حسين العوداتصفحات العالم

ما أكثر الانتخابات.. ما أندر الديمقراطية

حسين العودات
ينبغي أن نتذكر بأن الديمقراطية بمفهومها المعاصر، هي نتيجة ملازمة للدولة الحديثة ومفاهيمها التي كرستها النهضة الأوروبية، والتي أهمها مرجعية المواطنة (المواطن الفرد الحر) والمساواة والعدالة والحرية وفصل السلطات وتداول السلطة، وقبل هذا وبعده ضمان حق التعبير عن الرأي وبالتالي حرية الصحافة ووسائل الإعلام، واحترام رأي منظمات المجتمع المدني.
ونلاحظ ـ إذا قبلنا هذا الافتراض ـ أن العملية الديمقراطية هي أشمل وأغنى وأكثر تعقيداً مما يظن كثيرون منا، فهي ليست الانتخابات ولا الحرية ولا الحوار فقط، بل تشغل هذه الجوانب جزءاً صغيراً ومتمماً للعملية الديمقراطية، وبعضها يقع في حيز وسائل تحقيق الديمقراطية (كالانتخابات مثلاً) ولا يدخل في ماهيتها أو بنيتها.
لكي تتحقق الديمقراطية، ينبغي تحقيق مكوناتها ومفاهيمها وعواملها، وتدريب الناس على احترام الرأي الآخر، والاقتناع بالمساواة والتكافؤ، وفصل الحكومة عن الدولة، وضمان حرية التعبير من خلال ممارسة وسائل الإعلام لوظائفها وواجباتها، في التوعية والنقد وتسهيل الحوار وخلق مناخ ملائم له، وتكريس هذه المفاهيم، والعمل على أن تدخل في عمق ثقافة الناس، كي تتحول إلى سلوك، ليس بما يخص الشأن العام فقط بل بما يهم الشأن الخاص أيضاً، في التعامل مع الآخر: في الأسرة والمجتمع، وفي مواجهة الحياة اليومية، ومشاكل الناس وقضاياها.
واعتبار مهمة الحكومة الأساسية هي تطبيق القانون أو الإشراف على تطبيقه في إطار العقد الاجتماعي (الدستور، أو النظام الأساسي أو ما يشبههما)، فالدولة لجميع مواطنيها (الموالين والمعارضين، الأخيار والأشرار) بينما الحكومة تمثل فئة (الأكثرية عادة)، وعند إشاعة هذه المفاهيم والاقتناع بها، وإدخالها في عمق القيم والثقافة، وتحويلها إلى سلوك، يصبح المناخ مناسباً لبناء الديمقراطية، ونلاحظ ـ في ضوء ذلك ـ أن الديمقراطية لا تقتصر على نظام حكم، أو مراقبة حكومة، أو تداول سلطة فقط، وإنما تشمل أيضاً حياة المجتمع كله وسلوكه وقيمه وتقاليده وعاداته وأنماط عيشه.
أما الانتخابات فهي الوسيلة التي توصلت إليها التجربة الإنسانية لاختيار ممثلي الشعب الذي يكلفهم بإدارة شؤونه، وعلى ذلك فهي وسيلة فقط، تختلف مفاهيمها وأساليبها وطرق ممارستها ومدى نجاعتها من مجتمع لآخر، ويشكل المنتخبون بموجبها مجلس نواب أو مجلس شيوخ أو مجلس شورى أو أية تسمية تنم عن أن أعضاء المجلس يمثلون آخرين انتخبوهم، وتكون الانتخابات عادلة أو غير عادلة حسب تطبيقاتها من قبل النظام القائم.
ومدى ديمقراطيته، وعمق الثقافة الديمقراطية لدى الناس، وقناعاتهم أن هذه الانتخابات هي التي ستقرر مصيرهم خلال مدة معينة مقبلة، وأن أصواتهم ستشكل القول الفصل في تحديد شكل الحكومة وبرامجها ومستقبل المرحلة المقبلة. أي أن نضوج المجتمع ديمقراطياً هو الذي يقنع الناس بأهمية هذه الانتخابات ونتائجها، وهو في الوقت نفسه يصونها من الفساد والعنف والتزوير، ويحقق شفافيتها.
نلاحظ في بعض البلدان أن الأنظمة السياسية، وبعض شرائح المجتمع فيها، تعتبر أن ممارسة الانتخابات تعني تحقيق الديمقراطية، وتخلط الوسيلة بالغاية، في الوقت الذي تكون لها عدة مرجعيات تسيطر على مفاهيمها ووعيها (كالطائفية والعشائرية والإقليمية وغيرها)، ويهمها من هذه الانتخابات بالتالي فوز مرجعيتها، وهي لا تعي بأي حال مفاهيم الديمقراطية الشاملة الواعية المتجذرة أو لا تريد أن تعيها.
ولذلك يلجأ النظام السياسي، إلى التدخل في الشؤون الانتخابية (بالترغيب والترهيب والتزوير وغيرها) وتلجأ بعض الشرائح (الاجتماعية أو الطائفية أو الإقليمية) إلى العنف أو الضغط أو افتعال المشاكل لتنجح فيها، باعتبار أن نتائج الانتخابات هي وسيلة للهيمنة والابتزاز والتحكم بالأفراد والمجتمعات التي لم تترسخ الديمقراطية في ثقافتها بعد، ولم تصبح نمط حياة، ويقال بعد مثل هذه الانتخابات أن الديمقراطية تحققت، وأن نظام الحكم الناتج عنها هو نظام ديمقراطي، وأن الحكومة اختيرت اختياراً حراً ديمقراطياً.
وتبدأ هذه الحكومة تتصرف تحت هذا المبرر وكأنها مالكة الدولة والمجتمع والناس، إلى أن يحين موعد الانتخابات التالية، والتي يستحيل ـ حسب هذه الشروط والظروف ـ أن يفوز أحد فيها غير أهل النظام، وتبقي السلطة القائمة متربعة على عرش الحكومة عشرات السنين، والانتخابات دوارة، والحديث عن الديمقراطية يصم الآذان، وتداول السلطة يدخل في باب الأسطورة والمستحيلات.
لنا أمثلة بالانتخابات التي جرت في عدة بلدان مؤخراً وكانت خارج معايير العدالة ومفاهيم الديمقراطية، وكادت نتائجها أن تشعل حرباً أهلية، كما هو شأن انتخابات إيران وأفغانستان، وكينيا، وميانمار، وزيمبابوي، وعديد من الدول الأخرى، ليس فقط في آسيا وأفريقيا وإنما أيضاً في دول متقدمة اجتماعياً وثقافياً، لكنها متخلفة ديمقراطياً.
كما هو حال بيلاروسيا وأوكرانيا وبعض دول وسط آسيا (السوفييتية السابقة)، ولم تدخل الديمقراطية الحقة لا في ثقافتها ولا في سلوكها ونمط عيشها بعد، وتمارس أنظمتها السياسية العملية الديمقراطية ممارسة كيفية بما يخدم مصالحها وهيمنتها واستبدادها.
لقد أتقنت الأنظمة الشمولية في العالم قوانين اللعبة الانتخابية، وأبدعت في إقناع شعوبها أن الانتخابات هي الديمقراطية، وتحاشت الاهتمام بمعايير الديمقراطية الحقيقية، وهيأت الشروط والظروف لتوجيه الانتخابات كما تريد، والتحكم بنتائجها، سواء اضطرت للجوء إلى التزوير المباشر، أم لوضع الناس في شروط لا يستطيعون معها الخروج على ما تريده هذه الأنظمة، وأصبح بإمكان هذه الأنظمة وقادتها أن يحكموا شعوبهم (ديمقراطياً)، إلى مدة غير محدودة، ودائماً بطريق الانتخابات.
البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى