أبي حسنصفحات سورية

سوريا المبتدأُ والخبرُ

null
أُبيّ حسن
تربى ملايين السوريين, طوال عقود, على أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي, سواء أكانوا محزبين فيه أم لا -وذلك بحكم اعتبارات عديدة يمكن لأحدنا التكهن بماهيتها- لاسيما طلبة المدارس منهم, على الأقل في فترة زمنية سابقة, وتحديداً قبيل ظهور طلائع القُبيسيّات (1) الإسلاميّة التي باتت تنافس البعث في نشر ثقافتها ضمن صفوف الطلبة في المدارس والمساجد على حد سواء. ومن خضم الأدبيات البعثية تبلورت شعارات وأدبيات من قبيل “سوريا قلب العروبة النابض” وما شابه ذلك.
لست في صدد محاكمة تلك التربية العروبية وهاتيك الأدبيات, بالرغم من نبل مقصدها وحسن نوايا معتنقيها؛ لكني كسوري أولاً, أجد نفسي مضطراً للوقوف عند فكرة العروبة التي قد تكون أرهقت كاهل مئات آلاف السوريين, من دون أن يجنوا منها سوى المزيد من الفقر على الصعيدين الاقتصادي والمعرفي, والمزيد من التعالي(باللاوعي) على الآخر الشريك في الوطن السوري الذي قد يكون كردياً أو آشورياً أو سريانياً… أضف إلى ما سبق ذكره ذلك الشرخ الكائن بين ما يضفيه دعاة العروبة عليها من صفات وخصال(تكاد تكون متفردة) ومدائح تتناسب عكساً وواقع العرب!, إن لم نقل وتاريخهم كذلك.
سنحسن النية في آراء مفكري القرن التاسع عشر, الذين على أيديهم ظهرت فكرة القومية العربية, التي من رحمها هي الأخرى وُلدت العروبة كفكرة ورؤى راح ينظّر لها مفكرو القرن العشرين, لاسيما الذين ظهروا في النصف الأول منه كساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق الخ.. لكن, وباستثناء ما جرى في غفلة من زمن كان ينطوي فيه الواقع العربي على إمكانات هائلة, تحديداً في ما عرف بالمرحلة الناصرية, التي يُسجل لها إن إيمان الجماهير العربية بفكرة العروبة ومفهومها في تلك الحقبة أتى عفوياً وتلقائياً ومنسجماً مع سياقها أيما انسجام!, من دون أن نغفل أن ما ساعد في تكريس العروبة والإيمان بها بمثل هاتيك العفوية في الحقبة التي نعني هو كاريزما الزعيم الراحل جمال عبد الناصر(الذي بدا وكأنه مخلّص الأمة من حالة ترديها!), ونستطيع الزعم أن كاريزما عبد الناصر ساهمت في ذلك التكريس أكثر مما ساهمت فيه نظريات المفكرين والمثقفين العروبيين.. نقول إذا ما استثنينا ذلك كله, سنجد أن العروبة كانت غالباً كسرير بارادوكس!.
وللتدليل على صحة كلامنا في ما يخصّ العفوية والتلقائية في ترجمة العروبة سلوكاً عملياً على أرض الواقع –في المرحلة الناصرية- من قبل الجماهير العربية(أو بعضها), نضرب مثالا بتطوع الكثير من الشباب والمثقفين وحتى السياسيين العرب في حرب الإنقاذ في فلسطين عام 1948, أو إقدام بعض السوريين على تفجير خط الأنابيب المار في الأراضي السوريّة تضامناً مع مصر شعباً وقائداً إبان العدوان الثلاثي عليها عام 1956, ومن البديهي أن تلك التصرفات كانت نتاجاً عفوياً صرفاً, على نقيض الكثير من المظاهر التي نشاهدها ونعايشها راهناً!.
وعلى الرغم من قناعتنا بأن المرحلة الناصرية كانت خير معبر عن ضمير العروبة, ووعي العرب لذاتهم كأمة(بحسب وجهة نظرهم), إلا أنها كانت تشهد الكثير من الممارسات المنفرة, لا من رموز تلك المرحلة فحسب, بل من العروبة كفكرة غير ناضجة في وعي حامليها ومعتنقيها, وحتى وعي المبشرين بها!, فمن جهة شهدت المرحلة الناصرية ولادة الدولة البوليسية وحكم الأجهزة الأمنية التي أرهقت العباد والبلاد في آن, ومن جهة أخرى كانت الدول العربية الأخرى(التي تعتنق هي الأخرى العروبة وتنافح عنها!) تحارب النظام الناصري بذرائع عدة وبوسائل شتى, كالمملكة العربية السعودية والأردن على سبيل المثال لا الحصر, وقد ظهر دور السعودية جلياً في محاربة العروبة الناصرية في حرب اليمن في ستينات القرن الماضي, وفي مساهمتها الفعالة في ضرب الوحدة السورية- المصرية, غير المأسوف على انفكاك عراها بالشكل الذي كانت عليه؛ لا بل ومحاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر من قبل المملكة ذاتها, في فترة حكم الملك الراحل سعود بن عبد العزيز!.
ولنا أن نضرب مثلاً آخر بكيفية مطالبة الملك الأردني الراحل حسين بن طلال الولايات المتحدة الأمريكية التدخل لصالح نظامه ضد نظام البعث السوري في أيلول الأسود عام 1970, أو استئذان الملك ذاته غولدا مائير المشاركة في حرب أكتوبر عام 1973 إلى جانب مصر وسوريا, كي يحفظ ماء وجهه “العروبي” أمام رعيته على الأقل! وهو استئذان لم تأخذه مائير-من حسن الحظ- على محمل الجد, كما يروي هنري كيسنجر في مذكراته!.
أكثر من ذلك, لنتذكّر مآل بعض المبشرين بالعروبة, كالراحل ميشيل عفلق الذي انتهى به المطاف(العروبي) في رحاب الرئيس الراحل صدام حسين وشقق باريس وسويسرا الفاخرة. وفي ذكرى ميلاد حزب البعث لم يكن يشعر عفلق بالحرج (أو الخجل) في الحديث عن عبقرية صدام حسين الفذّة, قائلاً عنه أنه “هبة البعث إلى العراق” بحسب وصف عفلق نفسه!.
من الإجحاف تحميل ميشيل عفلق أكثر من طاقته ومن طاقة المرحلة التي ظهر فيها فكره, وقد يكون نتاج مرحلة مأزومة! وخير ما يعبّر عن أزمته الفكرية تلك, خطابه الشهير في ذكرى مولد النبي العربي, على مدرج جامعة دمشق, في النصف الأول من أربعينات القرن الماضي. وكما هو معروف, هو خطاب استفزّ الإسلاميين والمسيحيين الكلاسيكيين على حد سواء؛ فالإسلاميون المتشددون وجدوا أن عفلقاً يدسّ أنفه في ما لا يعنيه, وذلك من خلال التأكيد على عروبة الرسول من دون تأكيد الوحي الإلهي(كأن الرسول شخصية خاصة بأتباعه وليس شأناً عاماً؟), والمسيحيون المتزمتون رأوا أن عفلقاً قدّم تنازلاً كبيراً من خلال إقراره برسالة محمد!.
إن الجدل, سابق الذكر, سيكون طبيعياً جداً لو أنه اقتصر على الأطراف المتديّنة من مسيحيين وإسلاميين. غير أنه سيصبح شديد الغرابة الدالة على أزمة بنيوية في الفكر العروبي, منذ لحظة ولادته, عندما ندرك أن جمال عبد الناصر, كان يتساءل مستغرباً كيف يحق لميشيل عفلق أن يعمل في السياسة وكيف يتبعه الناس وهو مسيحي؟ (2) . لن ندخل هنا في جدال بصدد إدانة وعي هاتيك المرحلة, مع يقيننا أن ليس بالضرورة أن تتحمل الأفكار مسؤولية تردي الواقع.
وبالرغم مما سبق ذكره, أليست العروبة فكرة إنسانية ظهرت في حين من الزمن؟ وشأنها شأن أية فكرة إنسانية أدت دورها, بما له ذلك الدور وبما عليه؛ وقد تكون باتت الآن كفكرة عاجزة عن تقديم شيء, بسبب من نضوب الطاقة الخلاّقة الكامنة فيها!.
من جانب آخر, أرى نفسي كإنسان سوري بالدرجة الأولى, قد ظلمتُ انتمائي السوري لصالح أولئك الغزاة البدو وثقافتهم!,. وطبعاً لستً وحدي من ساهم في صناعة ذلك الظلم وتكريسه, بل حتى محيطي السوري وجواره الإقليمي ساهم فيه, وقد أصابه منه الكثير, وأقل ذلك الكثير هو التخلّف الذي بتنا “نتباهى” فيه أمام الأمم. من ثمّ, لماذا أنا مجبر, كمواطن سوري, على معرفة كل أدبيات شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده, في حين لا أعرف إلا النزر اليسير من تاريخ بلادي والحضارات التي تعاقبت عليها؟!. حقاً هل يعقل أن أنهك بدراسة شعراء جاهليتهم وصدر الإسلام, في الوقت الذي درّسوني فيه سطراً واحداً فقط عن فيليب السوري (حاكم روما), إبان المرحلة الدراسية؛ وربما كان دون السطرين ما لقنوني إياه, عن الفينيقيين وأوغاريت وإبداعها للحرف الأول والأبجدية التي قدمتها للعالم, في طوال مراحل الدراسة!.
وإن كان من دليل يضاف على الأزمة التي تشكو منها العروبة فكراً وممارسة, نأخذ مثالاً القمم العربية التي من آسف لم يسفر عن إحداها ما يحفظ ماء وجه العرب(باستثناء قمة الخرطوم التي عُقدت على أنقاض هزيمة 1967واللاءات الشهيرة الصادرة عنها-بإجماع عربي- التي غدت لاءات إسرائيلية بامتياز). والعرب, قادة ومواطنون, يدركون جيداً أن تلك القمم لا تغني ولا تسمن, وهي ليست أكثر من مناسبة برتوكولية تضفي بعض القيمة الاعتبارية للدولة العربية المضيفة, لا أكثر من ذلك!, هذا إن لم تكن مناسبة رسمية وعلنية لتقديم المزيد من التنازلات!, هل تذكرون مبادرة الاستسلام العربية في قمة بيروت 2002؟.
ما سبق ذكره يصح مقدمة منطقية بغية التساؤل عن جدوى العروبة التي يتمترس خلفها نظام بلادي, وسواه من أنظمة يعربيّة رافعين لوائها, سواء عن قناعة, أو تجارة قد تكون رابحة أحياناً وخاسرة أغلب الأحيان!. ومن ثمّ أين الغضاضة في رفع شعار سوريا أولاً عوضاً عن شعار”قلب العروبة النابض”؟. حقاً أين الخطأ في ذلك, في وقت نجد فيه نسبة من شباب سوريا, قد تزيد وقد تنقص, لم تعد تعني لها العروبة شيئاً, هذا إن لم نقل إنها كانت-أي العروبة- بالنسبة لها عبارة عن مزحة سمجة؟, ومن ثم هل يعقل أن يكون العربي الموريتاني(سبق أن سأل هذا السؤال ياسين الحاج صالح) أقرب إليّ من الكردي السوري؟!.
من البدهي, أننا من خلال الإيمان الراسخ لدى بعضنا, بكون سوريا هي فعلاً قلب العروبة النابض, فإننا نلغي تلقائياً, ربما من حيث لا نحتسب, مكونات سوريّة أخرى من قبيل: الآشوريين, الأكراد, والأرمن, والشركس الخ… وهذا كله ليس في صالح سوريا الحاضر والمستقبل!.
طبعاً لا نستطيع أن ننفي أن جلّ القوميات غير العربية, الموجودة في سوريا منذ آلاف السنين, هي عربية بالمعنى الثقافي بحكم الأمر الواقع!, كالأكراد والآشوريين والكلدانيين والشركس الخ.., فهم وإن كانوا عرباً ثقافياً, بيد أنهم لم يتخلّوا عن خصوصياتهم الإثنية وهذا حقهم. وهي (في نهاية المطاف) خصوصيات ثقافية لم تراع كما ينبغي, بشكل عام, من قبل السلطات الكائنة, غير الرسمية منها بالدرجة الأولى.
الآن, ومن وجهة نظر أخرى, إننا إذا وقفنا عند عروبة سوريا, فهذا يعني, أن تاريخنا السوري لم يبدأ إلا قبل أربعة عشر قرناً, أي مع دخول الإسلام لبلاد الشام, وهذا مناف لتاريخ سوريا والحضارات التي نشأت فيها! فأنا كسوري عمري يزيد عن عشرة آلاف عام! وهُويّتي ليست عربية وإسلامية فحسب, بل الإسلام والعروبة هما جزء من هُويّتي.
فشخصياً أشعر بأني فينيقي قبل أن أكون عربياً(علماً أني أعتبر نفسي عربياً بالمعنى الثقافي فحسب). وكسوري أيضاً, فإن فيليب السوري, الذي حكم روما, يعنيني أكثر مما يعنيني الزير سالم, أو شاعراً كلبيد بن أبي ربيعة العامري على سبيل المثال لا الحصر. وكسوري مرة أخرى, فإنني أجد نفسي أنتمي إلى أليسار بانية قرطاج, وأوغاريت التي قدّمت للبشرية أول أبجدية في التاريخ, وعمريت التي شهدت أول أولمبياد في العالم (ومن ثمّ نقلته إلى أثينا) أكثر من انتمائي إلى أدبيات الشعر الجاهلي وما بعده! ولعمري ليس في هذا انتقاصاً من العروبة قدر ما هو غنى لها!.
وانطلاقاً من أن أدبيات شبه الجزيرة العربية, قبل الإسلام وبعده, قد تعني ابن بيئتها كما هو مفترض, سأتفهم إن ملكة عظيمة كزنوبيا لن تعني بدوياً من الجزيرة العربية, وهذا أمر طبيعي؛ لكني, كسوري, أعتبر زنوبيا جزءاً من تكويني, ويفترض أنها أقرب إليّ من أبي ليلى المهلهل ومجنون ليلى.. إلخ!.
أدرك جيداً إن لفظ العروبة, بمعناها الشائع والمتداول, من قاموس بعض الأجيال الشابة لن يحظى برضا أجيال خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي, تلك الأجيال التي رضعت العروبة وحلمها منذ نعومة أظفارها, ومن هنا أستطيع أن أتفهم عتب أستاذي حسين العودات عندما كتب على صفحات جريدة “السفير” منذ قرابة الخمس سنوات مستنكراً اعتزاز البعض بالقطرية, في معرض انتقاده لشعار “الأردن أولاً” الذي سبق أن رفعه الملك عبد الله الثاني, غير أني أنا كمتلق للعروبة كفكرة وقضية, وأنا في القرن الحادي والعشرين, أجد أنها كانت عبارة عن فكرة أثيرة, ونبيلة, أدت ما استطاعت تأديته, وعملياً انتهت الآن, ليس لأننا نريد لها الانتهاء, بل لأنه لم يعد لديها ما تعطيه؛ ناهيك عن حالات التشرذم التي يعيش في كنفها عرب اليوم والأمس!.
والحقيقة الباقية هي سوريا كما ورثناها؛ سوريا بعربها وكردها وسريانها وآشورييها, بمسلميها ومسيحييها وما تبقى من يهود فيها؛ إذا سوريا لا عربية ولا كردية, ولا سريانية ولا آرامية, لا إسلامية ولا مسيحية.. إلخ؛ سوريا هذا كله, لأنها سوريا. فلتكن, إذاً, سوريا مبتدؤنا وخبرنا, وهي كذلك فعلاً, وكفانا الله “نعمة” العروبة وأضدادها.

(1) روى لي المفكّر السوري المعروف طيب تيزيني, ذات يوم من عام 2006, أن عدد القبيسيات في سوريا بات يناهز المئة والخمسين ألف قبيسية في طول البلاد وعرضها!.
(2) (ص… كتاب “سوريا والبعث وحطام المراكب المبعثرة”. صقر أبو فخر. ويروي نبيل شويري لأبو فخر بأن سعيد حبي –من منطقة حوران في سوريا- هو من روى لهم هذه الحادثة, وقد كان شاهداً عليها عندما تكلّم بها جمال عبد الناصر).
في السياق ذاته, أخبرني القيادي الشيوعي الراحل دانيال نعمة أنه كان في زيارة للجماهيرية الليبية مع وفد برئاسة الرئيس الراحل حافظ الأسد في سبعينات القرن الماضي, وأثناء تقديم الراحل حافظ الأسد لدانيال نعمة إلى الرئيس الليبي مُعمّر القذافي, سأل الأخير الأسد مستغرباً: “يعني أخونا هاد مسيحي!.. مسيحي ويشتغل سياسة!؟”, فابتسم الأسد وقال لنعمة أجبه. فقال دانيال نعمة للقذافي: “أنا عربي من قبل أن أكون مسيحياً, من ثمّ أنا هُويّتي شيوعية”.

كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى