صفحات العالمما يحدث في لبنان

لبنان وسورية: النظام العربي يلتقط انفاسه

د. بشير موسى نافع
لبنان، كما أشرت من قبل في هذا الموقع، ليس بلداً هاماً في حد ذاته. لا يتمتع لبنان بموقع استراتيجي حيوي، ولا بثقل سكاني كبير أو مصادر ثروة نادرة؛ ولم يكن بالتالي ضمن دائرة دول القرار العربي. ولكن لبنان مهم بالرغم من ذلك، وتنبع أهميته من اعتباره مرآة الوضع العربي، أو المؤشر الرمزي على هذا الوضع.
وليس العرب فقط هم من يرونه كذلك، بل القوى الغربية الرئيسية كذلك. ثمة أسباب عديدة أعطت لبنان هذا الموقع الرمزي. ففي مشرق رسمت حدوده القوى الإمبريالية في نهاية الحرب الأولى، يعتبر لبنان، مهما كانت الأساطير التي نسجها دعاة القومية اللبنانية، صناعة إمبريالية بامتياز، حدوداً ونظاماً طائفياً وهوية. ولعدة عقود، أصبح لبنان بوابة التحديث والتماس الرئيسة بين تيارات الثقافة الغربية والمجال العربي. ولأن لبنان أسير لتوازنات الجماعات والقوى والطوائف، ولأن هذه الجماعات والقوى والطوائف لا تستطيع البقاء بدون وشائج الحياة التي تربطها بالخارج، فقد عكست الساحة السياسية االلبنانية دائماً توازنات القوى الفاعلة في الإقليم، وأحياناً في نظام العلاقات الدولية.
خلال السنوات القليلة الماضية، ومنذ غزو العراق واحتلاله، على وجه الخصوص، تعرضت العلاقات العربية العربية للانهيار. لم تكن العلاقات العربية العربية، حتى في ذروة مراحل التفاهمات والتضامن العربي، صحية تماماً. يعيش الأشقاء العرب تناقضاً تاريخياً لم يستطيعوا حله منذ ولادة دولهم الحديثة؛ فطبقاتهم الحاكمة، من ناحية، تبذل جهدها، ثقافياً وسياسياً وأيديولوجياً، من أجل الحفاظ على نظام الدولة القطرية، ومن ناحية أخرى، يسكن العرب، شعوباً وحكاماً، شعور لا يمكن التحرر منه بأنهم أمة واحدة، وأن من حق أحدهم أن يتدخل في شأن الآخر. هذا، فوق أن نظام الدولة القطرية ترك العرب أسرى الاعتماد الاستراتيجي المتبادل، يسهل لأحدهم أن يشكل تهديداً جوهرياً للآخر. لم تكن العلاقات العربية العربية صحية دائماً، ولكنها وصلت خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مستوى من المرض والتشظي والعداء لم تعرفه منذ ما يعرف في دراسات الشرق الأوسط بالحرب العربية الباردة، التي دارت رحاها منذ نهاية الخمسينات وحتى منتصف الستينات من القرن الماضي.
بعض من أسباب تدهور العلاقات العربية ـ العربية نعرفه؛ والبعض الآخر لا بد أن يترك للمؤرخين. نعرف، مثلاً، أن غزو العراق واحتلاله تسببا في خلافات عربية داخلية حادة؛ وأن هذه الخلافات جرت في ذيلها خلافات لا تقل حدة حول الوضع السوري في لبنان، حول الموقف من المسألة الفلسطينية ومن تدافع القوى الفلسطينية السياسية، وحول الموقف من إيران واتساع النفوذ الإيراني في المنطقة العربية. وخلال سنوات الاختلاف والتدافع هذه كان لبنان أحد عوامل الاختلاف، والساحة التي انعكست فيها الصراعات العربية، في الوقت نفسه.
لمعاقبة سورية، كان لا بد من فرض انسحاب قواتها من لبنان، وأن تصبح محل اتهام واستهداف دوليين، وأن يمنع حلفاؤها من تعزيز مواقعهم في التوازنات اللبنانية. وفي دفاع سورية عن نفسها، كان لا بد أن تؤكد على دورها الحيوي في لبنان، أن تمنع لبنان من العودة إلى دور مصدر التهديد وعامل الضغط على سورية، وأن تؤكد على موقع حلفائها في الدولة والحكم والقرار اللبناني. وفي حمى اصطدام المصالح والقوى، اختلال التوازنات وإعادة بنائها، كان الثمن الذي دفعه العرب في لبنان باهظاً بلا شك، ناهيك عن الثمن الذي ما زالوا يدفعونه في العراق وفلسطين. دفعت دمشق إلى سحب قواتها من لبنان في شكل مهين، وكأنها كانت قوة احتلال؛ وانطلق السياسيون اللبنانيون يتبارون في هجاء دمشق وتوجيه الإهانة لقادتها، والتشجيع على إطاحة نظامها، حتى بات البعض ينتظر بفارغ الصبر أن يكرم لبنان باختياره ليقوم بالدور الذي قامت به الكويت بالنسبة للعراق. وخسر لبنان عدداً من قادته السياسيين، الواحد منهم تلو الآخر، إلى أن تعرضت عاصمته وشطره الجنوبي لاعتداء إسرائيلي مدمر.
اليوم، تبدأ حقبة جديدة في العلاقات السورية ـ اللبنانية، بزيارة رئيس الوزراء اللبناني، ورئيس كتلة المستقبل، وابن الرئيس المرحوم رفيق الحريري، إلى دمشق، لا يمكن لهذه العلاقة الخاصة والتاريخية بين البلدين إلا أن تكون بصدد انقلاب كبير، يضع نهاية لسنوات القلق والاضطراب وفقدان اليقين. على المستوى الإنساني، لا يمكن إغفال الشجاعة التي أهلت الحريري للقيام بمثل هذه الزيارة، ولا كرم النفس الذي جعل الأسد يوفر لضيفه مثل هذا الاستقبال. ولكن هذا الانقلاب لم يحدث فجأة، وقد مهدت له سلسلة من التحولات والتطورات. وربما يمكن القول إن الانتصار الذي حققه حزب الله في حرب صيف 2006، ومن ثم نجاح الحزب في إعادة بناء قدراته العسكرية، كانا لحظة البداية في تحول الموقف داخل جسم النظام العربي.
انتصار لبنان، الذي جاء عقب فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية؛ صمود غزة في مواجهة الغزو الإسرائيلي؛ وقبل ذلك وبعده، إخفاق المشروع الأمريكي في العراق، والتعثر الأمريكي المتفاقم في أفغانستان، كل ذلك أدى إلى تغير المناخين العالمي والإقليمي. سورية، باختصار، لم تتعرض للانهيار، ولا حتى لأي مستوى من عدم الاستقرار، وحلفاء سورية العرب والإسلاميون عززوا مواقعهم وأدوارهم.
وقد جاء الانفتاح الكبير والمتسارع في العلاقات السورية ـ التركية ليكسر جدار الحصار الذي عملت قوى عربية ودولية على فرضه على سورية. كانت السعودية، شريك التحالف العربي الثلاثي السابق، أول من استشعر حجم ودلالة المتغيرات المتعلقة بالوضع السوري، وقد بدأت بالتالي انفتاحاً بطيئاً وحذراَ باتجاه دمشق.
ثم جاءت النهاية غير الاحتفالية لإدارة جورج بوش الابن، وتولي باراك أوباما مقاليد الأمور في البيت الأبيض. كانت إدارة بوش، متبعة توصيات تقرير بيكر ـ هاملتون، هي من بدأت بتغيير المقاربة الأمريكية لسورية؛ ولكن عجلة هذا التغيير تسارعت منذ اللحظات الأولى لدخول أوباما البيت الأبيض. وعلى خلفية من هذه المتغيرات، وربما بسببها، تراجعت المراهنات على قيام المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الحريري بتوجيه الاتهام لسورية أو لسوريين بارزين. في الساحة اللبنانية، انعكس الانفتاح السعودي والأمريكي على سورية في الانعقاد السلس للانتخابات اللبنانية، من جهة، وفي إشارات جنبلاط الواضحة لعزمه تغيير موقفه كلية من سورية وخروجه على التحالف الذي ضمه مع القوى المعادية لدمشق.
الحقيقة، أن تحالف ما يعرف بـ 14 آذار لم تعد له من وظيفة ملموسة سوى التوصل إلى تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة.
وقد لعب التفاهم السوري ـ السعودي دوراً رئيساً في ولادة الحكومة التي يرأسها سعد الحريري. ولم يعد من المبرر، بالطبع، أن تبقى علاقات دمشق مع رئيس الحكومة اللبنانية الجديد، الذي يتمتع بعلاقات تحالفية وثيقة مع السعودية، وعلاقات صداقة وتفاهم مع واشنطن، على ما كانت عليه.
بيد أن ما يشهده المشرق العربي هو انقلاب في العلاقات اللبنانية السورية من جهة كون لبنان، بحد ذاته، عنصراً في التدافعات وتدهور العلاقات العربية العربية. الانقلاب في الصورة الرمزية التي يعكسها لبنان للعلاقات العربية العربية لم يقع بصورة كاملة بعد؛ ولكن الأرجح أن اكتمال هذه الصورة لن يستهلك زمناً طويلاً. التحسن الملموس في العلاقات السورية السعودية، صاحبه تحول إيجابي كبير في العلاقات السعودية ـ القطرية.
وقد سارع البلدان إلى دعم الموقف السعودي من الاختراقات الأمنية التي قام بها الحوثيون المسلحون في منطقة الحدود السعودية ـ اليمينة. وبالرغم من التدهور المفاجئ في العلاقات بين دمشق وبغداد، وبين القاهرة والجزائر، فإن الحالتين تتعلقان بسياقات خاصة جداً، وليس بالوضع العربي ككل. ولن يمر وقت طويل قبل أن يجد المصريون والجزائريون وسيلة لتجاوز المناخ المرضي الذي فجرته مباراة كرة قدم؛ والأرجح أن الانتخابات العراقية القادمة ستؤدي إلى تشكيل حكومة عراقية جديدة، لن تكون بالضرورة أسيرة لسياسة المالكي، متعددة الدوافع، تجاه سورية.
في المقابل، ثمة اتصالات حثيثة بين القاهرة ودمشق، تستهدف وضع نهاية لمرحلة التوتر التي شابت علاقات العاصمتين، سيما أن النظام المصري يتعرض لضغوط كبيرة من الرأي العام، الذي لا يرى مبرراً لاستمرار هذا التوتر بعد أن تحسنت العلاقات بين الرياض ودمشق وأخذت أوضاع لبنان الداخلية في الاستقرار.
ما يجدر وضعه في الاعتبار بصورة تفوق الدوافع والمناخات الثنائية، أن دول النظام العربي، ذات الخبرة التي تحسد عليها في الحفاظ على الذات، لاحظت هي الأخرى انكسار الهجمة العاصفة التي قادتها إدارة بوش في المشرق العربي ـ الإسلامي، وانشغال إدارة أوباما في معالجة الميراث الكارثي لسلفه. الوضع الدولي، باختصار، لا يوفر نافذة لاستعادة بعض من التفاهم العربي، ولكنه يتطلب مثل هذا التفاهم، بعد أن تعثرت جهود السلام، وبدا أن المجال العربي استبيح كلية. خلف ذلك كله، على أية حال، يمكن ملاحظة أن علاقات المشاركة الاقتصادية ( شبكات الكهرباء، والغاز والنفط، مثلاً) بين الدول العربية، لم تتأثر سلباً بالتدهور في العلاقات العربية السياسية، بالرغم من أن التقدم على صعيد التكامل الاقتصادي العربي يظل بطيئاً ومتواضعاً. ولعل النافذة المتاحة الآن لتنقية أجواء العلاقات العربية العربية السياسية توفر فرصة أفضل لتعزيز مسيرة الاقتصاد والتجارة، بعد أن أصبحت هذه الأخيرة الأمل الوحيد المتبقي لبناء مجال عربي واحد.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى