صفحات ثقافيةعارف حمزة

حلب المقتطعة بالشوكة والسكين من كتلة حياة أكبر

null
عارف حمزة
كلما سافرتُ لحلب أشعر بأنني أستعيد سفرة قديمة. مهما كانت جديدة ستبدو سفرة قديمة انتهت منذ اليوم الأول لذهابي إلى هناك، وباقي الأيام أستطيع أن أعيش لحظاتها كما ستحدث. وفي العادة يكون توقعي صحيحاً. ليس هذا فحسب. بل أستطيع، كي لا أشعر بالملل، أن أستعيد دقائقها وساعاتها، وأنا ما أزال في الحافلة، التي خرجت للتو من الاستراحة الأبدية التي تشبه عقاباً أبدياً. فأغمض عيني وأحزر كل شيء على الطريق الذاهب إليها. لن أنظر في النافذة التي على يميني، أو من خلال نافذة السائق، الذي يتابع تحطيم أرقامه القياسية في التدخين وشتم أعدائه من السائقين الجدد، النافذة المشرفة على الطريق المتآكل من كثرة الدعس عليه من الحافلات الثقيلة والمحروق بالسجائر والتحديق الطويل.. ثم أنتبه إلى أنه لم يتبق أمامي سوى ساعتين كي أغطس في الماضي الذي لا يتغير.
لا شيء يتغير في الطريق إلى حلب تضامناً مع حلب التي لا يتغير فيها شيء. صحيح أن الاسمنت يزداد توحشاً والحديد يسد الفراغات ببشاعة مُخترَعة كي يهنأ الأزواج في تناسلهم وغضبهم المقيم… لكن حلب نفسها تبقى كما كانت في الحيز الضيق والصغير، كما وردة مجففة في كتاب الأطلس، الذي يعذب السكان بعدم القدرة على النسيان أو الخروج عليه!
أذهب إلى حلب وأعرف أين أجد الشعراء والروائيين وصديقنا الوحيد المهتم بالسينما. كما أعرف ماذا جرى في غيابي. حتى لو غبتُ عاماً أو عامين فإن الذي سيحصل في ذلك الغياب هو تكرار للحياة التي رأيتها ولمستها أو سمعت عنها. الحياة التي تكون متضخمة في البارات والمقاهي ثم تعود لحجمها الحلبي الطبيعي في الطرق الذاهبة إلى البيوت. هي حياة مخصصة لهذا المكان. فلا تذهب مع المغادرين منها بل تبقى معضوضة في كراج الانطلاق أو محطة القطارات أو قاعة المطار، ومتروكة هناك كي يستردها العائد ويضعها مع أغراضه في التاكسي.
ستقفل مقاهٍ ولن يتغير شيء أو أحد. سيموت الأصحاب بشكلٍ متوقع. والنساء الغريبات سيبقين محترفات في سحل قلوب الشعراء حتى آخر العالم. بينما الروائيون يقومون بتأليف تلك النسوة. لا يوجد مجلات وصحف جديدة تطبع هناك. الرائحة الواخزة، التي يؤلفها المراهقون ومشجعو كرة القدم، ستبقى تسلم على الداخلين إلى مباني السينما نفسها وملاعب كرة القدم نفسها ثم تودعهم إلى أشغالهم الشاقة في عدم نسيان ما حدث”. قلبي على ولدي وقلب ولدي على حجر “ستبقى النشيد المحلي للمكان. الأسماء تكبر ولا تتغير. ثم تصغر لتكون على مقاس الأبناء الذين سيكبرون كما لو كانوا يضيفون صوراً فوق صور في ذات الألبوم. سيكون هناك “أبو عبدو الفوال” في الجديدة والكلاسة والسليمانية والمنشية والميدان.. سيكون هو أبو عبدو نفسه لعشرات السنين. حياة لا تجري. بل تتمشى بهدوء في الشوارع على إيقاع “المحاشي” و”الكبب” والمشاحنات المكررة والكلام المكرر، كلازمة أغنية لا تنتهي لصباح فخري، ونتف شعر الأمل.. لن تجري تلك الحياة حتى لو ركضنا وراءها وضربناها بالعصي و”الشنتيانات”.
كان الشعراء، والروائيون والتشكيليون، يداومون في مقهى القصر الذي على زاوية شارع بارون. وتم إقفال المقهى، الذي تحول فيما بعد إلى كافتريا، وفـُصل الشعراء من تلك الوظيفة فتفرقوا إلى عدة مقاه. ثم تجمعوا في مقهى “المنتدى”، مقابل ساحة سعد الله الجابري، لأن الأسعار في مقهى الفندق السياحي مرتفعة، وبعد إغلاق المنتدى وتحويله إلى مركز لخدمات الهاتف الخاصة استقروا في مقهى الفندق السياحي.. وفي كل فصل جديد لهم وتشتيت مجالسهم الخيالية كان يتم الامتعاض على الطاولة ثم يتحولون إلى أحاديثهم العادية تاركين الامتعاض مغمى عليه ومهملاً كأن شيئاًَ لم يكن.
النساء، زوجات الشعراء وصديقاتهم وحبيباتهم.. لا يرافقن الشعراء في المقهى. وإذا حضروا معاً أمسية ما أو حفلة موسيقية أو معرضاً.. فبمجرد انتهاء ذلك الحدث يذهبن وحيدات إلى أشغالهن الوهمية في البيوت. بينما الشعراء يذهبون وحيدين إلى أشغالهم الوهمية في سهرة ما بعد الحدث.
الذين غادروا حلب، من الكتاب، لا يعودون إليها. لا يشتاقون. وإذا عادوا فلكي يدفنوا موتاهم من الأهل أو من الأصدقاء. ثم يهربون مجدداً إلى أماكنهم البعيدة التي لا يمكن مشاهدة الماضي منها.
لا شيء يتغير في حياة الشعراء في حلب لأنها حياة مقتطعة بالشوكة والسكين من كتلة حياة أكبر لا تتغير أبداً. ما زال “فاضل” يستيقظ عندما ينام الناس وينام عندما يستيقظون كحراسة عسكرية للرتابة. لا يستطيع “فؤاد” الفكاك من السفر أو انتظاره في قاعات الترانزيت لذلك هو يكتب الشعر على المناديل والجرائد في الطائرة والسيارة والقطار، وفي أوقات نقاهته من السفر يكتبه في العيادة أو المشفى. “بسام” يناضل مجدداً في عدم كتابة الشعر كي لا تزداد القصائد وتشكل فجأة مجموعة شعرية سيضطر إلى نشرها. تلك المجموعة التي تأخرت عشرين عاماً. أما “نيروز” فإنه ما زال ينتظر أحداً لن يأتي. ينتظره في المقهى والبيت والشارع.. وفكه ما زالت تقطـِّع إرباً العلكة التركية التي لا تنتهي. “صلاح” يداوم في الصيدلية ويعالج المريضات بالشعر. “الكلاسيكيون” ما زالوا كلاسيكيين في الكتابة وعدم التدخين والسهر وتربية الأولاد والدروس الخصوصية وكتابة المقالات الميتة في مجلات ميتة لا يسمع بها غيرهم. “إيمان” تبحث عن الحياة على الشبكة العنكبوتية شاتمة دور النشر البليدة والمتخلفة التي لا تعطي أهمية للشعر. يعرف الندل في مطعم العندليب الشاعر “عبد السلام” أكثر من أهله في القرية. كل ليلة على نفس الطاولة مع نفس المشروب الذي يمدده بقطع قليلة من الخيار والجبنة المشوية ثم يبدده بالبكاء على مملكة لم يحافظ عليها كالرجال.
في آخر مرة ذهبت فيها إلى حلب سهرتُ في مطعم العندليب لوحدي. طلبتُ ربعية عرق مع سلطة حادة وصحن لبنة. كنتُ أشعر أنه بمجرد نزولي من المطعم ستدهسني سيارة مسرعة. ضحكتُ من هذا الشعور الغريب الذي انتابني بقوة. والرجل الذي كان يجلس وحيداً على الطاولة البعيدة نظر إليّ وضحك أيضاً من فكرتي الغريبة، ثم رفع كأسه عالياً كي يُبعد تلك السيارة المسرعة عن طريقي!!
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى