صفحات سوريةياسين الحاج صالح

هل في سورية «مجتمع»، أم أنها «دولة» فقط؟


ياسين الحاج صالح    

 

تبدو سورية بلد السياسة والقضايا الكبرى. بلد يعرف نفسه بلغة المواجهة (أو «الممانعة») والصمود، وبشخص رئيسه وبعقيدة نظامه، لا بلغة الاقتصاد والمجتمع والثقافة. بلد فيه كثير من الدولة وقليل من المجتمع. بلد ساكن لا يتغير. ويبلغ من سطوة هذه الصورة واستقرارها أن مقاربة الشؤون السورية تنتظم وفقا لها، حتى حين يباشرها معارضون في الداخل أو كتاب أجانب.

 

بيد أن هناك بالتأكيد عناصر تحرك وتشوش هذه الصورة الساكنة جوهريا.

 

ثمة أولا تحولات اقتصادية واجتماعية غير عكوسة على الأرجح، وخارجة على النسق المعتاد في سورية. الاقتصاد «يتلبرل»، و»الطبقات» تظهر إلى العلن أكثر من أي وقت سابق. المهمشون والمفقرون والعاطلون عن العمل يفتشون في حاويات الزبالة كل يوم عما قد يُنتفع به، أو يسندون الجدران بانتظار من يستأجرهم؛ الطبقة الوسطى تتحرك بسياراتها الحديثة إلى مواقع العمل الخاص نهارا، وإلى مطاعم وأماكن لهو مساء، إلى درجة تبيح الشك في العقيدة الشائعة الخاصة بتآكل الطبقة الوسطى واضمحلالها. وكبار الأثرياء يظهرون على صفحات المجتمع في مجلات براقة الصفحات أو يؤسسون شركات جديدة رساميلها بمئات ملايين الدولارات.

 

«المجتمع» أكثر ظهورا من أي وقت سابق. والطبقات تمسي أكثر استقلالا عن الدولة، وأوثق ارتباطا بالاقتصاد. لا تزال العملية محدودة جدا، وبالخصوص ليست منفتلة من نطاق سيطرة مباشرة للدولة عليها، بيد أنها ملحوظة مع ذلك.

 

وتحولات الاقتصاد هذه تتحرك بسرعة تفوق توجهات السياسة الاقتصادية للحكومة وضوابطها، وتوافق بالمقابل وزن المصالح والكتل الاقتصادية المستقلة (ثلثي الناتج الوطني الإجمالي حاليا، والنسبة تعلو دونما توقف) المؤثرة في الاقتصاد ككل، وفي الدولة ذاتها. لوم الفريق الاقتصادي في الحكومة، على ما يدأب نقاد يساريون على فعله، غير ذي غنى إذاً، بل إنه مضلل لكونه يعطي الانطباع بحيازة هذا الفريق سلطة مبالغا فيها في صنع القرارات الحكومية من جهة، ولكونه لا يكاد يقترح شيئا غير العودة إلى اقتصاديات «القطاع العام» من جهة ثانية. الأجدى العمل على تحرير الرقابة الاجتماعية على عملية تحول لا مناص منها، لكن يمكن التأثير على نتائجها الاجتماعية، ولو جزئيا.

 

في المقام الثاني، وعلى نحو متناقض، تضغط مطالب اجتماعية ثقافية، إثنية وطائفية. هنا أيضا ثمة تطلب للظهور وتطلع إليه. وللاستقلال كذلك أو للذاتية. هذا مرتبط بالتحولات الاجتماعية الاقتصادية وليس فقط بعوامل إقليمية، على رأسها الاحتلال الأميركي للعراق. الطائفية قد تكون شكل انتظام اجتماعي مناسب للتكيف مع تحولات اقتصادية واجتماعية، أو لتعظيم أوجه الاستفادة منها. بيد أن الشكل الاقتصادي من الطائفية، إن صح التعبير، لا يتعارض بالضرورة مع انخراط تنافسي في الحياة العامة، خلافا للشكل السياسي الذي يظهر وجها صراعيا إقصائيا، نشطا أو محتمل التنشيط.

 

ولا ريب أن حركية المعارضة السياسية متأثرة بهذين العاملين. والسجال الذي تفجر في أوساط «إعلان دمشق»، وأقحم فيه تصور شبحي لليبرالية، ربما يتصل بهذا الجديد الاجتماعي وبمطالب اجتماعية وسياسية وثقافية متناقضة، فجرت أطرها التنظيمية القديمة ولم تعثر بعد على تأطير سياسي مناسب.

 

ونجد أنفسنا هنا في عالم جديد، مختلف تماما عن عالم سياسة متمحورة حول الاستراتيجية والسلطة والإيديولوجية. عالم متحرك، تنازعي، غير متطابق مع وعيه الذاتي. والفاعلون فيه أفراد أو كتل اجتماعية وليس أمما ودولا وتحالفات دولية.

 

ومن وجوه هذا العالم نمو حضور الحياة اليومية وإيقاعاتها السريعة ومطالبها على حساب الحياة الأخرى، بل الآخرة، حياة والسلطة والقضايا الكبرى والمقدس.

 

لا نريد المبالغة في شِأن حضور هذا العالم. إذ لا يزال التسيير السياسي، القسري والإيديولوجي، كثيف الحضور في حياة السكان (عشرون مليوناً). بيد أن لهذا العنصر، عدد السكان، مفاعيل اجتماعية لا تقبل الاختزال. فإذا شكلت الطبقة الوسطى المستقلة ربع السكان فقط، وهذا تقدير متواضع عمدا، بلغ عدد أفرادها خمسة ملايين، ما لا يمكن إلا أن «يظهر» ويعرض نفسه. لكن بالمقابل يزداد الضغط على الموارد وتلح الحاجة إلى نسبة نمو اقتصادي سنوي عالية وخلق فرص عمل تقارب ربع مليون سنويا. هذا بينما لا يمكن للقطاع الحكومي أن يمتص غير أعداد متناقصة من نمو قوة العمل.

 

ورغم أنه من غير المحتمل أن يجري الرجوع عن لبرلة الاقتصاد وتراجع وزن القطاع الحكومي في الاقتصاد المحلي، وتنامي الاستقلال الاجتماعي، إلا أن التحكم السياسي بهذه العمليات يبقى ممكنا وميسورا. قد نذكر أن مصر سارت على هذا الدرب نفسه قبل أكثر من ثلاثين عاما، ولم يتمخض السير ذاك عن أي تغير جوهري في النظام السياسي، بل إن هذا استوعب صفوة الطبقة الوسطى والعليا بوسائل بيروقراطية واقتصادية، واستطاع التحكم عموما بالطبقات الدنيا، بوسائل أمنية واجتماعية.

 

إلى ذلك فإن امتناع «السلام» السوري الإسرائيلي من جهة، وتكوين المجتمع السوري ونخبة السلطة العليا ذاتها من جهة أخرى، يمنحان وزنا أكبر لوسائل الضبط السياسي القسري في سورية بالمقارنة مع مصر. ولا يبدو أن كل ما وصفنا من تحولات قد تسبب بأية مشكلة متعذرة التدبر على النظام حتى اليوم. يبدو أيضا أن العنصر الأساسي في توجيه سياسات النظام وخياراته وتحالفاته هو اعتبارات السلطة والدور والمكانة الإقليمية أكثر من أي شيء آخر.

 

هل هذا حكم مبرم بأن ما أشرنا إليه محض تحولات جزئية، لا تمتحن طاقة النظام السياسي على الاحتواء والضبط؟

 

لا يصح مقاربة التحولات التي ذكرنا وتقييم وزنها من جهة تأثيرها على مصير النظام. هذه مقاربة ضيقة وقصيرة النظر، تشد نفسها إلى المنظور الذي نحاول التحرر منه، منظور لا يرى الأفراد والطبقات والمجتمعات لوهلة إلا كي ينساهم، ملحقا إياهم بمصير الدول، الأمر الذي لا تكف «الدول» هذه عن فعله. من المفيد كوطنيين سوريين أو كمراقبين موضوعيين التنبه لما يجري داخل «الصندوق الأسود» في كل وقت، وليس فقط حين تتعطل الطائرة.

 

يبقى أن وعي السوريين عموما، ومنهم المثقفون والناشطون المعارضون، متأخر عن تلك العمليات الاجتماعية. وهو تأخر غير محتوم، والاجتهاد لتداركه ممكن. وهذا ضروري من أجل تحقيق شيء من التطابق بين الفكري والواقعي، في بلد يكاد يرتفع عدم التطابق فيه إلى سمة وطنية أساسية.

 

أما النظام فيدرك هذه العمليات لأنه يحتل الموقع الذي يتيح له الإشراف عليها ومراقبتها. ولعله لذلك الأقدر على التحكم بنتائجها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى