صفحات الناس

من أجل دمشق

null

الياس خوري

“… ونحن، إذْ يثلج صدورنا أن تزوروا بلدنا فيلتقي بكم شعبنا المضياف، ويتعرّف على آدابكم وفنونكم وأفكاركم؛ فإننا نناشد المشاركين في أنشطة هذه الإحتفالية أن لا يعودوا من دمشق من دون إيماءة تضامن ملموسة وصريحة وشجاعة مع معتقلي الرأي، محبّي الحرّية والحقّ والجمال من أبناء سوريا الصابرة، أوّلاً؛ ثمّ مع دمشق الشام ذاتها، الأقدم في التاريخ، حيث الطريق إليها مستقيم حقّ لا ينبغي له أن يمرّ بالمعتقلات والسجون وأقبية التعذيب“.

بهذه الكلمات البليغة اختتم مجموعة من كبار المثقفين السوريين نداءهم الى المثقفين العرب المشاركين في نشاطات دمشق عاصمةً للثقافة العربية. فاروق مردم ورفيق الشامي وصبحي حديدي وسليم بركات وفرج بيرقدار وبرهان غليون ونوري الجراح ومحمد علي اتاسي وبطرس حلاق ومنهل السراج ورنا قباني وعلي كنعان وبشير البكر وفايز ملص وخليل النعيمي، وجهوا نداء باسمهم وباسم معتقلي الرأي في بلادهم، دفاعا عن الحرية وعن دمشق الشام، التي يتعرض بعض ملامحها التراثية لخطر الهدم امام آلة رأسمالية الدولة.

التقط رفاقنا السوريون جوهر المسألة. الدفاع عن حرية الثقافة والرأي، ليس دفاعا عن المجتمع فقط، بل هو ايضا دفاع عن المكان المهدد بالاندثار. لم يطلبوا من المثقفين العرب الذين قرروا المشاركة في التظاهرة سوى ايماءة تضامن مع مثقفي المدينة المعتقلين، ومع الاحياء التراثية المهددة بالهدم.

ماذا يكون جواب المثقفين العرب عن هذا النداء؟

لا اريد الدخول في المماحكات التي تلت دعوة “الملحق” الى السيدة فيروز بأن لا تذهب الى دمشق. لقد صيغت دعوتنا في شكل دقيق، يحمل الحب للفنانة الكبيرة ولمدينة “السبعة الأنهار”، بحسب تعبير نزار قباني. لكن للأسف جاءت الردود انفعالية من الجهتين، بحيث ضاعت الجدوى من الدعوة، وصار السجال جزءا من حوار الكلمات غير المتقاطعة، في هذا الوطن الصغير والمنكوب.

نعود الى السؤال، ولكن قبل الاجابة عنه، اود ان اشير الى اعجابي بشجاعة المثقفين السوريين التي صارت اليوم نموذجا للموقف الحر في مواجهة السلطة القمعية. صحيح ان “ربيع دمشق” تلقّى ضربة كبرى، لكن شجاعة عارف دليلة وميشال كيلو واكرم البني وعلي العبدالله ورفاقهم، جاءت لتعلن ان الثقافة العربية لم تمت، وان كلام ادوارد سعيد عن القلم الذي يواجه السيف لم يكن مجرد امنيات، وان دم سمير قصير لم يذهب اهدارا.

رفاق رياض الترك، وابناء فرج الله الحلو، وزملاء انطون مقدسي وسعدالله ونوس، لم يستسلموا امام آلة السلطة، ولم يرهبهم السجن او التعذيب، بل ولدت في السجون نواة ثقافية جديدة، اطلق عليها ياسين الحاج صالح اسم “مثقفي السجن”، وهي نواة تتميز بالصلابة واحترام المعرفة، وتنأى بنفسها عن الحقد والثأر.

المثقفون السوريون اليوم يعيدون الى الثقافة العربية شرفها ومعناها، ويصنعون ملحمة صمود كبرى، تستحق الاعجاب، وترسم افقاً جديداً.

في هذا المعنى فإنهم صنعوا من مدينتهم عاصمة حقيقية للثقافة العربية، لا تحتاج الى المفرقعات الايطالية، ولا الى تصريحات خرساء يطلقها وزير الثقافة السوري الذي اعتبر اعتقال المثقفين السوريين شأناً عاديا، مستغرباً حملة الاحتجاج على زجّ خيرة المثقفين السوريين في السجون.

دمشق صارت عاصمة للثقافة عندما قرر مثقفوها ان يكونوا مثقفين حقيقيين، اي ضمائر حية للدفاع عن حقوق الانسان، ورفض قمع حرية الرأي، والتزام القيم الاخلاقية والفكرية والسياسية التي صنعتها النهضة العربية حين زاوجت بين مقاومة الاستبداد الداخلي والنضال ضد الهيمنة الاستعمارية.

ماذا يكون جواب المثقفين العرب عن النداء الدمشقي الذي صدر من المنافي، من اجل ان لا تكون اوطان العرب سجوناً، الاقامةُ فيها اكثر هولا من المنفى نفسه؟

الديكتاتورية تراهن على النسيان ومحو الذاكرة. وهي تعتقد ان الهول الذي يعيشه المشرق العربي من غزة الى بغداد وصولا الى بيروت، كفيل أن يخرس كل الأصوات المنادية بالحرية. اي ان رهان الاستبداد هو على البؤس العربي، وعلى قدرة قوى الاحتلال الاسرائيلي والأميركي على خلق مناخات الكارثة، التي يصاحبها نزق اصولي يحوّل الانحطاط الى ما يشبه القدر.

اقتراح المثقفين السوريين، الذي جعلوا من سجون دمشق عاصمة للثقافة العربية، يدعو الى عدم الرضوخ لهذا المنطق الابتزازي، بل يرى معركة واحدة، اذ لا مقاومة من دون حرية، لأن الأحرار وحدهم يستطيعون اعادة المعنى الى معركة العرب ضد هذا الاجتياح المغولي الجديد.

قد يختار الكثيرون الصمت، وقد يعتقد البعض ان اللغة القومية العتيقة تبرر له نحر الثقافة العربية عبر مدح الديكتاتور، وقد يلجأ البعض الآخر الى عباءة الممانعة كي يبرر التواطوء، لكن ما يفوت هؤلاء، ان دمشق وضعت حدا للعبة الكذب الثقافية، وسوف تفرض على الجميع كشف اقنعتهم، واتخاذ موقف واضح من السجن الكبير المفروض على المشرق العربي بأسره.

في النهاية، اريد ان استأذن اصدقائي وصديقاتي المثقفين السوريين، واطلب منهم اضافة فقرة صغيرة على ندائهم، تدعو المثقفين العرب الذين سيشاركون في نشاطات العاصمة الثقافية، الى الذهاب الى صيدنايا وعدرة، كي يتعلموا من زملائهم السوريين معنى ثقافة الحرية التي تولد اليوم في السجون.

هناك، خلف القضبان، حيث يقيم عارف دليلة وميشال كيلو وأنور البني ورياض درار ومحمود عيسى وكمال اللبواني وفائق المير وفداء الحوراني وأحمد طعمة الخضر وأكرم البني وعلي العبد الله وجبر الشوفي وياسر العيتي ووليد البني وفايز سارة ومحمد حجي درويش، ومروان العش، ويتعرضون للتعذيب، هناك تقيم الثقافة العربية احتفال صمودها والتزامها الأخلاقي.

حيث يكون المثقفون تكون الثقافة.

السجن هو اليوم عاصمة الثقافة العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى