صفحات ثقافية

لا ذاكرة للألم

null
الياس خوري
كانت القاعة مكتظة بالزوار الواقفين بصمت امام اللوحة العملاقة. بعض السيّاح الاميركيين يلتقطون الصور بكاميراتهم ويمضون بسرعة. رجال ونساء من الاسبان يقفون طويلا وسط الصمت الذي لا تخترقه سوى ايقاعات الحركة المنتشرة من اللوحة الى القاعة.
في متحف الملكة صوفيا في مدريد وجدتني وحيدا وسط الجموع، وكانت اصوات الحرب الأهلية الاسبانية تأتيني من مكان بعيد في ذاكرتي. لقد نجح الأدب والفن في تحويل هذه الحرب الوحشية (جميع الحروب الأهلية وحشية)، الى ذاكرة ثقافية. من بيكاسو الى مالرو الى همنغواي الى آخره… لكنني لا ارى اثرا لهذه الحرب في الذاكرة العربية. المؤرخ اللبناني الراحل فؤاد قازان تطوّع في الكتائب الأممية، وغالب الظن انه لم يكن وحيدا في ذلك. لكن ذاكرتنا الثقافية العربية، لم تشارك في الاحتفال الثقافي العالمي الذي اقيم تمجيدا للنضال الاسباني ضد الفاشية. بلى، دخل لوركا في وعينا شهيدا لأندلس الواقع واندلس الذكرى، وتألق ماؤه الشعري في ذاكرة الشعر العربي الحديث. مع ذلك فإن تجربة الحرب الأهلية الاسبانية لم تبن لنفسها مكانا ومكانة في الذاكرة الثقافية العربية.
الواقع، ان العرب المغاربة شاركوا في تلك الحرب، وهذه احدى اكثر المسائل اشكالية، لأنها محاطة بصمت مريب. لا الاسبان تكلموا ولا المغاربة اعترفوا. غلاف من الصمت، يشبه ليل الموتى، لا نهاية له. نجد اثرا صغيراً للجنود المغاربة في الجيش الاسباني في كتاب محمد شكري، “الخبز الحافي”. والد الراوي السكير الذي يقتل احد ابنائه، ويعيش في بؤس مدقع، كان جنديا في الجيش الاسباني، اي في جيش فرنكو، لكن الرجل البربري شبه ابكم في حكاية شكري. لا نعرف عنه سوى العنف واللامسؤولية. رجل امّي يقود عائلته في هجرتها من الريف الى المدينة، ويخرج مع زملائه من الجنود السابقين ويسكر معهم. هل كان والد شكري، او من يشبهونه، جنود فرنكو الذين ارهبوا المدن والارياف الاسبانية بوحشيتهم؟
لا اعرف عملا ادبيا عربيا يروي الحكاية، لكن الذاكرة الشفهية الاسبانية مليئة بقصص الاغتصاب والترويع اللذين مارسهما المرتزقة العرب الذين عملوا لحساب الجيش الفاشي. لكن في الجانب الاسباني ايضا يسود الصمت. زمن ما بعد الفرنكوية هو ايضا احد ازمنة الصمت، فالديموقراطية قد تجد في العجز عن مواجهة ذاكرة ممزقة مبررا للسكوت. لكنني عثرت على الكابتن ابرهيم، في رواية الكاتالاني خوان ساليس، ” مجد غير مؤكد”، وهي رواية الحرب الأهلية، برؤية كاتالانية. من المؤكد ان الكابتن ابرهيم ليس والد شكري، فالكابتن ابرهيم قُتل في اسبانيا، ورميت جثته في احد دنان الخمر. لكنه روى الفظائع التي ارتكبها، وكيف كان المرتزقة العرب يروّعون الناس، ويقتلون ويغتصبون. يدخلون القرى بعماماتهم راكبين الأحصنة وحاملين السيوف. نجح فرنكو في ترهيب اعدائه بواسطة هذا الجيش الذي جمعه من الأرياف المغربية، وكتب بالدم تاريخا صنعه الترهيب.
الكابتن ابرهيم، الذي لا يظهر في الرواية الكاتالانية الا في شكل عارض، يقتله جندي هارب من معسكر الجمهوريين الى معسكر الفاشيين، لأن الجندي لم يتحمل الحكايات، التي لا بد ان اقرانه الاسبان كانوا هم ايضا طرفا فيها. ويتم تحويل ابرهيم الى استعارة، لأن جثته المتحللة في برميل الخمر، سوف تجعل لمذاق النبيذ طعم الخمرة المعتقة في افواه الجنود الاسبان!
ليس الكابتن ابرهيم سوى شخصية روائية، ويمكن ان لا تثير فضول احد، لأن العالم الأدبي مكتظ بالشخصيات المأسوية. لكن المثير في هذه الشخصية الغامضة، انها علامة في حقل تاريخي فقد علاماته. وهي تستحق ان تتابع في بلادها، لكنني للأسف، لم استطع ان اجد اثرا لهذه الحكاية، فقصة الجنود المغاربة في اسبانيا، تشبه قصص الجنود السنغاليين في لبنان، في كونها لم تترك سوى ذاكرة غامضة مليئة بالمرارة.
ذهبت الى المتحف في مدريد كي ارى “غيرنيكا” الحقيقية، لا نسختها الموضوعة في احدى قاعات الأمم المتحدة في نيويورك، حيث اضطر وزير الخارجية الاميركي سابقاً، كولن باول، الى تغطيتها، في مؤتمر صحافي عقده تمهيدا لحماقة الغزو الأميركي للعراق. يومها خاف وزير خارجية بوش من الأثر الاعلامي الذي قد يتركه مشهد الدمار الوحشي في “غيرنيكا”، على مشروع الحرب، الذي غُلّف بكلام مبتذل عن الحرية والديموقراطية واسلحة الدمار الشامل.
“غيرنيكا” الحقيقية محاطة بهالة الاعمال الكبرى. يأتي الناس لا لينظروا فقط، بل ليزدادوا اعجابا. فأنت هنا، في حضرة الأجوبة، ولا يحق لك ان تسأل. عليك ان تقف وتتمتع، وترى جماليات الخراب، تماما مثلما تقف امام “الجوكوندا” كي تتمتع بسحر الابتسامة الغامضة.
لا ادري كيف يدخل عمل فني هذا المقام. لا شك انها القوة. قوة الفن التي تحاكي قوة الطبيعة وجنون الغرائز، بل تتفوق عليها في الكثير من الاحيان. وقفت وسط الواقفين، في مسافة البعد عن اللوحة، التي لا يحق لأحد تجاوزها. امرأة تلتقط صورة لإبنتها امام اللوحة، رجل ينحني كي يتأمل صرخة الاستغاثة التي لا يسمعها، وجوه تنظر بإعجاب، وعلامات الدهشة تظللها، ابتسامات شبه بلهاء، ومكان يفرغ ويمتلئ بالزائرين.
عندما سألني صديقي الاسباني عن رأيي، قلت: عمل رائع. استخدمت كلمة رائع من دون ان افكر. لا تستطيع سوى ان تعجب بالايقاع والتناغم والوحشية. رجل يرفع يديه الى الاعلى صارخا، الثور الذي على اليسار، الحصان، الرؤوس والاشلاء. لا لن اصف اللوحة او احللها، يمكن القارئ العودة الى كتاب فواز طرابلسي اذا اراد. انا لا ادّعي القدرة على تحليل ثديي المرأة المنحنيين، وربط انحناءتهما بالثور.  لكن ما رأيته يمكن ان اسميه جماليات الألم.
قد يأتي محلل ويرى في هذا العمل استكمالا لبحث كان بيكاسو قد بدأه قبل الشروع في لوحته، وقد يلجأ ناقد آخر الى تحليل كلبية شخصية بيكاسو والتباساتها، وقد نستعير كلام ميرو الذي كان صريحا في رفضه لطريقة عمل بيكاسو، التي تُظهر قوة الفن طوال الوقت، جاعلة من الهشاشة الانسانية وسيلة لاستعراض هذه القوة.
الموضوع بالنسبة اليَّ كان قدرة الفن على تحرير الألم من ذاكرته. صار الألم مجردا، وامّحى ظرفه التاريخي. فالفن، الذي يستعير عناصره من الواقع الذي سوف يصير تاريخا، يهزأ بالتاريخ. يجرّده من تفاصيله ومعانيه المباشرة، جاعلا منه وسيلة لبناء استعارات الحياة.
سحر “غيرنيكا” وقوتها، انها استطاعت فصل الألم عن الشعور به. فالألم لا يعبّر عن نفسه الا الماً، اما حين يصير فناً، فإنه يدخل في تحولات لا نهاية لها، ويبطل ان يكون شعورا مباشرا، ليصير احساسا يتجاوز لحظته وهشاشة ابطاله.
لا ذاكرة للألم. ما نراه هنا، في هذه القاعة الفسيحة التي تتخذ شكل المعبد، هو تنسيق للذاكرة، كي تدخل في النسيان. نرى كيف يحوّل الفن المضامين اشكالاً، ويبني ايقاعه الخاص.
لا، لن نجد ضحايا الديكتاتورية الفرنكوية هنا. لقد تحولوا على يدي بيكاسو الى ضحايا التاريخ، وجرّدوا من ألمهم كي يعبّروا عن ألم بلا ذاكرة.
ضحايا الكابتن ابرهيم وانداده اختفوا في القبور، اما هؤلاء الذين نراهم فهم تنظيم للجمال الذي يساعدنا على تحمّل الألم، تمهيدا لنسيانه.
قلت انها عمل رائع، وذهبت الى رواية ساليس. هنا ايضا، لم اجد سوى جثة الكابتن المغربي الفقير، وقد تحللت في الخمر، الذي يشربه الجنود، قبل الشروع في مذبحة جديدة.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى