صبحي حديديصفحات العالم

الاقتصاد الكوني في قمم الكبار: تأزم الوقائع واستعصاء الحلول

null
صبحي حديدي
هل كان البيت الأبيض يسعى إلى تثبيت قيمة رمزية خاصة حين اختار مدينة بتسبورغ، عاصمة صناعة الفولاذ الأمريكية، لاحتضان قمّة مجموعة العشرين، بحيث يتذكّر الضيوف المشاركون أنّ اليد العليا ما تزال للصناعات الأمريكية، الثقيلة الكونية، والعملاقة العابرة للقارّات والأمم؟ وهل انقلب سحر تلك القيمة على الساحر نفسه، حين اتضح سريعاً أنّ اضمحلال موقع بتسبورغ ضمن خريطة الإستثمارات الداخلية الراهنة، ليس سوى التعبير الجلي عن صورة أخرى أعرض واخطر، هي اضمحلال الصناعات الأمريكية ذاتها في الخريطة الدولية؟ وهل ثمة مفارقة كبرى، حقاً، في أن تكون دولة عظمى مثل الصين (تحتفل هذه الأيام بالذكرى الستين لنشوء نظامها السياسي الشيوعي، واقتصادها القائم على مركزية حكومية لا تعطّل طاقات اقتصاد السوق) إذا حرصت على المساهمة النشطة في انتشال الاقتصاد الأمريكي من مآزقه، ما دام الدولار هو العملة التي تغطّي صادرات صينية بالمليارات؟
من الواضح أنّ الولايات المتحدة، في أعقاب الأزمة الأخيرة التي شهدت ما يشبه الإنهيار التامّ للنظام المالي الكوني، أخذت تتراجع بانتظام عن سياسات الحماية المتغطرسة التي سعت إلى فرضها على قمّة مجموعة العشرين في واشنطن، تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، ثمّ قمّة لندن، في نيسان (أبريل) الماضي. الأسباب عديدة، على رأسها تناقض المصالح بين النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا، وتعزّز مواقع الدول ذات الاقتصادات الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، والصين بصفة خاصة. وإذا عزّ الدليل على هذا الوضوح، فليس على المرء إلا أن يقلّب صفحات الـ’وول ستريت جورنال’، فيقرأ الدروس السلوكية التي تتوجه بها الصحيفة إلى وزير الخزانة الأمريكي تيموثي غايثنر: 1) لسنا في عقود الهيمنة، وتأزم الاقتصادات الآسيوية، حين كانت الخزانة الأمريكية تسيّر اقتصاد الكون من خلال صندوق النقد الدولي؛ و2) لا مناص، استطراداً، من مراعاة مصالح اقتصادات الصين والهند والبرازيل، على حساب الحلفاء في أوروبا؛ ومن الضروري منح هذه الدول قوّة تصويتية أعلى في اجتماعات صندوق النقد الدولي، على حساب حلفاء مثل فرنسا وألمانيا، وهذه المرّة عن سابق قصد، وبما يخدم مصالح الولايات المتحدة…
لم يكن غريباً أن ينصّ ‘إطار’ العمل، الذي تبنّاه قادة مجموعة العشرين في اجتماع بتسبورغ، على إدخال إصلاحات دراماتيكية، اعتبرها البعض ‘تاريخية’، تخصّ الحياة الداخلية لصندوق النقد الدولي، وليس تعديل سياساته الكونية في ما يخصّ جوهر الوظائف التي قام لأدائها، في خدمة التنمية ومساعدة الاقتصادات النامية. ومنذ 34 سنة، حين دعا الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان إلى أوّل قمّة تجمع الدول المصنّعة الأغنى، كان الهدف أقلّ طموحاً بكثير من سلسلة البنود المتشعبة التي باتت تُوضع على جدول أعمال زعماء العالم المصنّع، الآن إذْ أراحوا أنفسهم من نخبوية الـ G-8، فوسّعوا نطاقها العددي والجغرافي إلى G-20. وفي واقع الأمر بات التشعّب ذاته هو الذي يحوّل هذه القمم إلى جعجعة بلا طحن، وإلى حوار بلا طائل داخل قلاع محصّنة، حيث الآذان صمّاء تماماً عمّا يدور في الشارع من صخب وعنف وتظاهرات واحتجاجات.
أخلاقيات هذه القمم لم تتغيّر جوهرياً، أو هي لم تتغيّر إلا بما يناسب واقع الحال في الدول الصناعية ذاتها، وبين بعضها البعض، وليس بما يناسب مستجدات العالم الشاسع الواسع، الفقير والمدين والمتخلّف والمريض والجائع. والأمريكي إريك د. ك. ميلبي، الذي عمل في مكتب الأمن القومي الأمريكي وشارك في التحضير لقمم الدول الصناعية بين أعوام 1987 و1993، يقرّ بأنّ هذه القمم بحاجة إلى ‘نفضة’ شاملة كاملة، من نوع يجعلها أقلّ كلفة وتكلّفاً وأكثر فائدة وجدوى. ذلك لأنه لم يعد واضحاً ما إذا كان قادة الدول الصناعية يعرفون سبب اجتماعهم على وجه الدقة، باستثناء أنهم يجب أن يجتمعوا… أيّاً كان الثمن. وقد يقول قائل: ولكن، ثمة جدول أعمال حافل بالبنود في كلّ مرّة، يشمل الديون والفقر ومخرج’الـ ‘إيدز’ والصراع العربي – الإسرائيلي وديمقراطية العراق وإصلاح الشرق الأوسط وأقدار منظمة التجارة الدولية’والدروع الصاروخية الأمريكية وبروتوكول كيوتو حول المناخ… صحيح، ولكن كان الستار يُسدل على نتائج عجفاء هزيلة قاصرة، في ختام القمم كلها بلا استثناء، وليست قمّة لندن، وتوسيعها في بترسبورغ، سوى آخر الأمثلة، بدليل ما تحتويه البيانات الختامية ذاتها، وما يعترف به أساطين اقتصاد السوق في التعليق عليها.
في وسعنا، كما تقتضي المناسبة، استرجاع مقال حزين نشره جيفري ساكس في أسبوعية الـ ‘إيكونوميست’ البريطانية، تضمّن اعترافاً مدهشاً بأنّ اعتلال اقتصادات الكون، في اقترانه بالطابع الروتيني الذي أخذت ترتديه قمم الدول الصناعية، يفرض علينا إعادة قراءة معطيات ما بعد الحرب الباردة بأسرها. والرجل أحد كبار اقتصاديي العالم المعاصر، وأحد آخر أبرز الأدمغة الاقتصادية الليبرالية، ويترأس اليوم ‘معهد الأرض’، ويعمل مستشاراً للأمين العام للأمم المتحدة، وسبق له أن تولى إدارة ‘مشروع الألفية’ الذي أطلقته الأمم المتحدة مطلع القرن، وكان أستاذ التجارة الدولية في جامعة هارفارد، ومدير معهد هارفارد للتنمية الدولية. وهو صاحب مقولة شهيرة مفادها التالي: لو أنفق جورج بوش الابن من المال والوقت على ‘أسلحة الإنقاذ الشامل’، مثل ما ينفقه على البحث عن ‘أسلحة الدمار الشامل’، فإننا يمكن أن نبلغ مرحلة متقدمة في جعل هذه المعمورة أكثر أماناً وكرماً لأبنائها!
وساكس، للإيضاح، يتميّز عن السواد الأعظم من زملائه منظّري الاقتصاد الرأسمالي المعاصر بذلك العداء الشديد الذي يكنّه لصندوق النقد الدولي، على قاعدة أنّ الأسواق لا تنشأ بالدَيْن، ولا سبيل إلى إطلاق سيرورة تنمية رأسمالية حرّة حقيقية في العالم غير المصنّع قبل إخراس الأصوات التي تدعو إلى منح المزيد من الديون للفقراء، واعتصار أقصى الفوائد من خزائنهم الخاوية. وكان قد اقترح تثوير قمم الـ G-8، بحيث تصبح G-16 على سبيل المثال، لأنه ‘حان الوقت لإضافة ثماني دول من العالم النامي’، و’إدارة نقاش معمّق يسمح بتجديد الحوار النزيه حول ما يعانيه العالم من مشكلات اقتصادية عويصة’. فهل تبدّلت الحال بعد أن صارت تلك القمم أكبر عدداً ممّا اقترح ساكس، حتى إذا كان مصطلح ‘النامية’ لا ينطبق تماماً على دول أعضاء في مجموعة العشرين، مثل الهند والبرازيل والمكسيك والأرجنتين؟
الحال أنّ ساكس، مثل السواد الأعظم من أضرابه اقتصاديي رأسمال هذا العصر، يضرب صفحاً عن (وهو بذلك يتجاهل) حقيقة تاريخية بسيطة تقول إنّ صندوق النقد الدولي وُلد لكي يضمن التوازن المالي في اقتصاد عالم مفتوح، ولكي يكون بديلاً عن معيار الذهب، الأمر الذي انطوى نظرياً على مساواة صارمة في تطبيق سياسات تدخّل الصندوق لتعديل التوازن عند جميع الفرقاء، سواء تضخم ميزان المدفوعات أو انكمش وعجز. ولكن اعتماد نظام عامّ لتعويم العملات سنة 1973 دشّن النهاية الحاسمة لصورة الصندوق في ولادته الأولى تلك، فأصبح دور الضبط مرتهناً بما تقرّره قمم العمالقة السبعة، التي صارت ثمانية، ثمّ تضخمّت اليوم إلى عشرين. ولقد تحوّل الصندوق إلى ضيف مهيض الجناح، يراقب ولا يقرر، وينفذ دون أن يناقش خطط التنفيذ، إلا حين تحتاجه النخب الكبرى الأمريكية أو الأوروبية، واتحاد مصالحها أو افتراقها، في أدغال العولمة.
البنك الدولي، من جانبه، أُسندت له’في الأصل مهمة إعادة التعمير المالي لأطوار ما بعد الحرب العالمية، ومن هنا الطبيعة الواضحة لاسمه الابتدائي: ‘البنك الدولي لإعادة التعمير والتنمية’. فيما بعد، انقلب البنك إلى مرابٍ يقرض دول العالم الثالث بشروط شاقة حيناً ويسيرة تنقلب ضدها أحياناً، وانحصرت مهمته في تحصيل الديون وفوائدها وجدولتها وتحويلها إلى سيف ديموقليس، المسلط على برامج التنمية وقطاعات الدولة وسياسات دعم السلع الاستهلاكية الستراتيجية.
ونقاط النقد الموجهة ضد الصندوق والبنك، وبالتالي ضدّ قمم العمالقة، هي مسرد حجج منطقية يكاد يجمع عليها أي وكلّ اقتصادي يطلّ على موضوعه ببصيرة سليمة:
1 ـ الأولوية القصوى في وظائف المؤسستين باتت تُعطى لطرائق تمكين الولايات المتحدة من المراوغة المرنة في التهرّب من سياسات التدخل التي تعتمدها المؤسستان بالذات. ويحدث هذا حتى حين تغيب نواة كبرى في الفلسفة الرأسمالية (مثل نظرية’كينز حول ضرورات مصرف مركزي دولي) عن سياسات دولة رأسمالية كبرى مثل الولايات المتحدة.
2 ـ الوصفة السحرية الأشهر في تراث المؤسستين، أي ‘برنامح التعديل الهيكلي’ أو SAP في اختصاره الثلاثي الشهير، طُبّقت على دول العالم الثالث (وتُطبق اليوم على بعض دول أوروبا الشرقية، الأعضاء الجدد في النادي)، ولكنها لم تقترب مسافة بوصة واحدة من اقتصادات القوى الكبرى التي شهدت انهيارات دراماتيكية لا تستدعي التعديل الهيكلي وحده، بل تستدعي التعديل الجراحي العميق أيضاً.
3 ـ وكما لو أن المؤسستين تمرّستا جيداً في مهنة المرابي، فقد باتت علّة وجود سياسات الإقراض هي تحصيل فوائد الديون، فلا تدخلتا في وقف الإفراط الفاضح في الاستدانة خلال السبعينات، ولا هما خفّفتا شروط خدمة الديون في الثمانينيات والتسعينيات.
4 ـ في ذلك كله، وخصوصاً في العقدين الأخيرين، بقيت المؤسستان ضيفتيْ مخاض عقيم، وولادة عسيرة دائمة، في قمم العمالقة السبعة. واجتماع بتسبورغ هو آخر الجولات، فما معنى وجود مدير الصندوق دومنيك ستروس ـ كان، ومدير البنك روبرت زوليك، وهما أكثر عجزاً من أيّ وقت مضى بخصوص التدخل في كوابيس القمّة، أو القيام بأي إجراء لا يستطيع السوق القيام به؟
وقصارى القول، كما لا نردّد وحدنا وإنما كما يجزم نطاسيو تشخيص المراحل الراهنة من اعتلال النظام الرأسمالي، تنعقد قمم العمالقة تحت راية إدارة وحلّ أزمات العالم الاقتصادية، ولكنها لا تدير ولا تحلّ سوى بعض أزمات العمالقة أنفسهم، بين بعضهم البعض؛ أو تشرع الابواب أمام اندلاع المزيد من الأزمات، على هذه الجبهة او تلك، أو على كلّ الجبهات دفعة واحدة، بحيث يبدو العالم في حال دائمة من تأزّم الوقائع واستعصاء الحلول. لقد سبق لقمم مماثلة أن وضعت على جداول أعمالها تنظيم إخضاع الأطراف لسياسات التعديل الهيكلي التي تخدم’المركز في عام 1976، وتنظيم إعادة بناء الدولار النفطي لصالح منطق المضاربة المالية في عام 1980، وتشجيع الهبوط في أسعار المادة الخام (السبب الرئيسي لحرب الخليج، في تقدير سمير أمين)، وتنظيم إعادة جدولة الديون في عام 1982 (دون وضع العلاج الكفيل بحل المشكلة)، وتنظيم إدخال روسيا ودول أوروبا الشرقية في برامج التعديل الهيكلي من طرف واحد في عام 1992…
وصولاً إلى ما تقترحه اليوم من ترياق قاصر لمرض عضال، لا يستقرّ في صيغة الجائحة فحسب، بل يستفحل وينتشر في الأجسام ذاتها التي لاح ذات يوم أنها حسمت معركة إنهاء التاريخ لصالحها، وخرجت من القتال حصينة معافاة ظافرة!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى