صفحات العالم

مـن فيتنـام إلـى أفغانستـان.. إلـى «فـورت هـود»

سمير كرم
قبل ثلاثة أيام فقط من عملية الاغتيال التي قام بها الضابط الاميركي المسلم نضال حسن داخل قاعدة «فورت هود» والتي راح ضحيتها 13 شخصاً فضلاً عن 31 جريحاً من زملائه العسكريين، ادلى دانييل ايلزبرغ المحلل العسكري الاميركي بحديث مهم الى احدى الشبكات الاخبارية. قال في هذا الحديث «ان الرئيس باراك اوباما يخاف من حدوث ثورة عسكرية»، وانه سيذهب في غير الاتجاه الذي تمليه عليه غرائزه من اجل ان يفعل ما هو افضل له ولحزبه الذي سيواجه خلال وقت قصير انتخابات منتصف المدة الرئاسية (لانتخاب كل اعضاء مجلس النواب وثلث اعضاء مجلس الشيوخ ).
ودانييل ايلزبرغ ليس شخصاً عادياً.. إنه مسؤول التحليلات العسكرية في البنتاغون في الستينيات الذي سلم «وثائق البنتاغون» الى صحيفة «نيويورك تايمز» عام 1971 والتي كشفت للراي العام الاميركي كيف كانت تقاد وتدار حرب فيتنام بطريقة زيادة القوات كلما استعصى تحقيق النصر، من دون ان تبدو بادرة صحيحة على امكان الفوز في تلك الحرب. من وقتها وايلزبرغ يمثل رمزا قويا لمناهضة الحرب في فيتنام وبعد ذلك لمناهضة كل حرب خاضتها اميركا بالطريقة نفسها.
اعرب ايلزبرغ عن اعتقاده بأن اوباما سيبذل اقصى ما باستطاعته ليتجنب حدوث ثورة عسكرية… ذلك انه «كما كانت الحال في حرب فيتنام، فإن النصر لا يبدو قادما للولايات المتحدة في افغانستان». وأضاف انه يرجح ان يسمح اوباما بزيادة ضخمة في عديد القوات الاميركية في افغانستان لأنه يخاف من ان ينظم كبار القادة العسكريين ثورة اذا ما رفض طلباتهم بإرسال جنود اضافيين. انه ـ اي اوباما ـ «يخشى ان يحمل القادة العسكريون دعواهم السياسية الى الرأي العام والى الكونغرس قائلين إنه لين، يفتقر الى الرجولة، وينقصه الحسم، وضعيف بشكل خاص في مواجهة الإرهاب، وبالتالي فإنه يعرّض القوات الاميركية للخطر».
وتقول «الشبكة الإخبارية للأنباء الحقيقية» ـ التي ادلى اليها بهذا الحديث ـ ان ايلزبيرغ كان يتحدث بالصراحة ذاتها التي جعلته قبل 38 عاماً يكشف وثائق البنتاغون للرأي العام، لأنها كانت بما تحمله من معلومات شديدة الحساسية، تكشف ان الحكومة الاميركية مستمرة في حرب فيتنام على الرغم من معرفتها بأنه ليس من المرجح ان تفوز فيها. لهذا قال ان الرئيس (آنذاك) ليندون جونسون اختار ان يمضي في زيادة القوات الاميركية في فيتنام «كي يحول بين العسكريين والاستقالة ثم التوجه الى الرأي العام بشكاواهم بأنه قد تخلى عن حرب يمكن تحقيق النصر فيها». ولهذا فإن قرار الرئيس اوباما بأن يحمي نفسه من ثورة يقوم بها العسكريون ـ على نحو ما فعل جونسون عام 1965 ـ سيتم على حساب القوات الاميركية والمدنيين الأفغان.. «اميركيون كثيرون وأفغان كثيرون سيموتون من اجل ان يحموا الرئيس من هذا النوع من اللوم».
نشر هذا الحديث يوم 2 تشرين الثاني الحالي. وفي يوم 5 من الشهر نفسه وقعت عملية الاغتيال الجماعي ـ او المذبحة كما اطلق عليها الاعلام الاميركي ـ التي ارتكبها الطبيب النفسي الضابط الاميركي المسلم من اصل فلسطيني في اكبر قاعدة عسكرية في العالم… القاعدة ذاتها التي كان ينتظر فيها ترحيله الى العراق او افغانستان.
ألا توجد علاقة حقيقية بين ما قاله ايلزبرغ وما توقعه وبين ما حدث في قاعدة «فورت هود» بولاية تكساس؟
من المؤكد ان بالإمكان رؤية ما ارتكب الطبيب النفسي الضابط في ضوء ما قاله ايلزبرغ… على الأقل في ضوء حقائق ثابتة: اولها ان نضال حسن كان يعد ليرسل الى العراق أو أفغانستان في جولة خدمة ثانية له في الحرب الاميركية. وثانياً ان ارسال الضابط المسلم حسن كان ينتظر قرار الرئيس اوباما بالاستجابة لطلبات القادة العسكريين بزيادة القوات في أفغانستان. وثالثاً ان غالبية العسكريين في القاعدة ـ بمن فيهم اولئك الذين يؤيدون الحرب بوجه عام ـ ترى ان تحقيق النصر في أفغانستان هو امر بعيد الاحتمال، ان لم يكن مستحيلاً. ورابعاً إن احداً من الجنود في القاعدة وفي القواعد الأخرى لم يكن يمنّي النفس بأن لا يوافق الرئيس اوباما على طلب الجنرال ماكريستال قائد القوات الاميركية في أفغانستان بزيادة القوات.
بالاضافة الى هذه الحقائق العامة التي تربط بين حديث ايلزبرغ وعملية الاغتيال الجماعي في «فورت هود» كانت هناك حقائق اخرى تتعلق بـ«الجاني»: اولها وأهمها ان احدا لم يتناول من صفاته العديدة ـ كأي إنسان آخر ـ الا صفة واحدة هى كونه مسلماً. اما انه ضابط وطبيب نفسي وانه من مواليد الولايات المتحدة وانه سبق ان ادى الخدمة العسكرية في الحرب فقد وضعت كلها على الهامش. وقد لاحظ زملاؤه ومرؤوسوه انه بدا لهم هادئاً تماماً الى ما قبل ساعات قليلة من العمل الذي ارتكبه. انصب الاهتمام كله على كونه مسلماً وأزيح من الصورة كل ما عدا ذلك من معلومات عنه. وأزيحت من الصورة حقيقة انه اطلق الرصاص على زملائه في القاعة التي يقع فيها «مركز إعداد الجنود»، وهي القاعة التي يتم تجميع الجنود فيها قبل ترحيلهم الى العراق أو أفغانستان.
بل ان معالجة الاعلام الاميركي لهذا الحادث المروع ازاحت جانبا حقيقة اعلنها الأطباء بعد نقل الضابط حسن الى غرفة العمليات الجراحية، وهي انه يعالج من اضطراب دماغي ناتج من الصدمة.
وقاعدة «فورت هود» بحد ذاتها تسهم في رسم الصورة العامة التي في اطارها ارتكبت هذه «المجزرة». انها تضم نحو 50 الفاً من العسكريين وهي اكبر قاعدة عسكرية في العالم وأكبر مصدر لترحيل الجنود الى كل من العراق وأفغانستان. وقد نقلت صحف اميركية عن جنود القاعدة قولهم إن الحالة المزاجية لجنود القاعدة كئيبة للغاية، وحتى قبل الحادث فإن معنوياتهم كانت في حالة انحطاط.
قليلة للغاية كانت وسائط الاعلام الاميركية التي ذكّرت بوقوع حادث مروع مماثل قبل فترة وجيزة (بالتحديد في 11 ايار الماضي) حيث اطلق جندي اميركي نيرانه على خمسة جنود من زملائه فأرداهم قتلى داخل مركز استشاري للضغط العصبي في قاعدة اميركية في بغداد. وقتها قال الادميرال مايك مولين رئيس هيئة رئاسة الاركان المشتركة الاميركية «ان الحادث وقع في مكان يذهب اليه الأفراد لطلب العون. لهذا فإن الحادث ينبئ بحاجتنا لأن نضاعف جهودنا فيما يتعلق بالقلق بشأن كيفية التعامل مع الضغط العصبي، وهو ينبئ ايضاً بما تنطوي عليه مسألة الخدمة المتعددة» ( في الحرب).
بل إن بعض المراسلين المختصين بالشؤون العسكرية لاحظوا ان البنتاغون اصبح يكثر من ارسال جنود الى مناطق القتال قبل ان يتموا علاجهم من الضغوط العصبية. وينطبق هذا على من يتم إرسالهم الى العراق وأفغانستان.
ونشرت مجلة «تايم» الاميركية ان مسحاً جرى في قلب القوات الاميركية في الخريف الماضي اظهر ان نسبة 12 في المئة من القوات المحاربة في العراق ونسبة 17 في المئة من القوات المحاربة في افغانستان يتناولون اقراصاً منومة وأقراصاً مضادة للاكتئاب لمساعدتهم على مواجهة الاحوال التي يعيشونها بوصفات طبية.
وفي شهر نيسان 2008 نشرت مؤسسة «راند» البحثية التي تنفذ عقودا لأبحاث لحساب البنتاغون تقريراً يفيد ان «حوالى 20 في المئة من افراد الخدمة العسكرية الذين عادوا من العراق وأفغانستان يشكون للأطباء من اعراض اختلالات ما بعد الصدمة او اعراض الاكتئاب الشديد. ولكن نصف هؤلاء تلقوا علاجاً».
ويبدو ان الاعلام الاميركي قد خلا في الايام التي اعقبت حادث نضال حسن من اي ذكر للجريمة التي ارتكبها تيموثي ماكـفاي الجندي السابق (المسيحي) الذي كان عضوا في احــدى الميليشيات اليمينية المتطرفة، والذي فجر المبنى الاتحادي الرئيسي في مدينة اوكلاهوما سيتي قبل سنوات، وأدت جريمته الى مقتل اكثر من 250 مدنيا.
اما جريمة الضابط المسلم نضال حسن فإنها اعادت الأجواء النفسية والسياسية التي سادت المجتمع الاميركي اثر هجمات 11 أيلول 2001، بعد ان كان قد ساد اعتقاد لدى غالبية الاميركيين بأن باستطاعتهم ان يلقوا ذلك اليوم المشؤوم وراء ظهورهم. والأمر المؤكد ان الشكوك في الاميركيين المسلمين ـ خاصة منهم ذوو الاصل العربي ـ قد عادت تغزو النفوس والعقول وتصب جام الغضب عليهم. مع انه لا يمكن لاحد ان ينكر ان غالبية المسلمين الاميركيين تشعر بالغضب ازاء ما ارتكبه الضابط الطبيب النفسي. وبعض هؤلاء المسلمين الاميركيين يود ان يضع بينه وبين كل المسلمين الآخرين مسافة شاسعة، اذا كان هذا يعفيه من شكوك الاميركيين غير المسلمين.
غير ان المسلمين الاميركيين ليسوا متروكين لحالهم. اذ تطاردهم على مدى الأربع والعشرين ساعة في كل يوم دعاوى واتهامات منظمات اللوبي الصهيوني الذين يرون في حادث «فورت هود» منحة من السماء تساعدهم في نشر ودعم الاعتقاد ـ رغم كل شيء ـ بأن الرئيس اوباما يناصب اسرائيل العداء ويضمر لليهود جميعاً شراً لا احد يعلم مداه (…).
إن منظمات اللوبي الصهيوني لا تكتفي بنشر الاعتقاد بأن كل المسلمين في اميركا هم «مذنبون بالانتساب» اي ان مجرد انتمائهم الديني يجعل من وجودهم في المجتمع الاميركي شرا لا يمكن السكوت عنه، يخدم واحدة او اخرى من المنظمات الارهابية خارج اميركا. تبذل هذه المنظمات جهدا دؤوبا لا ينقطع لإقناع الرأي العام الاميركي بأن كل مسلم اميركي ـ وإن كان من مواليد الولايات المتحدة اباً عن جد ـ هو فرد في طابور خامس يخدم واحدة من المنظمات الارهابية التي تضمر الشر، لا لإسرائيل وحدها، انما للولايات المتحدة ايضاً، ولكل ديموقراطية في هذا العالم.
في سبيل تحقيق هذا الهدف ابدى «المعهد اليهودي لشؤون الامن القومي (وهو بمثابة الجناح العسكري للوبي الصهيوني) ملاحظة بأن ما حدث من الضابط نضال حسن ينفي ان السلطات الاميركية تعرف جيدا كيف تكشف العناصر المعادية. ونسب المعهد الى نفسه انه تتبع حالات كانت تنطوي على خطط اما نفذت واما كانت تهدف الى ان تنفذ ضد شخصيات عسكرية اميركية.
اليست هذه دعوة لوضع امن العسكريين الاميركيين بأيدي اللوبي الصهيوني؟
ماذا نتوقع بعد؟ الى اين من هنا؟

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى