقل أنشطتها العامة منعا من اتخاذها كذريعة للضغط عليها. هذا الموقف السوري يُظهر جليا بأن دمشق قد تتخلى عن هذه الفصائل وتوقف دعمها لهم، طالما أن عبارة “تغادر طوعا”، أطلقت على هذا الموقف المتعلق بتعليق أنشطة الفصائل الفلسطينية، حتى لا تتخذ كذريعة لإحراج دمشق. وبالتالي من الغريب أن يطالب الرئيس السوري الفصائل أن تغادر طوعا في حال رفضت الفصائل الرضوخ للمطلب السوري التكتيكي هذا، الأمر الذي يظهر جليا بأن هذه العلاقة ليس كما يصورها أصحابها بالعلاقة العضوية؛ بل يمكن تقويضها.
وهذا ما يثير الشكوك والتساؤلات حول موقف سورية في حال توصلت إلى اتفاق سلام مع إسرائيل! أليس اتفاق سلام مع إسرائيل أهم من تعليق أنشطة الفصائل، التي بموجبه خيرت سورية الفصائل بين المغادرة أو تعليق أنشطتها، حتى لا تُحرج سورية؟
ومن هنا، فإنه يمكن في حال وصول الطرفين إلى اتفاق سلام، سيكون من السهل على سورية طرد الفصائل الفلسطينية من دمشق، وبخاصة حركة حماس مقابل هذا الاتفاق.
لذا، فهناك احتمال كبير بأن تتخذ سورية موقفا ضد الفصائل الفلسطينية، وأن توعز إليها بالخروج من دمشق. وبالتالي يمكن القول إنه في حال توصل سورية إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، ستكون حماس هي القربان الذي ستقدمه دمشق مقابل ذلك الاتفاق. وسوف تجد سورية ما يسوغ لها ذلك، بحجة أن الفلسطينيين قد ذهبوا باتفاق منفرد مع إسرائيل في أوسلو دون سورية التي كانت تطالب بموقف عربي موحد، وبالتالي فهي ردت الصفعة التي وجهها عرفات لها في مدريد، وهي بالتالي أخذت بثأرها، وعلى مصر أن تتولى شؤون الفلسطينيين طالما ربطوا مصيرهم بها.
وقد تتذرع سورية بالوضع الداخلي للفلسطينيين؛ لأن الفلسطينيين مختلفون فيما بينهم، وليس هناك رؤية إستراتيجية متفقين أو يجمعون عليها تحدد لهم الوسيلة الأجدر في التعامل مع إسرائيل، وهم بالتالي لا يعرفون ماذا يريدون. فضلا عن ذلك، فهم في حالة صراع داخلي. وبالتالي، فالوضع الفلسطيني مضطرب، وهلامي، وليس هناك إستراتيجية عمل وطني، وعليه يصعب على سورية أن تربط مصيرها بمثل هذا الوضع، ولا يمكن لها أن ترفض ما يقدم لها بحجة أنها “قلب العروبة النابض”، وأن عقيدتها البعثية ترفض ترك الفلسطينيين وشأنهم.
فالمشكلة، إذن، هي في الفلسطينيين وليست في سورية. صحيح أن سورية من ثوابت أهدافها تحقيق السلام الشامل، أي بضرورة الوصول لاتفاق سلام يحقق المصالح السورية واللبنانية والفلسطينية معا، وهي بالتالي ـ من ناحية نظرية ـ تدمج الفلسطينيين ضمن إستراتيجيتها التفاوضية، ولكن صحيح أيضا أن أطراف النزاع، قبل التفاوض لحل نزاعاتها، تطالب بسقف مرتفع، وعندما يبدأ الجلوس على طاولة المفاوضات يبدأ هذا السقف المرتفع بالنزول إلى أسفل؛ لأنه في هذه الحالة يبدأ التركيز على ما يحقق مصالح الطرفين للعمل معا، وعلى ذلك فعليهم أن يتوصلوا إلى حلول وسط في قضايا التفاوض وموضوع النزاع.
إذا، هل سيكون التنازل عن دعم الفصائل الفلسطينية، وبخاصة منظمة حماس، هو الحل الوسط؟ وجدير بالذكر أن حماس، وباقي المنظمات الفلسطينية المرتبطة بدمشق، لا تستطيع أن تقدم دعما سياسيا لدمشق؛ لأن الدعم السياسي الذي تحتاجه دمشق يكون من الدول وليس من المنظمات.
نعم تستطيع هذه المنظمات أن تثير المتاعب والقلاقل لصالح سورية، ولكنها لا تستطيع أن تذهب بعيداً في ذلك. وبالتالي، فهذه المنظمات ليست أكثر من ورقة تحريك بالنسبة إلى سورية. فضلا عن ذلك، فإن نزعة القطرية لا تزال تسيطر على السياسة العربية، بمعنى أن كل دولة عربية مهتمة بما يحقق مصالحها الخاصة دون مصلحة المجموع، وبالتالي لا تلام سورية عندما تهتم بمصالحها القطرية كما يفعل الآخرون.
هذا الأمر مختلف بالنسبة إلى لبنان، فالارتباط العضوي بين البلدين، فضلا عن عوامل أخرى متشابكة ليس ها هنا مجال الخوض فيها، قد تجعل سورية لا تستطيع أن تذهب باتفاق سلام من دون لبنان، وتدعي سورية أن هذا الموقف ثابت في سياستها الخارجية.
ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن الإستراتيجية السورية في مفاوضاتها مع إسرائيل ارتكزت بشكل رئيس على التزام أو تعهد إسرائيل بالانسحاب الكامل من الجولان حتى خط الرابع من حزيران/يونيو، وأمام هذا الهدف النهائي الإستراتيجي، استعملت سورية تكتيكات وتنازلات بهدف تحقيق هذا الهدف النهائي والإستراتيجي. وقد استخدمت سورية وسائل وأذرع للوصول إلى هدفها ذاك، وذلك عبر تحريك الجنوب اللبناني، وتوظيف الجماعات الفلسطينية المعارضة لأوسلو والموجودة في دمشق (5). وهنا يبرز التساؤل على الفور: إذا كانت الإستراتيجية السورية في التفاوض مع إسرائيل ركزت على استرجاع الجولان كهدف نهائي، أين إذن لبنان؟
أما بخصوص تحالفها مع إيران، فلو حدث اتفاق سلام مع سورية، وحتى لو حدث تقارب أمريكي سوري ليس من الضروري أن تفك سورية تحالفها مع طهران (6)، وهو موقف من المحتمل أن تتمسك به سورية، وقد لا تتنازل عنه. الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها فض التحالف السوري ـ الإيراني هي من خلال تحالف سوري — عربي، وبالتالي اتفاق على إستراتيجية عمل موحدة، ونظرية أمن يجمع عليها العرب مع سورية من خلالها يتم تحديد مصادر التهديدات، وتحديد موقع إيران ضمن منظومة الأمن العربي هذه.
وعليه، ففي ظل غياب رؤية إستراتيجية موحدة للتعامل مع إيران، لا يمكن والحالة هذه أن تتخلى سورية عن علاقاتها الخاصة مع إيران حتى بعد توصلها إلى اتفاق سلام مع إسرائيل.
كما أن هناك افتراضا مفاده أنه في حال وصول تسوية سورية – إسرائيلية، فإن التهديدات الجديدة التي ستظهر بعد التسوية وإدراك التهديدات، قد تساعد في إعادة تشكيل العلاقات السوري- الإيراني، وقد تبرز مجموعة جديدة من المصالح المشتركة. في كلا الحالين، تبدو إيران مهمة لسورية.
واضح من هذا السياق، أن اهتمام سورية بلبنان وإيران يفوق الاهتمام بالفصائل الفلسطينية، وبالتالي في حال اتفاق سلام بينها وبين إسرائيل، سوف يكون المقابل هو التنازل عن دعم الفصائل الفلسطينية؛ لأنها الحلقة الأضعف. وعليه، فاتفاق سلام مع سورية ولبنان تتخلص إسرائيل بموجبه من مشكلة حزب الله.
أما تحالفها مع إيران، فيكفي لسورية أن تطمئن إسرائيل حول طبيعة علاقاتها مع إيران، وأنه لا يمكن لسورية أن تستخدم هذه العلاقات فيما يعرض اتفاق السلام مع إسرائيل للخطر، أو أن تقدم سورية ضمانات لإسرائيل بأن علاقاتها لا يمكن أن تشكل تهديدا لاتفاق السلام. بمعنى آخر يمكن لسورية أن تعمل جاهدة لتكون علاقاتها مع إيران (مميزة) دون أن تكون تحالفية.
وفي حال التوصل إلى صفقة كبرى” بين واشنطن وطهران، تكون المشكلة الإيرانية قد حُلتبالنسبة إلى إسرائيل، وبالتالي يتم التخلص من الخطر الإيراني. وبذا تبقى المشكلة الفلسطينية دون حل، وتكون سورية قد استفادت من الورقة الفلسطينية دون أن تستفيد فلسطين وحماس بشكل خاص من سورية. وما يقوي الدوافع السورية بالذهاب إلى اتفاق منفرد دون الفلسطينيين، هو عدم الإجماع الفلسطيني حول التسوية مع إسرائيل، ووضعها المثير للشقاق والجدل سواء في الداخل أو الخارج.
قد يبدو هذا السيناريو مثاليا بعض الشيء، ولكن لا يمكن استبعاده، حتى لا نفاجأ عند حصوله، ففي السياسة ما شئت: الكذب، والمكر، والخداع، والحيلة، والتخريب، والحرب، والإرهاب، والقانون، والمفاجآت. لذا، يجب أن نتوقع أي شيء في عالم السياسة، حتى لا نصاب بالإرباك عندما تقع المفاجآت.
فها هي واشنطن بدأت حالياً بفتح قنوات مع سورية. ويبدو أنها تريد أن تشجع المفاوضات الإسرائيلية – السورية مع مشاركة أميركية، بهدف التوصل إلى سلام كامل إسرائيلي — سوري، فضلا عن مغازلتها لإيران لفتح حوار أمريكي- إيراني، و”إسرائيل لا تعارض الحوار الأميركي — الإيراني، لكنها تريد أن تفرض محتواه وإطاره الزمني” (7).
إذا لابد من إدراج هذا السيناريو ضمن تحليلنا الاستراتيجي، ويجب أن يبقى في أذهان القادة الفلسطينيين، حتى يصلوا إلى قناعة مفادها: ما يحك جلدك مثل ظفرك، وإن لم أكن أنا لنفسي فمن لي؟ فهي إذن دعوة لتوحيد المواقف الفلسطينية المتنافرة وبلورة إستراتيجية وطنية موحدة تحدد التحالفات التي تخدم القضية الفلسطينية في الأول والأخير.
———–
المراجع
عياد البطنيجي، النظام السياسي الفلسطيني.. في أزمة النخب السياسية، مجلة السياسة الدولية، العدد 174، أكتوبر 2008.
خالد الدخيل، تحرك عربي أمام طموح سوري قديم ، جريدة الاتحاد ، 4 فبراير 2009.
زياد أبو عمرو، حماس: خلفية تاريخية سياسية، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 13، السنة شتاء 1993.
رضوان زيادة، السلام الداني، المفاوضات السورية- الإسرائيلية،مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، ص13.
المرجع نفسه، ص24
عياد البطنيجي، التحالف السوري- الإيراني، المجلة العربية للعلوم السياسية، 2009، ، العدد 21، ص 27.
باتريك سيل، تغيير حقيقي في الشرق الأوسط أم أن كل شيء على حاله؟، الحياة 13/03/2009م.

الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى