صفحات سورية

مسودة أخلاقية للهزيمة

null
وسام سعادة

ما العمل، ان تكن لديك وجهة نظر مغايرة تماماً للمتسيّد خطابياً فوق خريطة صراعات الشرق الأوسط؟ هل تطرحها؟ وماذا يقول «علم الأخلاق» في هذا الشأن؟

هل تحرص على الطابع «الباطني» لوجهة نظرك المغايرة تماماً، لأنه لم يحن وقتها بعد، أم تجازف وتجاهر بها، فيما التناسب والتناظر متعذّران تماماً بين المصادر التي تحيل اليها والمنهجيات التي تستعين بها والمعايير التي تسير عليها، وبين أولئك الذين يتخفّفون علناً من العقل للارتماء في أحضان الغيب، أو الانقياد وراء الهوى؟

ما إن تحضر الى الواحد منّا مثل هذه التساؤلات عن تسامح ثقافي أو أدبي في مشرق ما عاد يفقه من معنى للغفران والكتب والسماوات، حتى يظهر التناقض بين الحق في الاجتهاد، وبين الحق في الجهاد.

فالحق في الاجتهاد يعني الحق في أن نتحرّى ونفكّر من دون أن نكون أبطالاً. الحق في الاجتهاد يعني الحق في أن تطرح على أولئك الذين يبحثون عن البطولات، على حساب مجتمعات بأسرها، ويجرّبون حظّهم ويخفقون جيلاً من بعد جيل، سؤال القيمة والعبرة وسؤال الكلفة والجدوى، في آن.

لا اجتهاد في حدود الجهاد وحده. ليست مهمة الاجتهاد البحثي أو الأدبي أو الثقافي عموماً أن يكون «جهاداً أكاديميا» أو «جهاداً ميديائياً». انما مهمة الاجتهاد التنقيب والحفر وطرح الأسئلة المحرجة، والكشف عن الجوانب الخبيئة والبكماء، واعمال المقارنات التي يضيق بها العقل الأيديولوجي ذرعاً.

الحق في الاجتهاد يعني الحق الذهني في أن تغادر موقع «الضحية» حتى لو أنك كنت تشعر نفسياً أو جسدياً بأنك ضحية.

الحق في الاجتهاد يعني الواجب الأخلاقي في أن تسأل نفسك بعد كل حدث يطالعك، وبعد كل خبر، هل أن هذا العمل بذاته هو أخلاقي. فالعمل إما أن يكون أخلاقياً بذاته، بمعادلته الداخلية، وإما أن يكون عملاً لاأخلاقياً. واذا لم تكن تلك هي القاعدة فإن كل الناس يصبحون ضحايا لكل الناس، ويصير كل سلب وكل نصب مبرّرين.

تقرأ الأحداث بالنظر الى التداخل التاريخي في ما بينها، وتحاكم الأحداث أخلاقياً بالنظر الى المعادلة الداخلية القائمة في كل منها على حدة. فهل يقتدي المثقفون والاعلاميون اللبنانيون والعرب بهاتين القاعدتين في ما يفكرون به ويصرّحون عنه؟ أم أنه الحقد والوتر يمليان علينا القول والشعار؟

لا داعي للاسترسال أكثر من اللازم. يبدو أن الحق في الاجتهاد لم يأت بعد. للتذكير فقط: هو لم يأت في المانيا الا بعد الهزيمة المدوية للنازيين. بعدما لم يبقى حجر على حجر في برلين. للاعتراف أيضاً: ربما لم تكن هزيمتنا القومية السابقة كافية لتجذير وتوسيع واستمرار النقد الذاتي بعد الهزيمة الى حيث النقد المُوقِف للهزيمة عند حدّ بعينه، يمكن الاستراحة من بعده، والتدرّب على الاعتراف بالواقع، وتبني هذا الواقع كما لو كان الحلم ذاته، وأجمل الخيال.

يبدو أنه ليس ما يسند النقد الذاتي قبل الهزيمة. فلنركن اذاً لاعداد المسودات، لنشرها مباشرة في اثر الهزيمة، كي لا يقال بعد ذلك إن هذه المسودات شاركت بدورها في صناعة الهزيمة. أو كي لا يضطر الصناديد الأشاوس الى التلهي عن المعارك والانصراف بدلاً منها الى حرق المسودات.

يبدو أن مهمة المثقف النقدي في هذا الشرق تتماثل الى حد كبير مع الموقف الذي انتهى اليه قيصر بيزنطية الكسيس كومين حين جاءته جحافل الحملة الشعبية بقيادة بطرس الحبيس طلباً لتحرير الأراضي المقدسة، مع أن هذه الحملة الشعبية لم تكن تملك سلاحاً ولا كانت تعرف كيف تستعمل السلاح، فكان أن ضاق قيصر الرّوم بالحاحات الحملة الشعبية وباعتداءاتها على أرزاق الناس في ضواحي القسطنطينية، وسهّل عليها الأمر، ونقلها الى حيث تحب، الى الضفة الأخرى من البوسفور، لملاقاة السلاجقة… يمكن معرفة بقية القصة بالعودة الى أي كتاب تاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى