صفحات الناسعمر قدّور

معتقلو دمشق من سجن إلى سجن

null


عمر قدور

في الأخبار أن معتقلي دمشق، الذين تم احتجازهم على خلفية انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق بتاريخ 2007121، سيتم ترحيلهم من أقبية المخابرات إلى السجون المدنية بتاريخ 28/1/2008 بغية التحقيق معهم وتقديمهم إلى القضاء، أي أن ما يُفترض بكونها إجراءات قانونية تبدأ بعد حوالي شهر ونصف شهر من توقيفهم. السؤال الذي لا مكان له في بلد مثل سوريا هو: كيف يتم توقيف هؤلاء طوال هذه المدة من دون توجيه تهمة لهم؟

إلى فايز سارة وعلي العبدالله وأكرم البني وفداء الحوراني والمعتقلين الآخرين نستطيع التوجه إليكم بالقول: بالتأكيد كنتم تتوقعون ما حصل، ولم يثنِ ذلك عزيمتكم، ولم تتوقعوا رداً على اعتقالكم يتجاوز البيانات والكتابات، وهذا أيضاً لم يثن عزيمتكم. بقي في الأخبار التي قد لا تعرفونها أن معتقل ربيع دمشق الدكتور عارف دليلة بحالة صحية شديدة السوء، ورجله مهددة بالبتر. كما أننا نحن الذين خارجاً تابعنا التداعيات المؤسفة التي لحقت انعقاد المجلس الوطني، والتي لا بد أن تضغط على وجدان أي معتقل منكم فظلم ذوي المعارضة أشد مضاضة.

عندما يُعتقل ناشط سوري يكون السؤال: إلى متى؟ فعلى الأغلب لا أحد يسأل عن التهمة، التهمة في هذه الحالات تعدّ نافلة أو جاهزة. أي اجتماع قد يُبنى عليه تهمة “العمل على تشكيل جمعية سرية محظورة غايتها المساس بأمن الدولة”. وأي بيان، أو حتى مقالة أحياناً، يتعرض إلى قضايا الاستبداد أو الفساد قد يبنى عليه تهمة “ترويج معلومات كاذبة تمس سمعة البلاد”. وأي اتصال مع جهة خارجية، بما فيها المنظمات غير الحكومية، يكون صاحبه معرضاً لتدرجات من التهم تبدأ بـ”التخابر مع جهة عدوة”، وصولاً إلى “تحريض جهات أجنبية على التدخل وتهديد أمن وسلامة الوطن”. الفائدة الوحيدة من معرفة التهمة هي معرفة المدة المُقرر للمعتقل أن يقضيها. فمن المتداول أن السلطة تقرر الفترة اللازمة لـ”تأديب” الناشطين، ومن ثم يتم تقرير التهمة الملائمة زمنياً. وفي حالات خاصة، كحالة الدكتور عارف دليلة، قد يحصل معتقل ما على عقوبة تفوق ما يحصل عليه أقرانهم الموقوفون للأسباب ذاتها.

مع بداية عهده راجت معلومات عن أن الرئيس بشار الأسد سحب التفويض الممنوح لأجهزة المخابرات باعتقال من تشاء، وبلا سقف زمني. ثم أتت الوقائع لتكذب هذه المعلومات، فهناك معتقلون أمضوا شهوراً في أقبية المخابرات، ثم أفرج عنهم من دون توجيه تهمة، وآخرون أمضوا شهوراً قبل توجيه الاتهام لهم. وفي حالتنا هذه، التي تخّص معتقلي المجلس الوطني، يُقرأ تحويل المعتقلين إلى سجون مدنية على أن السلطة ليست في وارد الإفراج عنهم، بل إن النية معقودة على زجهم في السجن، لمدة لا تقل عن سنتين قياساً على حالات سابقة مشابهة. المفارقة السوداء هي أن من طبيعة الأمور أن يكون التحويل إلى القضاء المدني خلاصاً من عتمة الأقبية، وربما عدلاً، أما في الحالة السورية فقد عانى الناشطون من زجهم في زنزانات تحتوي على مجرمين جنائيين، إمعاناً في إذلالهم، كما أن الأحكام التي نالوها تدلّل على أن القضاء المدني ليس أحسن حالاً من المحاكم العسكرية، أو محكمة “أمن الدولة” الاستثنائية.

ما يحدث اليوم مطابق لما حدث عند صدور إعلان بيروت/دمشق، فحينها أيضاً قامت أجهزة الأمن السورية باعتقال عدد من الموقعين على الإعلان، ومن ثم الإفراج عن بعضهم، وتقديم البعض الآخر للمحاكمة. الرسالة في كل مرة هي أن السلطات السورية لن تسمح بالتعبير عن الرأي، ولن تسمح للناشطين بالحراك السياسي، أي أن أطروحات التغيير السلمي الديمقراطي التي تتبناها المعارضة السورية لن تجد صدى عند السلطة سوى المزيد من الترهيب والقمع. وأن ينعقد المجلس الوطني لإعلان دمشق، في ظل هذه الظروف، فذلك يعني وجود 167 ناشطاً، هم الأعضاء الذين حضروا المجلس، على استعداد لدفع ضريبة آرائهم. ومما تجدر الإشارة إليه أن مجرد انعقاد المجلس خفيةً كان بمثابة انتكاسة لأجهزة الأمن التي دأبت على تفريق تجمعات أقل عدداً وشأناً، فهذه الأجهزة لا تمتلك من سعة الصدر أو المكر أن تسمح بانعقاد الاجتماع، ولو كمصيدة، ومن ثم تنقض على المشاركين فيه، كما قد يتوهم البعض.

إذن بإمكاننا القول إن الأداء الأمني لم يكن مفاجئاً لأحد، وفي الواقع أتت المفاجأة من تنظيم معارض، نُظر إليه طويلاً على أنه طرف أساسي في المعارضة السورية. وأول المفاجآت، بحسب المشاركين في اجتماع المجلس الوطني، هو استخدام هذا التنظيم لحق الفيتو على اقتراح بتسمية معتقلي ربيع دمشق أعضاءً في المجلس. كما جادل مندوبو التنظيم طويلاً من أجل إضافة توضيح ينص على أن العدوان الإسرائيلي مدعوم أمريكياً، وكأن القاصي والداني لا يعرفان حجم التحالف الأميركي الإسرائيلي!. وكان لذلك كله أن يبقى في أروقة الاجتماع، لكن حزب الاتحاد الاشتراكي العربي توّج مواقفه ببيان تجميد عضويته في إعلان دمشق. وبصرف النظر عما كُتب عن أن التجميد جاء احتجاجاً على فشل الحزب في انتخابات المجلس أو سوى ذلك، فإن مبررات التجميد توحي بأن الأطراف الفائزة بالانتخابات تتناغم مع المشروع الأميركي في المنطقة، بل إن بعضها قد يكون مرتبطاً بهذا المشروع ما يصل إلى مرتبة الخيانة بحسب إيديولوجيا الحزب. ومع أن بيانات الحزب اللاحقة حاولت التنصل من اتهام الآخرين بالعمالة لأمريكا، إلا أنها بقيت تشي بهذا الاتهام، ولعلّ أبلغ ما يعبّر عن الموقف الملتبس للحزب هي مقالة منشورة لأحد كوادره بعنوان “إنها ليست خيانة بالضرورة“!.

لأي تنظيم في المعارضة السورية الحقّ في اتخاذ الموقف السياسي والإيديولوجي الذي يرتئيه، وفي المقابل ينبغي النظر فيما إذا كان هذا الموقف يخدم قضية المعارضة ككل. ولكن المؤسف أن المواقف المُشار إليها تخدم ما تذهب إليه السلطة من اتهام المعارضين بالارتباط بأجندة خارجية. ومن المؤسف أيضاً أن يصدر بعض الناشطين السوريين في الخارج بيانات تصب في السياق ذاته، مع أنهم كابدوا تجربة الاعتقال لسنوات طويلة قبل أن يضطروا إلى العيش في المنافي. ولأن أصحاب هذه المواقف مدركون لحساسية الموقف لا تفوتهم الإشارة دائماً إلى أنهم ضد الاعتقال، ومواقفهم لا تعطي ذرائع للسلطة… إلخ!.

مرة أخرى ينبغي التأكيد على حق الاختلاف بين أطياف المعارضة السورية، التي تجمع تنظيمات متعددة المشارب وحتى أفراداً مستقلين، ولأن إدارة الاختلاف أصعب من الإقرار به يستحسن بالمعارضة السورية أن تراجع تجربتها خلال السنوات السبع الماضية، وعلى وجه التحديد تجربة إعلان دمشق بعد مرور أكثر من سنتين على صدوره. والجدير بالذكر أن إعلان دمشق شكّل تحالفاً فضفاضاً بين تيارات قومية عربية وأخرى كردية، بالإضافة إلى اليساريين والإسلاميين والناشطين المستقلين، ولذلك يصعب تصور اتفاق بين الجميع على برنامج سياسي متكامل، وعلى تصورات منسجمة لسوريا ما بعد التغيير الديمقراطي المنشود. وبات من الضروري مراجعة فكرة التحالف نفسها، وبما يجعل التحالف أكثر ديناميكية، وأقل عرضة للانقسامات. إذ ليس من المعقول أن يحتوي الإعلان على إشارات ملائمة لإيديولوجيات الأحزاب المنضوية فيه، وعلى سبيل المثال لا يعقل وجود توافق بين طموحات القوميين العرب ونظرائهم الأكراد، كما لا يعقل وجود انسجام فكري بين الأخوان المسلمين والعلمانيين السوريين. ومن المعلوم أن الإشارة إلى مذهب الأغلبية السنية قد أدى في حينه إلى انقسام في أوساط الناشطين السوريين. وسيكون من شأن عدم تبلور فكرة التحالف أن يأتي تنظيم قومي يضع المسألة الوطنية على قدم المساواة مع قضية دارفور، وأن يأتي تنظيم يساري يضع المسألة الوطنية بمصاف معاداته لأميركا، أو انضوائه ضمن جبهة ما يُسمى جبهة الممانعة.

الغيرة على تحالف إعلان دمشق، والرغبة في استمراره، لا تعنيان أن يتجاهل القائمون على الإعلان الخللَ الجوهري الموجود فيه. فليس من واجب أي تحالف سياسي في العالم أن يوحد وجهات النظر للمنضوين فيه، التحالفات السياسية هي بطبيعتها تحالفات مرحلية، وتقتصر نقاط الاتفاق فيها على توافقات مرحلية محدودة. وعلى سبيل المثال كان يكفي الموقعين على إعلان دمشق أن يتفقوا على التغيير السلمي الديمقراطي، وعلى وسائل الوصول إلى هذا الهدف، بدلاً من إهدار الوقت والجهد في خلافات فكرية. ولو أن هذا الجهد انصب على البحث في الوسائل العملية، أي ترجمة التحالف إلى وقائع على الأرض، لربما كسبت الحياة السياسية السورية الكثير بدلاً مما تخسره الآن. لقد سُجّل للإعلان أنه أول إطار يجمع قطاعاً عريضاً من المعارضة، وفي هذا دلالة رمزية هامة على الرغبة في التغيير، ولا يجوز التوقف بعد أكثر من سنتين عند الدلالة الرمزية للإعلان، بل ينبغي التأمل في عمر هذه التجربة ومكتسباتها وأخطائها. وأكثر ما تنبغي مراجعته هو الحصاد القليل لناحية حضور الإعلان في الشارع السوري. لا ضير في أن تعترف المعارضة بأخطائها، وعلى نحو خاص الممارسات التي شكلت غطاء سياسياً لأداء السلطة الأمني. وقد تكون التطورات الأخيرة مناسبة لفرز نقاط الاختلاف أو الاتفاق من جديد، إذا توفرت النية لاستيعاب الدرس.

يستحق معتقلو دمشق وقفة مساندة حقيقية، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع آرائهم، ولا شك في أن الأقلام التي دافعت عن حريتهم تلقى التقدير، لكن الأولى أن تأتي المساندة من “أهل البيت”، وهذه لا تكون طبعاً بتراجع المعارضة وتشتتها، وإلا يكون هؤلاء قد خسروا حريتهم، وخسروا القضية التي تسببت في اعتقالهم.

إلى فايز سارة وعلي العبدالله وأكرم البني والآخرين.. من المخجل أن نشهد انتقالكم من سجن إلى سجن، لقد كتبتم مراراً دفاعاً عن حريات الآخرين، ولن يكون مستغرباً أن يبقى هذا هاجسكم حتى وأنتم خلف القضبان.

خاص – صفحات سورية –


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى