صفحات ثقافية

حتى لا نصبح بلا تاريخ

null

فخري صالح

يهتم البشر جميعا، وتهتم المؤسسات الأكاديمية هذه الأيام بما يسمى التاريخ الشفوي، أو كما يطلق عليه في الدروس الجامعية المتقدمة ألـMicro-History، وهو نوع من التاريخ الذي يرويه أو يكتبه الناس عن تجاربهم الشخصية التي قد تكشف عن حركة سير التاريخ الحقيقية التي تختلف عما يسجله المؤرخون الرسميون.

في ظني أن ذلك النوع من التأريخ للذات والمجتمع يوفر مدونة تاريخية أكثر غنى وحيوية من تلك التي توفرها المدونة الرسمية للتاريخ. ومن بين فروع التاريخ الشفوي تحتل المذكرات واليوميات لأهل السياسة والأدب والموسيقى والاقتصاد، وحتى تلك التي يكتبها الأفراد العاديون، مكانة خاصة في هذا النوع من التسجيل التاريخي.

ولو أننا ألقينا نظرة على ما يصدر من كتب في كل لحظة فسنجد أن هذا النوع من الكتب يفيض من على أرفف المكتبات ويحتل صدارتها.

إن البشر في معظم أنحاء العالم يبوحون بما في صدورهم، ويسجلون تجاربهم، ويلقون نظرة على هذا العالم قبل أن يرحلوا عنه. ومن ثم فإن كتابة المذكرات واليوميات الشخصية، أو حتى تكليف شخص متخصص بكتابة سيرة شخصية عامة، سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، هي أمر رائج في بلدان الغرب بخاصة، بسبب ما توليه الثقافة الغربية عامة لهذا النوع من التسجيل التاريخي.

فماذا عنا نحن العرب بهذا الخصوص؟

لا شك أن ذاكرتنا نحن العرب مفقودة في هذا العصر، أو أنها على الأقل مشوشة ومضطربة محكوم عليها بالنسيان واختلاط الواقع بالخيال، والحقيقة بالزيف والاصطناع. وجزء من هذا الاضطراب العام يعود إلى أن الناس يموتون من دون أن يسألهم أحد عن تاريخ زمانهم الشفوي غير المكتوب، وعن الأحداث التي مرت بهم فانحفرت في الذاكرة التي ستموت وتخلف بياضا في صفحات العمر.

فكيف يا ترى نكتب تاريخنا نحن في غياب هذا التاريخ الشفوي الذي يحمله الناس في صدورهم دون أن يجد سبيله إلى التسجيل والكتابة؟

هناك دائما فرعان متلازمان من التسجيل التاريخي، أحدهما يعتمد الوقائع الرسمية (الصحف والتقارير والرؤية الرسمية للتاريخ)، والثاني يقوم على رؤية الجموع، على روايات الناس ووعيهم للوقائع التاريخية. والجزء الأخير شبه مفقود من كتابة التاريخ العربي في زماننا، عدا القليل جدا من الذكريات التي باح بها رجال سياسة أو اشخاص قريبون من السلطة شاءوا أن يرووا ما لم يرو وظل بمثابة السر أو الحلقة المفقودة في تاريخ ناقص يعلن عن نقصه في كل لحظة.

في الوقت نفسه يموت كتاب ومثقفون وعلماء، ورجال فاعلون في المجتمع مؤثرون في تاريخ حقبة من الحقب، دون أن نعلم عن أدوارهم وخلفياتهم الاجتماعية والسياسية إلا أقل القليل. وقد كان بالامكان الغوص في تاريخ تلك الحقب التاريخية، ومعرفة أسرارها وما خفي من أسباب الاحداث فيها، عبر الاستعانة بذكريات هؤلاء الأشخاص. لكن المشكلة هي غياب نزعة التسجيل التاريخي، والخوف من كتابة المذكرات واليوميات، والتحفظ في كشف الأسرار خوفا من حكم المجتمع القاسي على الشخص بعد غيابه.

عندما أتأمل غياب الأشخاص الفاعلين في المجتمعات العربية، من سياسيين واقتصاديين ورجال مجتمع وأدباء وعلماء ورجال تعليم، دون أن يتركوا وراءهم أوراقا تسجل ذكرياتهم ورؤيتهم للعصر وتحولاته، أدرك مقدار الخسارة الفادحة التي تلحق بنا في كل لحظة يغيّب التراب واحدة من هذه الشخصيات.

إن الخوف من سيف المجتمع المسلط على رقاب هذه الشخصيات لو أنها باحت بما عرفته، وقدمت نفسها كما هي دون رتوش، هو الذي يدفع هذه الشخصيات إلى تغييب ذكرياتها في النسيان، ويجعلها تحجم عن البوح بالحقائق المتصلة بها وبغيرها من الشخصيات التي صنعت مصائر المجتمعات العربية.

ورغم أننا نحن العرب متحفظون بطبيعتنا، نبدي في أحيان كثيرة غير ما نبطن خوفا من اهتزاز صورتنا في عيون الآخرين، إلا أن ذلك لا يعني أن يمتنع الناس عن تسجيل ذكرياتهم ونشرها بين الناس، أو تشويه هذه الذكريات وابتداعها لكي تلقى قبول المجتمع.

علينا أن نشجع كتابة المذكرات الشخصية، وننظر إلى أدب البوح باحترام أكبر لأنه يدل على شجاعة شخصية تستحق التقدير. ودون ذلك سيظل تاريخنا، وحياتنا قبل ذلك، موسومين بالجفاف والاصطناع والرياء والنفاق والكذب والخديعة. وما كتب في كثير من أنحاء الوطن العربي من مذكرات سياسية، وغير سياسية، ما زال للأسف يخفي الكثير من المسكوت عنه، الكثير مما تجنب أصحابه الحديث عنه وكشفه للأعين القارئة، فظل تاريخ الأشخاص والمدن والكيانات السياسية غامضا حتى هذه اللحظة.

ولعل ذلك الغموض هو الذي يجعلنا نلجأ إلى ما يكتبه الآخرون عنا فنصدق ما هو مكتوب في صحائفهم ونعده التاريخ الفعلي لنا، فيما هو مغموس في الرؤية الاستشراقية العنصرية المقيتة التي تسم نظرتهم الينا.

لقد آن الأوان لمراكز الأبحاث أن تعيد النظر في التاريخ المكتوب للعرب، وتتابع من أفواه الناس، في الشارع، أو من أفواه السياسيين ورجال المجتمع والأدباء والمفكرين، تاريخ الحقب المتعاقبة التي مرت على العرب، حتى لا نصبح بلا تاريخ.

كاتب من الأردن


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى