صفحات سورية

المعارضة السورية: إعلان دمشق

null

نقد إنسان حر

استهلال

أتيت في مقال سابق على ذكر ثلاثة نماذج من ما يسمى بالمعارضة السورية إن كان استحقاقاً أو زوراً. وقلت حينها أني أرى في ائتلاف إعلان دمشق بذرة معارضة حقيقة من واجبنا دعمها ونقدها. لكني أعتقد الآن، وبعد مراجعة عمل هذا الائتلاف منذ صدور الإعلان وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، أعتقد أني كنت مخطئاً من ناحية ومصيباً من ناحية أخرى.

لم يكن من السهل أبداً اجتماع قوى حزبية وشخصيات مستقلة من مختلف التيارات السياسية والفكرية القومية والليبرالية والإسلامية واليسارية وتوافقهم لصياغة الإعلان ووضع الهدف المشترك أمامهم والذي يتجسد في إحداث التغيير الديمقراطي ليعود الحكم إلى مصدره الطبيعي وهو الشعب. إن التوافق لا يمكن أن يكون دون تنازل الأطراف عن بعض من مصالحها الذاتية متيحةً المجال لمصالح الآخر لتأخذ حيزها الطبيعي أثناء التقدم نحو نظام ديمقراطي لا استئصالي ولا استئثاري ولا شمولي. كان هذا العمل بحاجة إلى عمل مضني بالتأكيد لالتقاء تيارات فكرية متعارضة فيما بينها ضمن بيئة سياسية واجتماعية رافضة للأخر بما هو كذلك دون أدنى مناقشة لرؤاه وطروحاته. وإن مجرد الخروج إلى العلن والعمل تحت ضوء الشمس، وكسر حواجز الخوف وحلحلة الجمود في المشهد السياسي السوري بسبب احتكار حزب واحد للعمل في الشأن العام لأكثر من أربعين عاماً، كان إنجازاً نكن له كل الاحترام والتقدير، بل وندين له في أي تطور لاحق للحياة السياسية في سوريا. ولا ننسى أن هذا التوافق بحد ذاته شكل مخاطرة بالسلامة الشخصية للموقعين عليه. كل هذا شكل الزاوية التي أصبت فيها عند وصفي هذا الائتلاف ببذرة لمعارضة حقيقة.

أما الزاوية التي أخطأت فيها، تتجلى وباختصار، في عدم وعيي حينها أن هذا التوافق كان إلى حد كبير شكلياً مما أوقع الإعلان في أفخاخ كان بغنىً عنها حتى على مستوى الصياغة، وهذا ما سآتي على ذكره بالتفصيل لاحقاً. والسبب في ذلك، أن التوافق كان بحاجة لمراجعة القوى والأحزاب المسيطرة على الحياة السياسية المعارضة، إن جاز التعبير، خلال العقود الماضية لبناها الفكرية والأيديولوجية. ومن ناحية أخرى لم تكلف القوى والتيارات الحديثة نسبياً على الساحة السياسة نفسها عناء التأسيس لمنظومتها الفكرية الخاصة. فكيف، وذلك هو الحال، سوف تستطيع تلك القوى المعارضة الاتفاق أو على الأقل التوافق بشكل حقيقي وعميق حول الهدف الرئيسي وهو الديمقراطية؟ ناهيك عن آليات الخروج من المآزق التاريخية للمواطن السوري.

ويبرز هنا السؤال الثلاثي: هل ولد الإعلان ميتاً؟ أم مات مع انعقاد المجلس الوطني الموسع؟ أم ما زالت هناك بارقة أمل لإنعاش هذا الائتلاف؟

سوف أخصص الجزأين الأول والثاني لنقد وثيقة إعلان دمشق، ومن ثم أتابع في الأجزاء اللاحقة نقد عمل هذا الائتلاف منذ صدور الإعلان حتى الآن.

نقد إعلان دمشق

بادئ ذي بدء، لم أفهم إلى الآن سبب نسب اسم الإعلان إلى مدينة دمشق وليس إلى سوريا. صحيح أن دمشق هي العاصمة وصحيح أنها تعتبر رمزاً بشكل أو بآخر بالنسبة للسوريين، لكن كل ذلك ليس مبرراً لانفراد مدينة دمشق باسم الإعلان دوناً عن باقي المدن الأخرى. بكل الأحوال هذه نقطة شكلية إلى حد ما، أما الأهم فهو الآتي.

التوقيت

لا يمكننا سلخ الإعلان عن مجريات الأحداث السياسية الاقليمية والدولية وتفاعلاتها ضمن الساحة السورية وانعكاساتها عليها، فقد ظهر الإعلان في نهاية عام 2005 الذي تم فيه اغتيال رفيق الحريري وبعد إنشاء لجنة التحقيق الدولية بقيادة ديتليف ميليس، وتحديداً قبل تسليم تقريره عن مجريات التحقيق إلى مجلس الأمن بأيام قليلة. كانت الرياح حينها تجري بما لا تشتهيه سفينة النظام السوري، ووجد هذا الأخير نفسه معزولاً وغير مرغوب به، أو بسلوكه على الأقل، من قبل جميع دول العالم تقريباً بما فيها الدول العربية. هذا المناخ السائد جعل المعدين لإعلان دمشق يستعجلون في إظهاره للعلن للاستفادة من تلك الرياح قدر الإمكان وتسخيرها لصالحه. لا أدعي معرفتي بمجريات التفاوض حول نص الإعلان، لكن الثغرات التي حفل بها وكذلك بعض التناقضات كانت خير دال على هذه العجالة.

يبدو أن أطراف الإعلان اعتقدت أن ما بقي من عمر النظام يعد بالأشهر فقط، مما دفعها للدعوة للتعبئة لمهمة تغيير إنقاذية، فسقوط النظام بات وشيكاً ولا بد من اتخاذ الخطوات اللازمة لملئ الفراغ السياسي وعدم ترك الفرصة للمغامرين والمقامرين بمستقبل البلاد. هذا التوقيت الغير مناسب كان برأيي أسوأ فخ وقع فيه الإعلان لأنه كان السبب عملياً في معظم الثغرات التي سوف نأتي على ذكرها لاحقاً، بل أعطت انطباعاً عند البعض بأن الإعلان مرتبط بأجندة خارجية ما، أو على الأقل تم ربط ساعة التحرك الداخلي على إيقاع المتغيرات الإقليمية والدولية.

الإعلان يفقد المبادرة

فقد الإعلان روح المبادرة في أكثر من مكان. فرغم أنه رفض التغيير الذي يأتي محمولاً من الخارج، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يتهمه بأنه يتبع لأجندة خارجية أو أنه مرهون للخارج، إلا أن هذا لا يعني أنه لم يراهن على الخارج، والفرق شاسع بين الرهان والارتهان. ومثله كمثل إحدى الشركات التي تسعى أن تنافس شركة أخرى مسيطرة في السوق، لكنها عاجزة ضمن إمكانياتها عن بلوغ الهدف، وبالتالي فالحل الوحيد المتاح، عندما تكون في عجالة، أن تراهن على الرياح الغير مواتية لخصمها لتكون لها الغلبة دون التآمر على ذلك الخصم. أي دون فعل لا أخلاقي، لكن في نفس الوقت لا يشكل نجاحها المؤقت، إن كان ما تريد، قوة داعمة لها في المستقبل وبالتالي من السهل سقوطها عندما تعود الرياح إلى سابق عهدها.

ذكر الإعلان، في مقدمته، العزلة الخانقة التي وضع النظام فيها البلاد “نتيجة سياساته المدمرة والمغامرة وقصيرة النظر على المستوى العربي والإقليمي وخاصة في لبنان، التي بنيت على أسس استنسابية وليس على هدى المصالح الوطنية العليا”. يطرح سؤال نفسه هنا: لماذا لم يعلو صوت المعارضة السورية حول علاقة النظام في لبنان إلا بعد اغتيال الحريري واتهام النظام السوري بهذه الجريمة؟ بعد صمتها لثلاثين عاماً عن ممارسات النظام في لبنان، تتذكر المعارضة فجأة هذه النقطة وتحشرها في الإعلان، وكأنها لم تكن موجودة! فقد بدا الإعلان وكأنه خارج السياق الفكري لأطرافه، كما لو أنه وحي منزل. أجد تخصيص لبنان هنا إعلان براء من كافة ممارسات النظام التي تدعي الدول الغربية والعربية أنها تزعجها، بالرغم أنها لم تكن مزعجة قبل ذلك لتلك الدول.

شعر الموقعون على الإعلان “أن اللحظة الراهنة تتطلب موقفاً وطنياً شجاعاً ومسؤولاً، يخرج البلاد من حالة الضعف والانتظار التي تسم الحياة السياسية الراهنة، ويجنبها مخاطر تلوح بوضوح في الأفق”. وبالتالي كان لا بد من إخراج هذا الإعلان إلى النور في هذه اللحظة بالذات، حيث تتسارع الأحداث وينفذ صبر المجتمع الدولي من النظام السوري الذي يزداد موقفه تعنتاً مع زيادة الضغوط عليه، مما يهيئ الظروف الخارجية والداخلية لسقوطه. أي أن الإعلان يضع نفسه بديلاً شرعياً عن النظام مما “يساعد على تجنب الانتهازية والتطرف في العمل العام“.

بعد تعداد الأسس التي توافق عليها الموقعون، أعلنوا بأن عملية التغيير قد بدأت! متى وكيف لا أحد يعلم! هل بدأت مع الإعلان أم قبله؟ أم تحديداً مع صدور القرار 1559 الذي أعلن وبوضوح غضب الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، من سياسات النظام السوري؟!

صحيح أن الإعلان رفض التغيير محمولاً من الخارج، إلا أنه لم يكلف نفسه عناء نقد السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، وخاصة مشروع الشرق الأوسط الكبير، وذلك ليس اتباعاً للموضة السياسية والإعلامية السائدة، بل كضرورة فكرية وسياسية وعملية لإنقاذ الديمقراطية من براثن إدارة البيت الأبيض الذي عاث بها تشويهاً وتخريباً وأراق الدماء في غير مكان من هذا العالم باسمها. كما أن المواطن السوري، الخائف من عرقنة سوريا، يستحق أن يطمئنه الإعلان وبشكل عملي، أن الساعين إلى التغيير ليسوا أحمد جلبي حتى لو لم يأتوا على ظهر دبابة.

إني مقتنع تماماً أن إعلان دمشق لا يرتهن إلى الخارج ولا يتبع أجندة غير وطنية، إلا أني أؤكد أنه كان يراهن على الضغوط الخارجية لتفعل فعلها في إضعاف النظام إلى الحد الذي يصبح فيه التغيير على قدر الإمكانات المتواضعة وفي متناول اليد خلال فترة قصيرة. أي أنهم أخطئوا في حسابات نتائج المتغيرات السياسية الطارئة، وهذا غالباً ما يجنيه كل من يراهن على ضعف خصمه بدل أن يضع خططه الخاصة للتعامل مع جميع الاحتمالات وفق أسس واضحة تمكنه من النجاة وضمان القدرة على المبادرة مهما كانت نتائج المتغيرات الظرفية، وإن أردت أن أبتعد عن التلميح، فأقول أن الرهان الأول يجب أن يكون على المواطن نفسه صاحب المصلحة في التغيير، وهذا يقتضي بدوره الكثير من العمل الشاق والطويل، ليس هنا مكان الحديث عنه.

المواطنة

حضرت مفاهيم مثل مكونات الشعب السوري والأقليات القومية والآخرين بقوة في الإعلان على حساب مفهوم المواطنة رغم وروده في نص الإعلان ثلاث مرات. كان من المفترض أن يكون هذا المفهوم القلب النابض للإعلان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأن المواطنة تشكل الأساس الذي تحمل عليه ديمقراطية حقيقة قابلة للحياة ولا تعيد إنتاج نظام استبدادي سلطوي. وبالأحرى لا ديمقراطية دون مواطنة ولا مواطنة دون ديمقراطية. أن تحظى المواطنة بالاهتمام الفعلي يعني أن يفرد لها فقرة خاصة تهتم بتأطيرها وتعريفها وتحديد مفهومها، على الأقل من وجهة نظر الإعلان، ومن ثم ينطلق منها ليؤسس للديمقراطية المنشودة ويكون قادراً بعد ذلك على حل جميع مشكلات الأقليات الطارئة التي خلقها حزب البعث منذ احتكاره للسلطة، ومن بينها مشكلة الأكراد، وحتى المسلمين السنة الذين قال الإعلان بأنهم أكثرية دينية، هم على أرض الواقع أقلية، لأن الشعب السوري كله أقلية كونه يفتقر لحقوق المواطنة وحماية القانون ضمن الدولة التي يعيش على أرضها. في الوطن ومع المواطنة لا يوجد أكثرية وأقلية. في اللعبة الديمقراطية يوجد أكثرية سياسية، آنية، تحكم لفترة محددة و “المواطن” دون إضافة أي تفصيل إليه هو الذي يحدد هذه الأكثرية في لحظة تاريخية معينة.

كان إذاً من الواضح أن الأطراف التي صاغت الإعلان واجهت مشكلة في “التوافق” حول هذا المفهوم، لأنه يشكل ضرورة لمراجعة البنية الفكرية لبعض الأطراف، بالإضافة إلى عدم قدرة أطراف الأخرى على بلورته من وجهة نظرها إلى الآن. لذلك كان ذكر المواطنة في الإعلان عابراً مما يسهل على جميع الأطراف مهمة “التوافق” على اختيار الكلمات المناسبة بما لا يتعارض مع الفكرة، الأولية، التي يحملها كل طرف حول هذا المفهوم.

كان هذا التوافق الشكلي على حساب مضمون الإعلان وعلى حساب انسجامه مع ذاته. فلا يمكن أن تجتمع مفاهيم مثل مكونات وأقليات وأكثريات دينية وإثنية وقومية مع مفهوم المواطنة بأي شكل من الأشكال. لأن وجوده ينفي بالضرورة وجود تلك المفاهيم والعكس بالعكس. كما أثر غياب تحديد مفهوم الوطن والمواطن إلى ارتباك الإعلان وغموضه أثناء التعاطي مع مسألة الإسلام والانتماء القومي كما سنرى في فقرات لاحقة.

معالجة الأزمات الداخلية

عندما قرأت الإعلان لأول مرة، تساءلت كمواطن سوري: أين أنا في هذا الإعلان؟

جاء ذكر الإعلان للأزمات التي يعاني منها المواطن السوري باهتاً، لا يعطي أي مؤشرات حول كيفية فهم الإعلان لهذه الأزمات من حيث علاقتها مع النظام الشمولي والاستبدادي وعلاقتها بغياب المواطنة وحكم القانون والديمقراطية، بالإضافة إلى كيفية التعاطي معها بعد التغيير.

إني من الذين يعتقدون بأن التغيير السياسي مدخلاً أساسياً لحل الأزمات الداخلية والخارجية في آن معاً. لكن هذا المدخل بحاجة لمقدمات ولطريق نسلكه لتحقيقه، كما وأن هذا التغيير ليس غايةً بذاته، بل هو وسيلة لغاية أسمى وهي المواطن، هو وسيلة للانتقال بالإنسان من واقع بائس إلى واقع يعني العيش بحرية وبكرامة وبمستوى مادي وعلمي وثقافي يليق بإنسانيته. إن كان هدف التغيير هو تغيير السلطة فقط فهو مرفوض، وإن كان هدفه الانتقام من الذين وضعونا في السجون سنوات وسنوات وحولوا الوطن إلى سجن كبير فهو مرفوض أيضاً، أما إن كان هدفه المواطن، فنرحب به ونريد أن نرى المقدمات الصحيحة لذلك، وأن يجاب على سؤالنا: ماذا بعد التغيير؟

لا أتكلم هنا بالطبع عن برنامج سياسي مفصل حول آلية الحكم والنظام الاقتصادي ونظام التعليم والصحة…الخ. إلا أني كنت أتوقع من الإعلان العناية بتشخيص المرض حتى يخبرنا الإعلان على الأقل أنه إعلان المواطن وليس إعلان النخب. كما أني كنت أتوقع ربط الحلول بمدخلها السياسي أيضاً بشكل أكثر تفصيلاً ووضوحاً كما فعل في إحدى فقراته عندما تحدث عن “تحرير المنظمات الشعبية والاتحادات والنقابات وغرف التجارة والصناعة والزراعة من وصاية الدولة والهيمنة الحزبية والأمنية. وتوفير شروط العمل الحر لها كمنظمات مجتمع مدني“.

الإعلان والإسلام

أكد الإعلان في إحدى فقراته على “نبذ الفكر الشمولي والقطع مع جميع المشاريع الإقصائية والوصائية والاستئصالية، تحت أي ذريعة كانت تاريخية أو واقعية”، لكنه لا يلبث أن يوجه ضربة قاضية على تأكيده هذا في الفقرة التالية لها مباشرة والتي تتحدث عن الإسلام كدين الأكثرية. هذه الفقرة كانت خارجة تماماً عن السياق ولا تحمل أي معنى، سوى أنها هدية للتيار الإسلامي وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين لاستجدائهم للانضمام إلى الإعلان، وهذا ما حدث فعلاً عندما أعلنت الجماعة انضمامها إليه فور صدوره.

إن كان هدف الإعلان من حشر هذه الفقرة حشراً أن يقوم بذكر الواقع كما هو، فلماذا لم يفرد فقرة لكل دين وكل طائفة وكل مجموعة إثنية يتحدث عن مساهمتها في تشكيل الثقافة السورية؟ هذا إن كان لمثل هذه العملية الإحصائية مكان في مثل هكذا وثيقة سياسية.

ويتابع الإعلان تراكم الأخطاء والتراجع عن كل خطوة إيجابية يخطوها عندما يعبر عن “الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم…”. من هم المتحدثين ومن هم الآخرين؟ وكأن الإعلان يؤسس إلى حالة انقسام في المجتمع السوري بناءً على اعتبارات دينية. لأنه لا مبرر لذكر “مكون ما” و”آخرين” في سياق الحديث عن وطن ومواطن وتساوٍ في الحقوق والواجبات. الحديث عن “آخر” يستبطن الحديث عن جماعة مفارقة لجماعة أخرى، ويؤكد على تعين هوية ما تتربع على عرش الوطن، ويصبح مدعاة للمديح عندما تتسامح مع هذا الآخر وتحترم عقيدته.

الإعلان والقومية العربية

كان الخلاف واضحاً بين أطراف الإعلان حول مسألة القومية العربية، والذي تجلى في غموض بعض التعابير المتعلقة بها، مثل “المتحد الوطني السوري الراهن” لأنهم غير قادرين على الإجابة على السؤال التالي: هل سوريا دولة عربية وجزء من الأمة العربية أم لا؟ وأعتقد أنهم كانوا حينها مختلفين على الاسم بين “جمهورية سوريا” و”الجمهورية العربية السورية”. وبهدف التوافق بين التيار القومي والتيارات الأخرى كان واجباً “التأكيد على انتماء سورية إلى المنظومة العربية….التي تؤدي بالأمة إلى طريق التوحد”. فلماذا لم يذكر منذ البداية أن سوريا جزء من الأمة العربية ثم جاء على ذكر الأمة مرة أخرى؟ ولم يوضح أيضاً ماذا يقصد بالتوحد! وكأن التيار القومي العربي كان يريد أن يضع كلمة الوحدة لكن بعض التيارات الأخرى رفضت ذلك فانتهى بهم المطاف أن حوروا الكلمة لتدل على أمر ما غير واضح المعالم، ليكون لديهم هامش حرية أكبر في المستقبل لتأويلها حسب الحاجة وحسب مقتضيات الظروف.

هذا يحيلنا مرة أخرى وليست أخيرة إلى الخطأ الذي وقع فيه الإعلان منذ البداية وهو عدم توضيح فهمه للوطن وللمواطنة. فلو أنه فعل ذلك لكان من السهل عليه تجنب الوقوع المتعمد في التعميم والغموض وبالتالي تحديد موقفه من مسألة القومية العربية ومن الإسلام السياسي أيضاً.

الإعلان والجولان

كانت خيبة أمل كبيرة لي وللعديد من الذين نقدوا الإعلان والذين ناقشته معهم عندما لم يفرد بنداً خاصاً للجولان المحتل. رغم أن الشعب السوري صامت إلى حد ما تجاه أرضه المحتلة وذلك بسبب القهر اليومي الذي يعيشه، إلا أنه يتحرق شوقاً لتحرير تلك الأرض، فقد كانت على مدار أربعة عقود وإلى الآن غصة في قلب كل سوري وطعنة في كرامته. الجولان ليس مسألة عابرة حتى يتم ذكره في سياق فقرة تتحدث عن سلامة المتحد الوطني الراهن وحل مشكلاته..الخ. إنه أزمة وطن، أزمة كرامة شعب بأكمله. إن لم يكن تحرير الجولان في قلب أهداف أي تغيير وأولوية من أولوياته، حتى لو لم يكن أولولوية بالمعنى الزمني، فبئس هذا التغيير، وسيرفضه كل مواطن حر معني بسلامة كل شبر من وطنه وليس فقط الأرض التي يعيش عليها.

التغيير الإنقاذي وآلية العمل

في ختام نقدي لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، أود أن أثير نقطة أخيرة وقع الإعلان فيها في تناقض. حيث اقترح في نهايته آلية عمل لإحداث التغيير الديمقراطي الذي تحدث عنه. ولست هنا بصدد نقد آلية العمل تلك لأن الهدف بحد ذاته من هذا الإعلان غير واضح المعالم. إلا أن إلقاء نظرة على تلك الخطوات المقترحة تكشف عن تناقض مع ما ورد في مقدمة الإعلان عند حديثه عن مهمة تغيير إنقاذية. فتحقيق تلك الخطوات يحتاج إلى زمن ليس بالقليل، فكيف ينسجم ذلك مع تغيير يوصف بالإنقاذي؟

عامان بعد الإعلان: عطالة وضعف

كنت أتمنى أن يوجد الكثير مما يوجب المناقشة والنقد خلال حوالي عامين على ظهور إعلان دمشق في 16-10-2005 وحتى انعقاد المجلس الوطني الموسع. لكن للأسف ما تابعناه كان في غالبه مجرد بيانات أصدرتها اللجنة المؤقتة للإعلان لم تخرج بها عن دائرة إدانة الجهات الأمنية على اعتقال أو استمرار اعتقال بعض الناشطين وأصحاب الرأي. وإن دل ذلك على شيء فهو يدل على شلل شبه تام عانى منه الإعلان خلال هذه الفترة. (1)

أسباب موضوعية

كان التحالف الذي أعلن بين جماعة الإخوان المسلمين وعبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق في آذار من عام 2006، ضربة موجعة للإعلان بعد أن قدم هذا الأخير لتلك الجماعة هدية مجانية تتمثل بفقرة الإسلام سعياً منه لاسترضائها للانضمام إليه. لكن خدام لا يحظى بالاحترام في أوساط المجتمع السوري بمختلف اتجاهاته وطبقاته الاجتماعية. بما له من تاريخ طويل في الفساد وفي خدمة النظام بإخلاص قل له نظير لأكثر من ثلاثين عاماً وانتهى به المطاف للانشقاق عنه وإعلان العصيان عليه. هذا التحالف شكل خسارة لجماعة الإخوان بما كانت تحظى به من تعاطف نسبي من قبل المسلمين المتدينين في سوريا، وهذه الخسارة انسحبت على الإعلان ذاته. بل والأكثر من ذلك أربك هذا التحالف قوى الإعلان فلم تعد تدري ما الموقف الذي يجب أن تتخذه من هذه الجماعة، إلى أن استقر بهم الأمر على الابتعاد عن الجماعة منعاً لإثارة الشكوك حول شرعية الوسائل التي تستخدمها قوى الإعلان في سبيل تحقيق أهدافها المعلنة. كما أن توقيع بعض شخصيات الإعلان على إعلان دمشق-بيروت، كان ضربة قاسية أخرى تلقاها إعلان دمشق لما نتج عنها من اعتقالات وأحكاماً بالسجن على تلك الشخصيات بالإضافة إلى هز مصداقيته أمام المواطن السوري الذي سمع للتو بما يدعى بمعارضة سورية.

ذكرت سابقاً في هذا النص أن أحد أهم نقاط ضعف الإعلان هي فقدانه لروح المبادرة والمراهنة بشكل كامل على المتغيرات الإقليمية والدولية بانتظار سقوط النظام، وكان باعتقاده أن مهمته الأساسية تحضير البدائل المقبولة لهذا النظام بعض سقوطه. إلا أن الرياح لم تجر بما تشتهي السفن، فقد كان عامي 2006 و 2007 حافلان بالأحداث التي خففت الضغوط على النظام السوري وساعدته على تدعيم موقفه والخروج من الأزمة بل وزادته صلابة ولو حتى بشكل مؤقت. من هذه الظروف نجاح المقاومة اللبنانية (حزب الله) في منع إسرائيل من تحقيق هدفها بالقضاء عليها، مما عزز ثقة النظام السوري بنفسه مقابل الضربة التي وجهت إلى أسطورة قوة الردع للجيش الإسرائيلي. كما أن فوز حماس أكبر حليف لسورية في فلسطين المحتلة في الانتخابات التشريعية والتحالف الرباعي الذي تكون بين دمشق وطهران وحماس وحزب الله زاد من قدرة النظام السوري على المناورة السياسية ضد الضغوط الغربية والعربية. أضف إلى ذلك التدهور الأمني في العراق الذي زاد الضغوط، الداخلية خصوصاً، على واشنطن حول جدوى احتلال العراق وجدوى البقاء فيه، كما أن الخسارة النسبية التي مني بها الحزب الجمهوري في انتخابات الكونغرس زاد الطين بلة، كل ذلك شتت تركيز إدارة البيت الأبيض مما خفف كثيراً الضغوط على النظام السوري. والنتيجة كانت استعادة النظام جزءً من عافيته والانتقام من المعارضة السورية وضربها بيد من حديد.

أسباب ذاتية

تحدد خصائص التكوين الذاتي لأي مركب مادي أو عضوي أو اجتماعي أو سياسي…الخ شكل تأثير الأفعال أو الأحداث الخارجية في هذا المركب، ورد الفعل الذي يقوم به تجاه تلك العوامل والمؤثرات إن كان على المستوى الداخلي أو الخارجي. فالأثر الناتج عن ضرب قطعة زجاج بالمطرقة يختلف كثيراً عن الأثر الناتج عن ضرب قطعة حديد بذات المطرقة، وإن لعبت المطرقة كمؤثر خارج دوراً مهماً في هذا الأثر حيث أنها تشكل الفعل. أي أن الفعل له أثر ما، يحدده خصائص الشيء بذاته. وكذلك الأمر بالنسبة لإعلان دمشق، فما كان لكل الظروف التي مرت عليه والضربات التي تعرض لها أن يكون لها هذا الأثر الذي نراه الآن لو أن خصائصه الذاتية كانت قادرة على استيعاب تلك الأحداث التي مرت عليه خلال الفترة الفاصلة بين صدوره وبين انعقاد المجلس الوطني. ليس العيب في اختلاف مكونات المركب، بل هو ضرورة عقلية بما ينطوي عليه من جدل موافق لطبيعة العقل، لكن العيب في طريقة التقاء تلك المكونات والأسس التي استند عليها هذا المركب، أي الإعلان. فقد كانت نقطة الالتقاء الوحيدة عملياً بين أطراف إعلان دمشق هي ضرورة التحول الديمقراطي وتغيير النظام، وماعدا ذلك كان محل اختلاف وخلاف أو أنه لم يكن واضحاً في ذهن أطراف الإعلان، بغض النظر عن كل العبارات الإنشائية التي يطلقها هذا الطرف أو ذاك.

تألف الإعلان من تيارين رئيسيين هما التيار اليساري القومي الاشتراكي مركز ثقله الأحزاب القديمة وخاصة أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي وبعض المثقفين المستقلين، والاتجاه الثاني ليبرالي الهوى وغالبيته من المثقفين المستقلين. يمكننا تحسس نقاط الاختلاف بين هذين التيارين من خلال نص الإعلان بحد ذاته بما حفل به من تناقضات عديدة وغموض متعمد في الكثير من فقراته والتي تم توضيحها في فقرات سابقة من هذا النص. لكن يمكننا تلخيص تلك النقاط وبسرعة بالموقف حول هوية سوريا وعلاقتها مع محيطها العربي، وأولية التغيير الديمقراطي كهدف بذاته وعلاقته بمقاومة المشاريع الأمريكية والصهيونية، والموقف من الدول الأخرى التي تعارض وبشدة كافة تصرفات النظام أي الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والعربية التي تدور في فلكها، بالإضافة إلى الموقف من التعويل على المتغيرات الإقليمية والدولية أو بالأحرى على دعم تلك الدول لعملية التحول الديمقراطي، بالإضافة الموقف من الليبرالية وعلاقتها بالتنمية الاجتماعية والوضع المعاشي للمواطن السوري. ولا أدل على كل هذه الخلافات من السجال الإعلامي الذي دار بين هذين التيارين بعد انعقاد المجلس الوطني. لا يعنى هذا النص بتقييم موقف هذا الطرف أو ذلك، ولكن البحث عن أسباب الخلل والضعف في إدارة الاختلاف هو الهدف المنشود هنا:

o لست ضليعاً في الأحزاب الموجودة على الساحة السياسية السورية، المبتورة، منذ عشرات السنين، إلا أني، ومن خلال البحث والاستقصاء حول مبادئها الفكرية وأسسها الفلسفية، أستطيع أن أؤكد أن خطابها لم يتغير منذ تأسيسها إلى الآن وهي على نسختين فقط، قومية عربية اشتراكية أو شيوعية ولا يخفى التشابه في بعض الأوجه فيما بينها. حدث التغيير فقط في بعض مقدمات الخطاب والتي تعود إلى تغير الظروف الداخلية وخاصة الأوضاع المعيشية للمواطن، لكن النتيجة التي يجب أن تبنى على المقدمات لم تتغير. لأني أعتقد أن هذه الأحزاب غير قادرة على القيام بعملية مراجعة لخطابها ومواقفها الفكرية فهي مجرد نسخ معربة من الفكر القومي الذي ساد في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر(2) والفكر الشيوعي الذي ساد في بعض مناطق العالم بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا(3).

o كما هو حال المثقفين السوريين والمصريين خلال القرن العشرين، ركب الكثير من المثقفين المعاصرين الموجة العالمية السائدة هذه الأيام، أي الليبرالية، والمفارقة المضحكة أننا نسمع عن ليبراليين وليبراليين جدد! هل كان لدينا ليبراليين حتى يكون لدينا ليبراليين جدد؟ أين الفكر وأين تجديده؟! ببساطة لا يوجد سوى (حوار) أيديولوجي بين ليبراليين من جهة واشتراكيين وإسلاميين من جهة أخرى. كل طرف يطرح البعض القليل الذي يمتلكه على أنه حقائق غير قابلة للنقاش وكأنه يمسك الحل بين يديه. إن بحثنا في مواقع الانترنت وفي المكتبات العربية لوجدنا الكثير الكثير من المقالات مقارنة مع القليل القليل من الكتب التي تدور حول الليبرالية، ولكن في معظمها إما هجوم أو دفاع. إذاً لدينا هنا معطيين، الأول هو الكم الهائل من المقالات حول الليبرالية في مقابل النذر اليسير من الكتب والذي يدل على ضعف البنية الفكرية لليبراليين لأنهم غير قادرين سوى على كتابة بضع أسطر فقط لا غير (على شكل مقالة) لأنهم بالأساس لا يمتلكون سوى القليل، والمعطى الثاني، أن معظم ما يكتب هو للدفاع أو للهجوم، أي أنه خطاب مؤدلج لا يسمن ولا يغني من جوع لأنه لا يشرح ولا ينقد ولا يفيد من تجربة أو فكرة للتأسيس لبناء جديد. أي وباختصار، يعاب على التيار الليبرالي عدم قدرته على التأسيس المعرفي لفلسفته ناهيك عن اختبارها على أرض الواقع في سياق جدلي للوصول إلى المشروع الأكثر قابلية للحياة ضمن معطيات الواقع والآن التاريخي، أضف على ذلك عدم الرغبة أو القدرة على التعلم من تجارب الآخرين في مجال تطبيق الفلسفة الليبرالية التي أصبحت عملياً فلسفات عدة باختلاف المكان والزمان.

o مجمل النقطتين السابقتين هو غياب البنية الفكرية التي يمكن التأسيس عليها لإحداث التغيير. أي أننا نعاني أزمة فكر بالدرجة الأولى والتي تنعكس على شكل أزمات على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى الأخلاقية. وهذا أدى إلى ظهور مقولات مبتورة مثل الوحدة هي الحل والإسلام هو الحل والليبرالية هي الحل والعلمانية هي الحل والآن بدأنا نسمع أن الديمقراطية هي الحل، وهذا الإدعاء الأخير واضح بشكل جلي في إعلان دمشق، فالارتباك والغموض والتناقض يملأ فقراته ولا يجمعها (شكلياً) سوى الدعوى إلى دمقرطة الحياة (السياسية). سوف أتحدث في فقرة لاحقة عن مفهوم الديمقراطية كما يراها ائتلاف إعلان دمشق.

o تغلغلت الشيخوخة وطغت على مجمل الحراك السياسي المعارض في سوريا، وأخص هنا أطراف ائتلاف إعلان دمشق. وأريد أن أهمس في أذن الأحزاب السياسية التي تقول بتاريخها النضالي الطويل في سبيل الديمقراطية والحرية: لماذا مازالت القيادات هي ذاتها ولم تتغير منذ عشرات السنين؟ كيف تطالبون بالديمقراطية وهي مفقودة في عقر داركم؟ يتضح لكل مراقب حالة الابتعاد عن الكوادر الشابة في ممارسة العمل السياسي المعارض، وبالتالي غياب النشاط والإبداع الذي يجب أن يضاف إلى الخبرة الطويلة في هذا المجال. أدت هذه الشيخوخة إلى تصلب المواقف وابتعاد التيارات والأحزاب عن قواعدها التي يجب أن تساندها في حراكها، حتى أنها لا تملك كوادر مؤهلة تعمل في عدة مجالات يحتاج إليها كل تحرك في سبيل التغيير، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نرى أن مواقع الانترنت الخاصة بالتيارات المعارضة ضعيفة تقنياً، ومنها لا يتم تحديث محتواه إلا على فترات طويلة ناهيك عن ضعف الخبرات الإعلامية التي يحتاجها هذه الحراك من أجل الوصول إلى شرائح أكبر من الجمهور. ماذا يمكن أن يفعل 200 عضو في ائتلاف دمشق؟ وحتى وإن احتسبنا المنتمين للأحزاب المختلفة وعلى فرض عدم وجود الخلافات التي نراها الآن بين تيارات الإعلان المختلفة، فكم يصبح لدينا، 10000 عضو؟ هل نستطيع أن نعول على هذا العدد، مع ضعف الخبرات المطلوبة في مجالات عدة، على إحداث التغيير المطلوب؟

o حتى نتحدث عن تغيير حقيقي قادر على الحياة، لا بد من وجود حامل لهذه العملية، وهذا الحامل هو المواطن صاحب المصلحة الأولى بالتغيير. لكن كيف يمكن أن نقنع هذا المواطن بذلك؟ أن يكون المواطن حاملاً للتغيير يرتب عليه مسؤولية المواجهة أولاً، ثم مسؤولية التغيير، ثم مسؤولية نتائج التغيير. هذا يعني أننا إذا أردنا أن يكون المواطن هذا الحامل يجب أن نقدم له مشروعاً يحقق مصالح جميع شرائح المجتمع دون استثناء. وهذا يقتضي بدوره بناء جسور التواصل معه من خلال توجيه مزيد من العمل والتركيز على همومه اليومية والمعاشية والإنسانية، مما يؤدي أولاً إلى دراسة الواقع ووضع الحلول وثانياً ربط المسألة الديمقراطية بهذه الحلول لينتج لدينا مشروعاً متكاملاً للتغيير وثالثاً كسب ثقة هذا الموطن الذي سيكون المستفيد الأول أو المتضرر الأول من التغيير، ويجب التنويه أن المواطن ليس غبياً، بل يدرك أين مصلحته تماماً ومستعد للتضحية بالكثير في سبيل تحقيق تلك المصلحة، لكن القصور في فقر المشاريع المطروحة إلى الآن التي لم تستطيع إقناعه بالتخلي عن استقالته ولا مبالاته.

إذاً، تعددت الأسباب والنتيجة واحدة، عطالة وضعف وهشاشة. فماذا كانت أطياف المعارضة المنضوية تحت إعلان دمشق تفعل خلال هذين العامين؟ كانت منفعلة وليست فاعلة كما تعود المواطن السوري أن يكون دائماً في حالة انتظار. عامان من العطالة كان من الممكن أن يحدث الكثير والكثير خلالهما. ولا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن نعزو هذا الفشل إلى سوء الحظ، أي إلى المتغيرات الإقليمية والدولية التي جاءت لصالح النظام، لأن أول ما فشلت به المعارضة هو الوصول إلى الرأي العام السوري. لم تستطع ولم تعي بعد (حتى هذه اللحظة) كيف يمكنها بناء جسور الثقة والتفاهم والتفاعل مع المواطن الذي لن يحدث أي تغيير بالمعنى الإيجابي دون دعمه، بل وأبعد من ذلك، فإن أي تغيير دون دعم المواطن لن يكون إلا سلبياً. صحيح أن سطوة أجهزة الأمن والمخابرات تعيق كثيراً أي تقدم في هذا المجال، ولكن لا نستطيع أن نجعل منها شماعة نعلق عليها فشلنا الواحد تلو الآخر.

اجتماع المجلس الوطني الموسع

رأينا من خلال العرض السابق أن نص إعلان دمشق عانى من الغموض والتناقض والنقص ، بالإضافة إلى عدم التناغم في تركيبة هذا الائتلاف مع ملاحظة العطالة التي طغت على مجمل الحركة بعد صدوره مما يقودنا إلى الاستنتاج بأن الخلافات والصراعات الداخلية بين القوى والشخصيات الموقعة عليه كانت هي المسيطرة في الفترة الممتدة بين تاريخ صدور الإعلان واجتماع المجلس الوطني الموسع. لم تكن تلك الخلافات قد طفت على السطح قبل انعقاد المجلس، إلا أنها كانت أحد أسباب الضعف الذي تحدثنا عنه. وأدركت القوى والشخصيات المكونة للائتلاف، ولو متأخرة، أن صدور الإعلان كان إنجازاً بذاته، ولكن هذا الإنجاز قد حكم عليه بالموت إن لم يتم تدارك الأمر والبدء بتحرك فعلي على الأرض يعيد الروح له مرة أخرى ويحيي الأهداف ويحدد الوسائل، ولم يكن خيراً من مأسسة الإعلان ائتلاف إعلان دمشق كنقطة انطلاق لهذا الحراك، فجاء اجتماع المجلس الوطني الموسع في الأول من كانون الأول عام 2007 ليقوم بهذه المهمة.

انعقد المجلس بحوالي 163 عضواً، وتم خلاله انتخاب أعضاء الأمانة العامة، وكانت المفاجئة هي سقوط زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي حسن عبد العظيم ورفاقه بالإضافة إلى سيطرة الشخصيات الليبرالية المستقلة على معظم المواقع، وهذا ما انتقده حسن عبد العظيم عندما قال: نعتقد أن كثرة المستقلين من الاتجاه الليبرالي جعلت الموازين مختلة فشخص مستقل يوازي رئيس حزب من التجمع (التجمع الوطني الديمقراطي). ويشير مراقبون إلى أن استقطاباً حاداً سبق ورافق انعقاد المجلس بين معظم الطيف المشارك من جهة، وبين الاتحاد الاشتراكي وقلة من الشخصيات المستقلة تتمسك بالتوافقات وبالإعلان التوضيحي(4).

البيان الختامي

خرج اجتماع المجلس الوطني الموسع ببيان ختامي أقل ما يقال عنه أنه شكل قفزة نوعية مقارنة مع نص إعلان دمشق، وهذه نقطة إيجابية تحسب لصالح الائتلاف، وفيما يلي سرد لبعض الملاحظات السلبية والإيجابية حول هذا البيان حيث سوف أعتمد على تقسمه إلى مقدمة وخاتمة وصلب البيان المؤلف من سبع فقرات:

o ربط البيان في مقدمته بين سياسات النظام والفساد وسوء الإدارة وتخريب مؤسسات الدولة من جهة وبين الأزمة المعيشية الخانقة من جهة أخرى، لغوياً فقط. أي أن الذي يقرأ المقدمة ويخضعها للمحاكمة العقلية يستنتج بأن المشكلة تكمن في شخوص النظام ومسئوليه وليس في ماهيته، وبالتالي فالتغيير ينشد استبدال هذه الشخوص والإتيان بغيرهم نزيهين ويتمتعون بالكفاءة العلمية على إدارة البلد، وهذا يذكرنا بدوره، بادعاءات الإصلاح الإداري التي نسمع بها منذ عدة سنوات. ثم قفز بعد ذلك وفي نفس المقدمة إلى القول بأن الهدف الجامع الموحد للقوى والأفراد هو الانتقال بالبلاد إلى نظام وطني ديمقراطي دون أي مقدمات لهذه النتيجة سوى الربط السابق الذي يشكل مقدمة ضعيفة لاستنتاج هذا الهدف. ثم يقوم البيان في فقراته التالية بالربط بين المسألة الديمقراطية والتنمية والمواطنة ودولة القانون، دون احترام التسلسل المنطقي بين المقدمة والنتيجة والحل. فكان الأجدى من بيان صادر عن نخبة مثقفة أن تحترم قدرة الآخرين على المحاكمة المنطقية وعدم التشويش عليهم بقفزات عشوائية، أي البدء بمظاهر المشكلة وهي أزمات المواطن السوري المعاشية والحقوقية والإنسانية ثم ربط حلها مع التنمية الشاملة على كافة المستويات، ومن ثم ربط ممارسات النظام باستحالة تنفيذ الحلول ثم الانتقال إلى ارتباط الممارسات بالماهية (وحدة الشكل والمضمون بالمعنى الجدلي الهيغلي) لنستطيع بعد ذلك أن نستنتج أن الحل يكمن في تغيير النظام على مستوى الجوهر والأشخاص(5). هذا النقد لا يركز على الناحية الشكلية للبيان، فالمشكلة ليست في ترتيب الجمل بل في القدرة على إقناع المواطن أن ائتلاف إعلان دمشق فهم أصل الأزمة ويحمل مشروعاً يحقق مصالح المواطن ويحل مشكلاته العالقة.

o من التطورات الإيجابية التي اتسم بها البيان الابتعاد في الفقرتين الثانية والسابعة منه عن المفاهيم الدالة على المكونات والتقسيمات الاجتماعية على أساس ديني أو اثني، فقد جعل هدف التحول ضمان الحقوق المتساوية للمواطنين وتحديد واجباتهم على أساس عقد اجتماعي يتجسد في دستور جديد في دولة مدنية حديثة.

o تجاوز البيان في سياق التحدث عن مفهوم التغيير الذي ينشده الإشكالات التي وقع فيها إعلان دمشق والتي تجسدت في المراهنة على الظروف الخارجية وضعف النظام، حيث أن البيان في فقرته الأولى وفي خاتمته قرر أن يسير بالتغيير بشكل متدرج وفهم أن مازال أمامه عمل شاق وطويل لفرض التحول بشروط داخلية من خلال بناء منظومة أخلاقية ديمقراطية تكون كفيلة بالتوصل إلى صيغ مدنية حديثة.

o استطاع البيان حل الغموض، إلى حد كبير، حول فهم ائتلاف إعلان دمشق لمسألة الديمقراطية. فقد قام البيان في فقرته الرابعة تحديد الأسس التي يستند إليها فهمه للديمقراطية وأهمها الانتخاب الحر وتداول السلطة والمواطنة والعدالة الاجتماعية. كما أنه استطاع في فقرته الخامسة الربط بين التنمية الإنسانية الشاملة (بعد تحديد مفهومها بشكل مختصر) مع مسالة الديمقراطية، والأهم من ذلك أن الربط كان جدلياً بينهما. وفي فقرته الثالثة بين أن أهداف التغيير الديمقراطي لا تنحصر نتائجها فقط في الشؤون الداخلية بل تتعداها لتساعد على حل المشاكل ذات الطبيعة الخارجية مثل الحفاظ على السيادة الوطنية واستعادة الجولان وحماية البلاد من العدوان الصهيوني والتدخلات الخارجية. أما في الفقرة السابعة فكان موفقاً أيضاً في فهمه لقضية المواطنة من الناحية القانونية من حيث هي تساوي الحقوق والواجبات لكل سوري بغض النظر عن أي اعتبار آخر.

o وقع البيان في خطئٍ دلاليٍ عندما قال في فقرته الرابعة أن الديمقراطية هي جوهر هذا النظام (الوطني الديمقراطي)، فهذا بدوره يوحي بأن الغاية هي الديمقراطية لذاتها وأن الدمقرطة المنشودة هي سياسية فقط، أي بمعنى تداول السلطة، وهذا يناقض الإيجابيات التي أتيت على ذكرها في النقطة السابقة. بينما جوهر النظام، الذي هو نتيجة التغيير، يجب أن يكون المواطنة بما هي ضمان لمصالح كافة أفراد وشرائح المجتمع دون استثناء، وتشكل الديمقراطية في مثل هكذا نظام أحد الركائز الأساسية وليس الجوهر.

o لا أعلم لماذا تراجع ائتلاف إعلان دمشق في الفقرة الثالثة من البيان عن التوافق الذي توصل إليه في النقطة الأولى من بيانه التوضيحي الصادر في 31/1/2006، فاكتفى في البيان الختامي بذكر دعم الإدارات الأمريكية للعدوان الصهيوني رغم أنه أشار بشكل ضمني إلى المشاريع الأمريكية في المنطقة من خلال التدخل العسكري الخارجي ومشاريع الهيمنة والاحتلال وسياسيات الحصار الاقتصادي. بينما كان من المناسب صياغة هذه الفقرة كما جاء في البيان التوضيحي والتي نالت قبولاً واسعاً من النقاد وأطياف المعارضة السورية بعد أن تم إغفالها في نص الإعلان.(6)

وأخيراً، كان البيان مختصراً ولم يرق بعد ليكون مشروعاً سياسياً اجتماعياً أو حتى مجرد خطوط عريضة لمثل هكذا مشروع. فالمطلوب ليس فقط ديمقراطية سياسية.

ما بعد انعقاد المجلس

تلقى ائتلاف إعلان دمشق ضربتين موجعتين إلى الحد الذي يمكن أن تكونا السبب بتصفية كل الإنجازات التي تحققت حتى انعقاد المجلس الوطني. الأولى كانت متوقعة إلى حد كبير وهي الهجمة الأمنية الشرسة التي أدت إلى اعتقال العشرات من أعضاء الائتلاف وما يزال البعض منهم وخاصة من القيادات قيد (المحاكمة) حتى الآن. ومن الجدير ذكره أن الاعتقالات بدأت عشية الاحتفال بيوم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان! أما الضربة الثانية والتي كانت أشد وطأة من الأولى هي الصراع الداخلي بين تيارات الائتلاف إلى درجة باتت توحي أنه تفكك بالفعل. فقبيل حملة الاعتقالات أعلن حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي تجميد عضويته في إعلان دمشق ومن ثم تبعه ندى الخش وحزب العمل الشيوعي والعديد من الشخصيات مثل هيثم المناع وناصر الغزالي وماجد حبو (تراجعت لاحقاً ندى الخش عن تجميد عضويتها)، وذلك بدعوى أن التيار الليبرالي استأثر بالإعلان لنفسه وكيفه على هواه، واستمرت السجالات والمماحكات الإعلامية حتى الآن وإن خفت حدتها في الشهرين الأخيرين، فكل طرف ينهال بالاتهامات على الآخر بدعاوى مختلفة. وهنا لدي بعض الملاحظات والتساؤلات حول هذه السجالات:

o لماذا لم تظهر الاعتراضات على توجهات التيار الليبرالي إلا بعد هزيمة البعض في الانتخابات؟

o لماذا لم يتم تجميد العضوية مباشرة بعد صياغة البيان الختامي وقبيل الانتخابات؟

o أين كان الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي من “الممارسات الخاطئة على امتداد السنة الأخيرة التي سبقت المجلس الوطني للإعلان وفي مقدمتها تجاوز التوافق الوطني بين أطراف الائتلاف” (7)؟

o كان من الأجدى للذين قاموا بتجميد عضويتهم مناقشة رؤاهم في سياق النقد البناء لتطوير البيت الداخلي وإن كان عبر وسائل الإعلام ولكن بمنهجية تحليلية حوارية وليس هجومية اتهامية تخوينية.

o لماذا لم يحتج أولئك المنسحبون على صيغة الانتخابات قبل حدوثها؟ أم أن الديمقراطية جيدة عندما نصل نحن إلى المراكز القيادية وتصبح غير مناسبة عندما تكون نتيجتها الهزيمة؟

o إن لم تكن الانتخابات هي الوسيلة لتحديد أعضاء الأمانة العامة، فما هي الوسيلة إذاً؟ لو كنا نتحدث عن ائتلاف حكومي بين أحزاب لتحدثنا عن توافقات وتعيينات وليس انتخابات، لكن والحال ليس كذلك، فلا يوجد بديل عن الانتخابات. مع التسليم أنها ليست الصيغة المثلى لأنها تساوي بين رئيس حزب وشخصية مستقلة. لكن في المقابل لا يمكن أن نساوي رئيس حزب بأكثر من عضو، لأن كل الأعضاء يمثلون جميع شرائح المجتمع ولا نستطيع قياس مدى تأييد المواطنين لكل شخصية أو تيار بسبب امتناع ذلك في الواقع السياسي السوري.

o من يتهم التيار الليبرالي في أنه يستقوي بالخارج فلا بد من تذكيره بمعلومة مهمة، وهي أن مؤتمر أنابوليس عقد قبيل اجتماع المجلس الوطني بأيام قليلة وعلى أثرها سرت موجة دفء خفيفة في الخطاب المتبادل السوري-الأمريكي واستمرت لنحو أسبوعين تقريباً (وأعتقد أن هذا هو سبب عدم البدء بحملة الاعتقالات مباشرة بعد انعقاد اجتماع المجلس)، وبالتالي، لا يمكن للمعارضة في تلك الفترة المراهنة على واشنطن.

o أستغرب تقديم رياض الترك الشكر جورج بوش الابن لتأييده لاجتماع المجلس الوطني بحجة أنه يشكر الموقف بغض النظر عن صاحبه، وهذا غير مقبول من وجهة نظر مبدئية وأخرى براغماتية. أما الأولى فلأننا لا نستطيع أن ننسى أن أيدي السيد بوش ملطخة بدماء العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم في دول العالم، ولا نستطيع أن نتناسى أيضاً أبو غريب وغوانتنامو وغيرهما، فهل سيد البيت الأبيض هذا يقف في صف واحد مع الديمقراطية وحقوق الإنسان فعلاً؟ أم أنه يسير في الاتجاه المعاكس تماماً؟ وهل إن قام هتلر من قبره وأيد إعلان دمشق نقوم بشكره أم نتساءل ما هي مصلحته الآن بذلك؟ أما وجهة النظر الثانية فتقول بأن شعبية الولايات المتحدة في أدنى مستوياتها في العالم وفي سوريا بشكل خاص، فكيف يريد السيد رياض الترك التعويل على الشعب السوري في إحداث التغيير في الوقت الذي تشكر واحداً من ألد أعدائه؟

o بالرغم من أني لا أرى سوى ظلال تيار ليبرالي في أطياف المعارضة السورية، إلا أني لم أستطع من خلال قراءتي لكل تلك السجالات تحديد الوجه الليبرالي الذي تنتمي إليه تلك الأطياف، هل هو ليبرالية جديدة أو ليبرالية أنكلوسكسونية؟ أم ليبرالية المحافظون الجدد؟

لحظة الحسم: تطوير أم تدمير؟

يمر الآن ائتلاف إعلان دمشق بلحظة حاسمة، فإما تتم تصفية الإنجازات التي تحققت (حتى انعقاد المجلس الوطني) نتيجة الجهد المضني الذي بذلته الأطراف كافة أو تستفيد جميع القوى والشخصيات من الدروس وتعمل على تطوير بيئة العمل المعارض في سوريا. فمعظم قيادات الإعلان قابعة في سجون النظام، وأدت الحرب الإعلامية بين تياري الإعلان إلى فقدان الثقة بين أطرافه بسبب التخوين المتبادل بينهما، فكل طرف يتهم الآخر بالعمالة أو التواطئ مع الخارج أو مع السلطة.

وبرأيي، فإن الإعلان يمر هذه الأيام بحالة احتضار وإن لم يتم وضعه، قبل فوات الأون، في غرفة العناية المشددة وعلاج مواضع الخلل فيه، فلن نسمع بعد فترة من الآن أي ذكر له إلا من باب الترحم عليه. وأسوق في هذه الفقرة العوامل التي يمكنها أو تنقذ الإعلان وتجعل منه قوة حقيقية فاعلة، ومن ثم العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى تدمير الإعلان كحركة معارضة سورية وطنية ديمقراطية.

العوامل المساعدة على الإنقاذ

o وجود العديد من المثقفين السوريين الوطنيين المؤيدين أو الناقدين للإعلان ومن كافة التيارات يستطيعون إغناءه بالآراء والطروحات والمناقشات لبلورة مشروع عقلاني للتغيير لا يستثني مصالح (الوطن). تلك القوة الكامنة بحاجة إلى من يستحثها على العطاء من خلال البرهنة لها أن جهودها لا تستخدم مطية لأي شمولي تسلطي يريد فقط الوصول إلى السلطة أو يريد فرض وجهة نظره على الآخرين.

o بالرغم من الأثمان الباهظة التي دفعوها، استطاع أطراف إعلان دمشق كسر الحواجز والخروج بالعمل المعارضة إلى الدائرة العلنية، وهذا من شأنه على أقل تقدير إعطاء دفع معنوي لجميع المؤيدين للإعلان وفرض حالة من الالتزام عليهم لمتابعة العمل للوصول إلى الأهداف الوطنية. لكن جني ثمار تلك الأثمان والتضحيات والبناء على هذا الإنجاز لا يمكن أن يتحقق إلا بالقطع مع كل أشكال الاحتراب الداخلي واستبدالها بالحوار البناء مهما اختلفت الآراء وتباعدت وجهات النظر للوصول إلى أرضية مشتركة للنضال حتى يستحق الإعلان أن يمثل السوريين فعلاً.

o تدهور الأوضاع المعيشية وازدياد معاناة السوريين من السياسات الاقتصادية للسلطة ومن تجرؤها على قوتهم لسد عجز موازنة الدولة كبديل عن محاربة الفساد الذي يكلف الخزينة ما يوازي تكلفة دعم الحاجات الأساسية، وعن إيجاد سياسات عقلانية تستطيع من خلالها الحد من تأثير الارتفاع العالمي لأسعار المواد الغذائية.

o من خلال مشاهداتي اليومية لواقع أحاديث المواطنين السوريين في الشارع والمقهى وفي جلسات الأصدقاء والسهرات العائلية العادية، والتي تدور بشكل دائم حول الأوضاع الاقتصادية المتأزمة، أستطيع (متجاوزاً المناهج العلمية في القياس) أن أؤكد تنامي شعور الناس بالغبن وعدم انطلاء كل تلك الأكاذيب الحكومية عليهم وتزايد إدراكهم أن المشكلة ليست في أشخاص محددين، بل في نظام سياسي أخلاقي اقتصادي فاسد حتى النخاع. هذا الإدراك يتنامى ولكن بحاجة إلى المزيد من التركيز عليه لتعزيزه بالإضافة إلى بذل الجهد للوصول إلى أولئك الناس وتحطيم الفكرة السائدة لديهم بأن لا حول ولا قوة لديهم في سبيل تغيير الواقع.

العوامل المساعدة على التدمير

o انقسام أطراف الإعلان إلى تيارين متناحرين ومتناقضين، ومحاولة فرض كل تيار سيطرته ورؤيته على الآخر.

o سيطرة التيار الليبرالي على المواقع القيادية في الائتلاف.

o تجميد عضوية أطراف مهمة وفاعلة في الائتلاف، والتي لعبت دوراً محورياً في التأسيس.

o إطلاق حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي مشروع إعلان مبادئ للحوار الوطني الديمقراطي، في محاولة لسحب بساط الداخل السوري من تحت القوى السياسية الأخرى المخالفة لتوجهاته(8).

o تأسيس العديد من مكاتب أمانة إعلان دمشق في العديد من دول العالم. هذه النقطة ليست مشكلة بذاتها، إلا أن غموض مواقف أطراف الإعلان من العديد من المسائل وإنعكاس هذه الغموض التباساً في وثائق الإعلان، يمكن أن يؤدي إلى تبني تلك المكاتب مواقفاً تعبر عن الأشخاص القائمين عليها لا تتلاقى، بل وربما تتعارض، مع أهداف وتوجهات إعلان دمشق المعلنة. أي أن تشويشاً محتملاً يلوح بالأفق، عن حسن نية أو سوئها، يرسل برسائل خاطئة إلى الداخل والخارج.

o تراجع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة، بعد هجمات 11 أيلول عن ضغوطاتها على الأنظمة العربية فيما يخص الديمقراطيات والحريات وحقوق الإنسان، بل وتحولت هذه الضغوط إلى أشكال من التحالفات والصداقات مع معظم الدول العربية بعد احتلال العراق عام 2003، مما يعني تطويق أي حركة معارضة في العالم العربي لصالح أنظمة الحكم، ولأن هذه الحركات المعارضة هي حليف محتمل (معنوي على الأقل) للمعارضة السورية، فهذا بدره يزيد من انعزال هذه الأخيرة. صحيح أن التغيير يجب أن يكون محمولاً من الداخل، إلا أننا لانستطيع أن نتجاهل الظروف الإقليمية والدولية ووضعها في الحسابات السياسية، وإلا نكون كالنعامة التي تضع رأسها في الرمل، ومن هذا المنطلق استطعت أن أقول أن تراجع الضغوط يعد عاملاً مساعداً لعزل المعارضة السورية عن محيطها العربي والدولي.

o لعب النظام السوري بورقة الوضع العراقي المتدهور، بمعنى تخويف الداخل من معارضة سورية على غرار تلك العراقية التي جاءت على ظهر الدبابة الأمريكية، كما أن البيانات المستجدية للولايات المتحدة التي يصدرها البعض من أمثال مأمون الحمصي، أو التكتلات (المعارضة) التي يؤسسها أمثال عبد الحليم خدام أو رفعت الأسد، كلها تنعكس على شكل تشكيك دائم من قبل المواطن بنوايا المعارضة السورية، ويجب عليها (أي المعارضة) أن تعي هذه المشكلة جيداً ولا تعتقد أنها ممثلة جيداً في أوساط المجتمع السوري، وأن مؤيدوها يشكلون الغالبية، بل الاقتراب من المواطن أكثر والحديث معه تثبت أنه إما لا مبالٍ أو أنه متشكك وأن البدائل، كما يراها، إما على نسق المعارضة العراقية أو أن التغيير لن يكون إلا شكلياً أي بمعنى تغيير الأشخاص والمواقع، والقلة القليلة هي التي تؤيد عمل المعارضة السورية، وأذكر أني أتحدث هنا عن ائتلاف إعلان دمشق.

o وأخيراً، ازدياد إحكام القبضة الأمنية وشراسة هجمتها ضد أعضاء إعلان دمشق وكل صاحب رأي مخالف للسلطة.

ماذا بعد؟

سؤال أترك إعلان دمشق ليجيب عليه بنفسه في القادم من الأيام، لكن تسهيلاً للإجابة أود تقسيم السؤال إلى أسئلة بسيطة تقتصر فيها الإجابة على نعم أو لا:

o هل إعلان دمشق ائتلاف وطني صرف، أم لكل يعقوب غاية؟

o هل المواطن من وجهة نظر أعضاء إعلان دمشق فاعلاً أم منفعلاً، أي بمعنى آخر، هل ينظرون إلى المواطن نظرة نخبوية؟

o هل سوف تبقى محاولات الاستئثار بالإعلان من قبل التيارات المختلفة ليفرض كل منها رؤيته على الآخر؟

o هل سوف يتراجع الذين جمدوا عضويتهم في الإعلان عن ذلك، ويبادرون إلى حوار داخلي لحل التناقضات مع التيارات الأخرى؟

o هل سوف يبقى موقف حزب الاتحاد العربي الاشتراكي الديمقراطي ضبابياً تجاه إعلان دمشق(9)؟

o هل يميز الإعلانيون بين عدم التجرؤ على الولايات المتحدة (لأسباب أوضحتها سباقاً) وبين إدراك علاقة الداخل بالخارج في سياق التأثر بالمتغيرات الإقليمية والدولية وبين ضرورة إقامة علاقات دولية تشرح قضية المعارضة السورية؟

ختام

لا بد ختاماً من أن أذكر بأولئك المعتقلين من أعضاء إعلان دمشق وباقي معتقلي الرأي والضمير والذين لم يكن ذنبهم سوى التعبير عن آرائهم وأحلامهم بطريقة سلمية لا يمكن إنكار حقهم فيها بأي ذريعة كانت بغض النظر إن اتفقنا أو اختلفنا معهم. ولا بد لكل مواطن سوري معرفة الطريقة الهزلية التي يحاكم بها معتقلو الرأي والسياسة من خلال الاطلاع على القوانين 206 و 285 و 286 و 307 و 327 من قانون العقوبات العام، بالإضافة إلى كيفية صدور نصوص قرارات الاتهام والتي تثبت تبعية القضاء السوري للأجهزة الأمنية وللسلطة التنفيذية(10).

هوامش:

(1) أريد أن أعبر عن احترامي للخطوة التي قام بها الإعلان بإصداره بياناً توضيحياً بعد حوالي أربعة أشهر من صدور الإعلان، حاول فيه إعادة صياغة بعض الفقرات التي أثارت جدلاً واسعاً بين النقاد، مثل الفقرة الخاصة بالإسلام وبالقومية العربية بالإضافة إلى عدم عنايته بأزمات المجتمع السوري بما فيه الكفاية. رغم أنه كان على الإعلان بذل جهد إضافي لتوضيح الالتباسات وتغطية نقاط الضعف التي عانى منها، بالإضافة إلى الحاجة لمراجعة ذاتية لكل طرف من الأطراف الموقعة عليه، إلا أن مجرد المراجعة الذاتية كانت خطوة مهمة افتقرنا إليها في سوريا كثيراً على مدى أربعة عقود.

(2) لم يفهم القوميون في سياق البحث عن هوية ما لتلك الجموع البشرية التي تعيش في المجتمعات العربية سوى أنه يجب أن نجد قواسم مشتركة فيما بينها لنشكل منها أمة، في محاولة للالتفاف على مشكلة تعدد الأديان والطوائف والمذاهب الدينية، حتى ولو اضطررنا لحشرها في قوالب جاهزة ليست على مقاسها. أي أنهم يحاولون إيجاد التبريرات تلو الأخرى، للمضي قدماً في شعار الأمة العربية. ربما تكون تلك المبررات حقيقية، ولكن الأكثر وضوحاً وحقيقة أن تلك الجموع البشرية لم تستطع إلى الآن أن تعيش تجربة اجتماعية وسياسية صحية لتستطيع أن تحسم حقيقة هذه التبريرات أو زيفها، وبالتالي فإن الإجابات التي تبدو يقينية حول الهوية، ليست كذلك في الحقيقة لأننا نحاول تشكيل أمة على الورق ونجعلها هوية متمايزة ثم نجبر الناس على تقمصها. وبمعنىً آخر، يجب أن نعمل على تطوير الحياة الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا وعندما يصبح المواطن مواطناً في دولته لا بد أنه سوف يكون قادراً على بلورة هويته، فالقومية، إن كانت عربية أو إسلامية أو كردية…الخ، ليست تابوهاً لا يمكن مراجعتها وإعادة تشكيلها عبر التاريخ، بل يمكن لمجموع تلك القوميات، أو الانتماءات، أن تكون قادرة على تشكيل هوية غنية مرنة قادرة على الحياة في عالم تضيق فيه المسافات وتتعاظم فيه التحديات.

(3) لم يفهم الشيوعيون معنى اغتراب الإنسان عند كارل ماركس وجذور هذا المعنى عند هيغل، بل كل ما فهموه هو تقسيم المجتمع إلى طبقة كادحة مظلومة وطبقة مستغِلة ظالمة لا بد من التناطح فيما بينها حتى الوصول إلى مرحلة ثورة الأولى على الثانية لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال مشاعية وسائل الإنتاج. وما أدل على ذلك من أن الأحزاب الشيوعية في العالم وفي سوريا أيضاً لم ترى من كل النظرية الشيوعية سوى تجربة الاتحاد السوفيتي، حتى أن تلك الأحزاب كانت عبارة عن ظلال للحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفيتي وتجتمع في مؤتمرات عالمية. لا أستطيع هنا سوى أن أشبه هؤلاء الشيوعيين بالإسلاميين، فلهم نفس المنطق في فهم النص، فغالبية الإسلاميين لا يحاولون قراءة النص، بل كل ما يفعلوه هو إعادة نقل تفسيرات النص التي سبقهم إليها أوائل علمائهم، وفي أحسن الأحوال إعادة إنتاج تلك التفسيرات في حلة عصرية. وهذا ما فعله الشيوعيون السوريون، فلم يبذلوا جهداً في محاولة نقد فلسفة ماركس والوقوف على حقيقة نظريته وتطويرها.ولا أدل على ذلك من ما قاله الكاتب أبي حسن حول الأحزاب الشيوعية العربية في مقاله المنشور في 9/4/2008 على موقع كلنا شركاء: ..فليس سراً القول أنه هذه الأحزاب أخذت بمفهوم الطبقة العاملة في بلدان لا توجد فيها طبقة عاملة.

(4) لا انشقاق في إعلان دمشق-كلنا شركاء-5/12/2007

(5) مازال الاستدلال على قدرة التحول إلى نظام ديمقراطي على حل مشاكل المواطن ناقصة في الطرح الذي تقدمت به، لأني اكتفيت بالانطلاق من المشكلة إلى الاستنتاج بأن الحل يكمن في تغيير النظام (شكلاً ومضموناً) واكتفيت بالاتفاق مع البيان بأن هذا الحل هو التحول إلى نظام وطني ديمقراطي، ولكن حتى يكتمل الربط بين المشكلة وحلها (الديمقراطية) فيجب أن نثبت أن الديمقراطية (ليس بالمعنى السياسي فقط) هي ركيزة أساسية في مشروع متكامل قادر على أن يكون هو الحل. وبمعنى آخر يجب القيام بالاستدلال العكسي من خلال الانطلاق من الديمقراطية وصولاً إلى تحقيق التنمية وحل مشاكل المواطن. ولكن ما منعني من إيراد هذا الشق من التحليل هو أنه مسألة فلسفية لا نستطيع أن نحملها على عاتق بيان سياسي، بل يجب الخوض فيها أماكنها المخصصة لدعم فرضيات واستنتاجات البيان.

(6) كانت هذه إحدى الأسباب التي استند عليها حزب الاتحاد الاشتراكي وبعض المستقلين في تجميد نشاطاتهم في ائتلاف إعلان دمشق. ولم أجد تفسيراً معقولاً (يعتمد على حسن النوايا) لمثل هذه الصياغة في البيان الختامي سوى أن التيار الذي يوصف بالليبرالي في الائتلاف لا يريد أن يثير حفيظة السياسة الخارجية للولايات المتحدة من خلال الاصطدام معها بشكل مباشر، مما يمكن أن يسبب في عرقلة مشاريع التغيير على أيدي الوطنيين والذي بدوره يمكن أن يؤدي إلى اقتناع البيت الأبيض بضرورة الحفاظ على النظام الحالي مع السعي إلى تغيير سلوكه فقط، أو يمكن أن يؤدي إلى دعم تيارات أخرى تنسب نفسها إلى المعارضة وهي لا تحمل في أجندتها أي حلول حقيقة لأزمات المواطن السوري، بل جل همها الوصول إلى السلطة بأي وسيلة كانت. هذا مجرد تفسير وليس تبريراً، لأنه وكما قلت سابقاً يقع على عاتق المعارضة السورية و كل حر في هذا العالم مهمة إنقاذ المفاهيم والقيم الإنسانية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان من التشويه الذي تلحقه بها السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الغربية الأخرى.

(7) بيان تجميد حزب الاتحاد العربي الاشتراكي الديمقراطي عضويته في إعلان دمشق- 8/12/2007.

(8) إن مشروع إعلان المبادئ الذي أطلقه الحزب لا يمكن له إلا أن يزيد من انقسام المعارضة السورية على ذاتها، ويضعف بالتالي فعاليتها في مواجهة بطش الأجهزة الأمنية وفي مواجهة المعضلة الأكبر والتي تتمثل في البرهنة على مصداقية ائتلاف إعلان دمشق وكيفية الوصول إلى المواطن السوري وكسبه في صفها.

(9) يجب على حزب الاتحاد العربي الاشتراكي الديمقراطي، برأيي، تحديد موقفه بشكل نهائي من الإعلان، فإما أن ينسحب في حال تعذر الحوار والتوافق وعندها يحق له الاستمرار في مشروع إعلان المبادئ، أو أن يلغي تجميده للعضوية ويسحب مشروع إعلان المبادئ مبادراً إلى حوار بناءً. أما الإبقاء على حالة التجميد مع طرح هذا المشروع فهذا من شأنه أن يصفي ائتلاف إعلان دمشق من داخله وهذا ليس في صالحه ولا في صالح التيارات الأخرى.

(10) نص قرار الاتهام بحق معتقلي إعلان دمشق- موقع النداء- الخميس 1/أيار/2008. نص طعن الدفاع عن معتقلي إعلان دمشق أمام محكمة النقض – موقع النداء – الخميس 1/أيار/2008



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى