صفحات ثقافيةعلي جازو

شذاك الهواء المدوّم في الممرات

null
علي جازو

صوتي الضعيف، صوتي الحائر

أخبرْتُها، وكان ذلك عبر هاتفنا الأرضي ـ سيمنس ألماني أصلي، أسود موديل قديم: لا أعتقد أن ثمة جمالاً في صوتي، أي جمال قط. إنه أشبه بصوت رجل مريض. رغم ظاهر حيويته، رغم تدفقه المنساب، إلا أنه صوت مغلق، ويتستر على خجل عميق، صوت مرتبك النبرة، يفصح عن الحزن أكثر مما يحمل من الحيرة. خجلٌ أحسّ به مثل قيد داخل تنفسي عندما يلتهم الصمت كلماتي حالما تخرج من فمي إلى يد الهواء المفتوحة أبداً! آه…فقط لأنني أدرك ذلك، لأنني أحسّ به الآن كم هو مؤلم هذا الحياء الخفيّ. بلا جمال هو صوتي ولا عذوبة فيه. كلماتي التي أفشل دائماً في جعلها دقيقة وواضحة ومباشرة. ما الذي سيجذبها إليّ إذن، طالما أنني صاحبُ هكذا صوت عليل مرتبك محتار؟ ثمّ إن صوتي ليس قوياً، ولا رنين بادياً فيه. صوتٌ لا أستطيع مدّه بعمق حتى يصل إلى قلبها. لا أقصد أنه ضعيف بحيث أنها لا تسمعني بوضوح. إن صوتي يفتقر إلى تلك القوة النفسية التي تجعل من نبرته أكثر صفاء، أكثر دفئاً وثقة. يا لتألمي الخانق!؛ إذ أرى صوتي مثل وجهٍ بلا أمل بلا ملامح مغرية لأحد..! ما هو إذن، هذا الهواء المنتظم في ممرات معتمة؟ كيف أجد مخرجاً آخر، مخرج ضوء لعواطفه المختلطة، وما هي حيلتي حيال بقائه على حالٍ من الفتور واليأس القاطع وضمور الثقة؛ هذه الأخيرة التي إذا ما توافرت بغزارة تجعل المرأة، حسب ما هو شائع، أكثر انجذاباً إلى الرجل ؟!! ليكن؛ أنا رجل لا أثق بصوتي. أيعني ذلك أنني لا أستحق ثقة الآخرين بي؟ أهذا هو فقط رجائي من صوتي ومن الآخرين معاً؟ ثمَّ ما الذي سيفرحني إذا كنت حقاً محل ثقة. ألن تكون الثقة هذه، مع تبعاتها الثقيلة، ضرباً من قيد جديد، ولربما يجلب هذا الجديد الحافل ،بيأس من نوع آخر، من النفور والندم أكثر مما أنا فيه من الارتباك حيال انعدام ثقتي بصوتي. الأفضل حفظ حالي من الانقسام، خاصة إذا خالطت أهواء الآخرين المقيتة أنفاس كلماتي المترددة. الأفضل لي حراسة صوتي من الأفول الساذج وسط إدعاءات ثقة جوفاء يحرمها الأملُ الأخلاقي الكسول العام المتفشي كوباء من ركامها القذر ودعاباتها المؤذية، وهو في الآن ـ أقصد الأمل الأخلاقي ـ وهمٌ كارثي يقيد حياة الفرد إلى جلبة حياة مجتمعات سكتت عقوداً ثم أطلقت عنفها الصامت كله دفاعاً عن الأخلاق ضد فرد لا يعرف من الأخلاق سوى الخزي والنفاق، أقول لي: الأفضل حماية صوتي من الثقة المأمولة، وليكن مزيجاً خائباً من ارتباكه الحميم ونجواه المريرة.
الليل والجنة والكتب

يعتقد أحد أصدقائي المقربين، وهو أديب ومترجم أكن له إعجابا خاصا، أن الجنة لن تكون سوى ليل! نعم. الجنة هي الليل، لا غير. وما يحدث في الليل هو ما سيكون حال ما يتجدد كل حين في الجنة، هناك..! ليل من بطن ليل، من عين ليل ومن خيال ليل! لا شك أنه يفترض مسبقاً أمراً واحداً مشتركاً، وهو ربما الأمر الوحيد لكل حالم خائب، أن الأحداث اللطيفة وحدها ستغمر ساكني ليل الجنة الأبدي! أما أنا، مدون هذه السطور المتواضعة، معترفاً بحذري الشديد وتحفظي إزاء الغيبيات؛ سيما أنها غدت بديهيات لا تقبل أية مراجعة، بديهيات فقدت غموضها تحت ضغط وفقر الخيال البشري الحديث الذي لم يبخل قط في تحويل كل سؤال حولها إلى خرس مطبق، أظن ـ وفي الظن أحياناً رؤية ما تغافل العقل المتحمس عن رؤيته ـ أن الجنة حيث دار الخلود الباقية محتواة في الكتب والقصائد والحكايات! طبعاً لا أقصد كل الكتب! بطريقة أدق وأكثر تفصيلاً فإن الجنة تنمو وتتسع من تلقاء نفسها. إنها أشبه بعمل القلب، وهي كذلك تحدث وتتوارى داخل العقل الذي يتأمل الكتب، وأحياناً يحاول تأليف كتب داخل الكتب التي تأملها مسبقاً! تلك الأمسية تحاورنا مطولاً، حتى تعمق الليل وتغضّن داخل نظراتنا التي غمرها الوهن، وامتلك الصمتُ أركان البلدة الصغيرة حيث نحيا معاً حياة فقدت كل حديث مع زمانها المرافق الرديء! كان التعب، وكان لسان الجوع الكريه، وكانت المخاوف من ضوء النهار التالي! تثاءب سميري الحزين، تثاءبْتُ إثره على الفور! كأنما أيدتُ رأيه بتثاؤبي بعده. طابت ليلتك يا صديقي. قلتُ داخل قلبي الحائر كعينيّ المرهقتين!

أقلِّدُ أولئك الذين يراقبونني

حيثما نظرتُ، أيَّ عمل قمتُ أو أديت، أو أنني رغبت يوماً إتمام حلم واحد، واحد فقط، من أحلامي الساذجة الشبيهة بأعمالي الناقصة، أشعر أن أحداً ما يراقبني! رغم طباعي التي تفضل العزلة وصمت الحجرات المضاءة في انتظار ساعات المساء ذات النسيج اللوني المماثل لتموجات مياه السواقي الريفية! ياه.. رغم ذلك رغم ذلك لم أنعم يوماً بوحدة تخصني وحدي! أية سعادة صغيرة يمكنني الإحساس بها طالما أنني على الدوام مرئي ومراقب؛ ثمة من يحيط بي أو يتلصص عليّ!! عدا ذلك فإن الأمر لا يتوقف عند حد المراقبة والتدخل غير المقبول في حياة الإنسان الخاصة! هناك ما هو أخطر وأكثر إخافة وغرابة! مؤخراً، بدأت أقع في غرام أطياف كثيرة! لأنهم برفقتي، رغم أنفي، ولأنهم خفاف هادئو الطباع، ولأنهم أيضاً أكبر عدداً وكدّاً وعمق دراية بخفايا أمور حياتي الغريبة! كذلك هم أقوى مني صمتاً، وحذراً. لذا كان عليَّ الخضوع الحتمي لمـُتَعِ تقليدهم المغرية القاهرة! وهي مُتَعٌ رخيصة ومنغصة، إنْ لم تكن مهينة شائنة! أجل، لست سوى مقلد خانع جبان القلب، مهرج مزيف، سرعان ما استسلمتُ لإرادة مراقبيّ المستمدين سطوتهم من خفتهم العجيبة، ولا اكتراثهم، وتحولاتهم الآنية السريعة كلمحات البرق الخاطفة! لا شك أنهم أكثر قوة، أعزهم الله وساندهم، لا شك أنهم محاطون بعناية الكائن الأسمى المطلق! لم أعهد كائنات أكثر منهم صبراً ومكراً وتقلباً مرناً ! لم أعد أتخيل أنني قادر على التخلص منهم أبداً! سأبقى فترة طويلة، قد تستغرق ما تبقى من حياتي البليدة، تحت أعينهم اللا معدودة التي لا تعرف التعب ولا برهة للندم، ولا الرأفة التي يشعلها الغفران بنار اللطف الكاذبة. لقد غدت أيامي وليالي أشبه بأغصان شجرة عملاقة يتشاجر بعضها مع بعض! أغصان تجلد لساني قبل صوتي، وقلبي داخل عقلي، وحيرتي مثل جبني الوضيع! آه..؛ ثمة بذور تحلم بي مثلما تحلم أم، خجلة من ثمرة حملها، بطفل لن يكون سوى عقاب لكل أمومة وكل رغبة صنعتهما أيام لا تشبه الأيام في شيء سوى كونها غطاء خشناً من الصبر والعنف ، يجعل كل ما يقع خلالها صامتاً صلداً كقطعة حديدية، وحيداً مثل ميت، مخنوقاً كـ ( عين رطبة) لم تجد الوقت لتحول استغاثتها اللامعة إلى أغنية نفسها المدمَّرة!!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى