صفحات مختارة

نقد الخيال الواهم

نايف سلّوم
في رد سعيد ناشيد على ردنا المنشور في طريق اليسار عدد 23 والذي عنوانه: نقد النقد الماركسي للإصلاح اللاّهوتي أو دفاعاً عن الخيال، يضمر هذا الرد اتهام الماركسية الكلاسيكية بغياب الخيال، والاتهام لا يشملها ، بل يشمل تلمذتها المبتدئة في شكلها الستاليني، والعقل النقلي الذي يحبس الخيال في نصية متحجرة. هكذا على العموم ترجع أزمة الماركسية المعاصرة حسب ناشيد إلى افتقاد الماركسيين المعاصرين للخيال المبتكر والمبادهة الذهنية والتاريخية .
يقول: ففي كل إستراتيجية للتغيير ثمة دائما حاجة ملحة إلى تمثلات الوعي للواقع… وهنا فأنا أردّ أيضا على من يؤاخذون عليّ استثمار الوجدان في مجال كتابة يُفترض أنها عقلانية. والواقع أني أرى الوجدان عاملا حاسما في حركة التاريخ، وهو ما لا يمكن للعقل الوضعاني أن يتصوره..
تكمن الخاصية الجوهرية للوعي في قدرته على التجاوز، وذلك عبر آليات التمثل والتصور والخيال، وهذا هو سرّ التقدّم في كل العصور والأزمنة.. ”
بالطبع، يدرك ناشيد أن الديالكتيك في الماركسية ينافي المذهب الوضعي وينقده بصرامة، و ناشيد يعيدنا إلى مسألة باتت محلولة في الماركسية منذ زمن بعيد(كتاب ماركس الأيديولوجية الألمانية 1845 : أو نقد الفلسفة الألمانية الحديثة بأشخاص ممثليها: فيورباخ ، برونو باور وشترنر) ، وقد سبق هذا العمل نقد ماركس لفينومينولوجيا هيغل أو ما يسمى ظاهريات الروح عند هيغل : “فالمثالي ما هو إلا مادي منقول إلى رأس الإنسان ومحوّل فيه” (ماركس من مقدمة الرأسمال) . فتمثل الوعي للواقع يمر بلحظة النقل ولحظة التحويل. اللحظة الأولى تتطلب سلامة الدماغ والحواس واللحظة الثانية تتطلب التأهيل الذاتي (التمكن المنهجي والتجرد والنزاهة والتنزيه عن الأغراض الخاصة ؛ دوافع المصلحة الخاصة) ، ومع ذلك فقد دفعت الماركسية هذه المسألة لتأخذ طابعاً موضوعياً عبر الحزب السياسي كتعبير جمعي عن الوعي الطبقي أو كمثقف جمعي ، فهو حال الوعي بالنسبة للطبقة وهو تعبير وجداني ..من ناحية أخرى : إن أفعال البشر تمر عبر وعيهم ، أي لا بد لها من التأسيس لحقل أيديولوجي جديد بعد أن نقدت الحقل الأيديولوجي القائم والسائد ، مع وجود لحظة انتقال أو برزخ بين الحقلين. من هنا عبر ماركس بالقول: إن نقد الدين كفضاء أيديولوجي للفكر مسيطر هو مدخل لكل نقد آخر: نقد السياسة (الدولة) ونقد المجتمع البورجوازي( المدني) .إن للصراع الطبقي لحظة أيديولوجية مثلما له لحظة نقابية وأخرى سياسية أكثر شمولاً وتعبيراً ، إن التعبير السياسي هو وعي الطبقة بتوسط الحزب السياسي عن مصالحها الواقعية أو التاريخية (المصالح التي تتجاوز الحاجات المطلبية للطبقة) . إن الوعي السياسي للطبقة العاملة يجعل الصراع الطبقي يتجاوز الأشكال المشوهة والمشتتة للصراع الاجتماعي (كالصراعات القبلية والعرقية والمذهبية – الطائفية، وحتى الأشكال النقابية المعزولة)
يشفع ناشيد اتهامه للماركسية المعاصرة، ذات النزعة الكلاسيكية والمفتقدة للخيال، بشفع من الحجج التاريخية (الأحداث) هو : انتفاضة الطلاب في فرنسا وتمردهم على النظم الجامعية الجائرة سنة 1968 وما تبعها من تنظيرات “خيالية” ، والحجة الثانية هي “الثورة الثقافية” في الصين أواسط الستينات من القرن العشرين .
بالطبع، الأستاذ ناشيد غير منشغل بقضايا الماركسية ، بما فيها قضية الحزب الشيوعي وعلاقته بالطبقة العاملة ، ولا بمسألة “ذات التاريخ” بالمعنى النظري في الماركسية ، ولا بالعلاقة العضوية بين الطبقة وتعبيرها السياسي (والأيديولوجي)، ولا بدور الطلاب في الحركة الاجتماعية المعادية للرأسمالية ، وهل الطلاب طبقة أم لا بالمعنى الماركسي لتحديدات الطبقة؟ كل هذا القضايا والمسائل لا تهم ناشيد باعتبار أنها موضوعات تفل حدة الخيال! كلها قضايا لا علاقة لها بخيال ناشيد المجنّح.
فإذا كانت حجتا ناشيد تهدف إلى نسف الماركسية الكلاسيكية ومعها الماركسية السوفياتية ونسف التلمذة المبتدئة على يد هذه “الماركسية السوفياتية” فهذا ضرب من الصبيانية الفكرية في طرح المسائل ، سواء ما يتعلق منها بالإصلاح الديني واستيعاب وتمثل ظاهرة الحزب الديني المزدهرة في العصر الإمبريالي المتأخر(المعولم)، أو ما يتعلق منها بأصل الوجدان الفردي وأصل الخيال.
سوف نقارب الحجة الأولى لناشيد وهي “ثورة الطلاب” في فرنسا 1968 التي أظهرت حدود التحركات الطلابية ودور الطلاب على مستوى تهديد النظام الرأسمالي الاحتكاري ، خاصة في بلد كفرنسا دخلت فيه الطبقة العاملة في “سلم طبقي” مع البورجوازية الإمبريالية على أثر أزمة 1929 وعلى أثر قيام الثورة الاجتماعية في روسيا 1917 ، وتحول الحزب الشيوعي الفرنسي الستاليني النزعة إلى ما يشبه تياراً في الاشتراكية -الديمقراطية المتمرغة بوحل الإصلاحية والتبعية للنظام البورجوازي الإمبريالي . إن انتفاضة طلابية متزامنة مع تحركات عمالية ذات طابع “قومي ” ؛ أي ذات طابع نقابي ، وفي وضع تواجد حزب شيوعي ستاليني مستكين ومتكلس ، وفي ظروف سيطرة القوات الأميركية والشركة الأميركية على أوربا بعد الحرب الثانية ، لن تكون هذه التحركات أكثر من خرمشة طفل لوجه أبيه “المحب ” والمتفهم .يقول غارودي: “إن الأمين العام للحزب الشيوعي الأسباني سانتياغو كاريللو ، إذ يحلل صراعات أيار ، يجد فيها ولادة تجربة جديدة ، ألا وهي تجربة “الإضراب القومي” ” .. إن كاريللو منظر الاشتراكية البرلمانية الأوربية (الشيوعية الأوربية) يشيد بالإضراب العمالي القومي لأنه يحافظ على آلة الدولة الرأسمالية الاحتكارية .. الإضراب السياسي العام للطبقة العاملة مع احتلال المصانع .. كان مترافقاً بقرار إنشاء قطارات خاصة لأسباب الطوارئ القومية أو الأمن .. ووراء هذا الإضراب “السياسي” الذي يعمل في كنف الدولة البورجوازية ، وراء هؤلاء الطلاب الذين فتحوا ثغرة باحتلالهم الكليات ، وبفرضهم التسيير المشترك للجامعات ، وبخلقهم أشكالاً جديدة للرقابة الجماهيرية بحيث فتحوا مستقبلاً جديداً ” تقف سيطرة الملكية الرأسمالية الخاصة ، ويقف الرأسمال الاحتكاري. بالطبع، لا قيمة للرقابة الجماهيرية في ظل سيطرة الاحتكارات الرأسمالية وفي ظل سيطرة الدولة الرأسمالية الاحتكارية .، على العكس من الوضع في روسيا السوفياتية حينها (الرقابة من قبل المنتجين المباشرين لها دور حاسم).[طلاب فرنسا يراقبون ورسيا السوفياتية تلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج].. إن التشريك يأخذ كامل معناه ما إن يتم أمرين: 1- إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج 2- تحطيم آلة الدولة البورجوازية وتحويلها بعمق كيما ننتقل من ديمقراطية صورية إلى ديمقراطية فعلية . يقول غارودي “إن الانتقال إلى الاشتراكية انطلاقاً من رأسمالية الدولة الاحتكارية لا يتضمن في حال من الأحوال قبول الموضوعات الإصلاحية “للماركسية النمساوية” والأوربية عموماً التي تنص على أنه يكفي أن يحصل حزب الطبقة العاملة على 51% من الأصوات في الانتخابات النيابية كي تكون الثورة قد صنعت ، فليس المقصود هو الاستيلاء على آلة الدولة فحسب ، بل تحويلها بعمق (تحطيمها) كيما ننتقل من ديمقراطية صورية إلى ديمقراطية فعلية ” .
بالطبع هذه القضايا الشائكة لا تمر بخيال ناشيد الواهم .
أما “الثورة الثقافية ” في الصين منتصف ستينات القرن المنصرم فهي نوع من تعبئة 315 مليوناً من الشباب الصيني المتمرد على تعاظم ظاهرة البقرطة والامتيازات البيروقراطية الحزبية من قبل التيار الستاليني في الحزب الشيوعي الصيني ، الذي تحرك لضرب جناح ماو تسي تونغ إثر قطع المساعدات الاقتصادية السوفياتية عن الصين أواخر عهد خروشوف. لقد استفاد تيار ماو في هذه التعبئة ليحل عدة قضايا دفعة واحدة : 1- استئصال التيار الستاليني الذي ظهرت امتيازاته بوضوح وبات خطراً على مستقبل التحديث الصيني 2- إعادة الاعتبار للتعبئة الأيديولوجية في مواجهة الحوافز المادية التي اعتمدها السوفييت أكثر فأكثر في عهد خروتشوف 3- إعادة الوحدة الأيديولوجية للحزب الشيوعي الصيني ، وبالتالي تسهيل إدارة تحديث بلد شاسع عانى من انقسامات أمراء الحرب، وذو غالبية فلاحية ..
إن التمردات الطلابية والشبابية في الستينات هي رقصة ما قبل التلاشي للمد الثوري الاجتماعي في القرن العشرين . ما حدث بعد ذلك كان تداعيات حركة سابقة .
لقد وجدت الدينامية التي حركها انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية خاتمتها الحزينة في أواخر الستينات ، وهو العام الذي أعدم فيه أرنستو تشي غيفارا ، و كتب فيه غارودي كتابه : “منعطف الاشتراكية الكبير ” وكأن للعنوان وقع تهكمي لزمن مفارق ، أو كما يقول جاك ديريدا “زمن خارج الوصل” !
بعد عقد من الزمن وفي سنة 1978 سوف يتحرك الطلاب مستبقين التحرك العمالي في طهران والمدن الإيرانية في انتفاضة شعبية ضد نظام الشاه ، وسيقود هذه التحركات لاحقاً طبقة البازار التقليدية البورجوازية المتوسطة والصغيرة عبر مثقفيها العضويين من رجال الدين الشيعة (آيات الله).. وسوف تفتتح حقبة جديدة مما يسمى تعاظم واستفحال ظاهرة الحزب السياسي الديني. ومدشنة ظاهرة السياسات الليبرالية الجديدة في البلدان الرأسمالية الرئيسية المعتمدة على المضاربات المالية وعلى تجدد الغزو للبلدان التي تفلتت من الشبكة الإمبريالية بعد الحرب الثانية . هذه المضاربات وذاك الغزو عزز من ظاهرة الحزب الديني ومن تفشي السلفية الدينية بأكثر أشكالها عنفاً وظلامية : إن السلفية الدينية هي الوجه الآخر والأكثر رجعية للسياسات الإمبريالية على المستوى الدولي ، إنها العلامة المخاتلة على عصر الإمبريالية المتأخرة في أكثر دوراتها وحشية وانحطاطا وفجورا .
سوف تظهر مرة أخرى في فرنسا وفي هذا الوقت وكعلامة على استمرار تداعيات الأزمة الرأسمالية الراهنة تحركات طلابية قوية ، لكن هذا المرة ذات مغزى أكثر جذرية ؛ إنها مظاهرات طلابية تعقب التحركات العمالية الضخمة المحتجة على رفع سن التقاعد ..وإذا ما ساعدنا الخيال ، وشطحنا : قد تكون فرنسا مهددة بحرب أهلية جديدة!؟
هوامش:
– غارودي: في سبيل نموذج وطني [قومي] للاشتراكية ص 298
– غارودي: مرجع سابق 298
– غارودي: مرجع سابق

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى