صفحات ثقافيةعمر قدّور

“الرواية السوريّة الجديدة”: ظاهرةٌ إبداعيّةٌ أم ظاهرةٌ إعلاميّةٌ؟

null
عمر قدّور
في السنوات الأخيرة، بدأ تعبيرُ “الرواية السوريّة الجديدة” بالاستقرار، ولم يتصدَّ أحدٌ تقريبًا للتحقّق من مطابقته لظاهرة الكتابة الروائيّة المتناميةِ في العقد الأخير. ولعلّ من طرائفِ المشهد الروائيّ أنّ مَن يتحدّثون عن “النصّ الجديد” هم الروائيّون أنفسُهم، الأمرُ الذي يَفتح الباب واسعًا أمام دعاوى “التجديد والتجاوز” من دون وضعها على محكّ النصّ. وإذا كانتِ الحفاوةُ النقديّة المدروسة التي تلاقيها النصوصُ الجديدةُ ظاهرةً إيجابيّةً في الثقافة السوريّة، فإنّ الحفاوة العشوائيّة ـ في المقابل ـ تسهِم في تكريس مفاهيمَ تنزاح عن موضوعها تارةً، وتؤدّي إلى تكريس أنماطٍ متقادِمة تحت دعوى “الجديد” تارةً أخرى.

عندما يشار إلى الرواية السوريّة الجديدة تتردّدُ أسماءُ معنيّة بهذه الموجةِ، مثل خالد خليفة، وسمر يزبك، وخليل صويْلح، وعبير إسبر، وروزا ياسين حسن، ومنهل السراج، وآخرين. وتلتقي تجاربُ هذه الأسماءُ في أمرين: أنّها بدأتْ تجربتَها السرديّة في العقد الأخير، مع اختلافٍ بيّنٍ في طبيعة اهتماماتها وأساليبها الفنّيّة؛ وأنّها تخلّصتْ من الاشتغال على التاريخِ وانصرفتْ إلى الاهتمام بالراهن. وفي هذا يمكنُ تسجيلُ بعض ملامح الجرأة، ولا سيّما الجرأة السياسيّة: فقد تمّ التخلّي عن استعارة التاريخ البعيد لتمرير مقولاتٍ راهنة، على نقيض ما دأبَ عليه بعضُ الروائيّين السابقين للتحايل على الرقابة. لكنْ إذا كان تمايزُ هذه التجارب من السمات الإيجابيّة فإنّه، كما سنرى، لا يَحدُث ضمن رؤيةٍ فنّيّةٍ جديدةٍ بالضرورة؛ فبعض هذه التجارب يحيلُ على أنماطٍ فنّيّةٍ تقليديّةٍ، وبعضُها الآخر يحاول القطيعةَ مع الإرث التقليديّ من دون أن يُفلح.

***

يوحي التركيزُ على “الجِدّة” الزمنيّة لهذه الأصوات بوجود قطيعةٍ جيليّةٍ ضمن الرواية السوريّة، وبتنميطٍ للتجارب الجديدة وللتجارب التي سبقتها على حدٍّ سواء. والحقّ أنّ التجاربَ الروائيّةَ الأسبق، التي ما تزال مستمرّةً في الاشتغال الروائيّ، لا تجمعُها هي أيضًا سماتٌ محدّدةٌ: فمن الصعب، مثلاً، وضعُ تجارب سليم بركات وفوّاز حدّاد ونبيل سليمان وخيري الذهبيّ وفيصل خرْتش وممدوح عزّام وخليل الرزّ في سلّةٍ واحدة. كما أنّ التجاربَ الأقدم، وِفقَ المعيار الجيليّ، ليست موحَّدةً هي الأخرى: فتجاربُ عبد السلام العجيْلي وحنّا مينه ووليد إخلاصي، مثلاً، لجهة غلبة السرد الكلاسيكيّ في تلك المرحلة، تنقطعُ مع تجربة هاني الراهب في روايته ألف ليلة وليلتان.1 ومع نهاية سبعينيّات القرن الماضي تخلخلَتِ المعاييرُ الكلاسيكيّة، وبخاصّةٍ مع الترجمات الغزيرة لروايات أميركا اللاتينيّة التي شهدَتْ شعبيّةً كبيرةً منذ ذلك التاريخ.
ومن هنا لا يُمكننا الحديثُ عن ملامحَ جيليّةٍ متجانسةٍ في العقود الثلاثة الأخيرة، ولا عن غلبةٍ ساحقةٍ لذائقةٍ معيّنة، بقدْر ما نستطيع الحديثَ عن تجاربَ فرديّةٍ اجتهدَ كلٌّ منها على طريقته. كما أنّ التجاربَ الأسبق لم تكنْ هي معيارَ التجاوز، بل دخلتِ الروايةُ العالميّةُ بقوّةٍ ضمن سلّةِ المعايير، مع تفاوُتٍ في تمثّل المنجَز الروائيّ العالميّ المعاصر. بهذا المعنى سيكونُ الكلام عن روايةٍ سوريّةٍ ذاتِ خصوصيّةٍ فنّيّةٍ من باب التجاوز، لأنّ رهانَ أيّة رواية لم يعدْ يتعلّق بالجغرافيا التي تنتمي إليها بقدر ما يتعلّق بانتمائها إلى جنسها الأدبيّ، ولم تعد القطيعةُ الجيليّة ذاتَ مغزًى ما لمْ يكن المنجَزُ الجديدُ محايثًا للانشغال الروائيّ العالميّ المعاصر. فآباءُ الرواية السوريّة، إنْ كان لا بدّ من وجود آباء، ينتشرون من اليابان شرقًا إلى أميركا غربًا، وسيكونُ من باب المراهقة الفكريّة أنْ يُفاخِرَ روائيّ شابّ بأنّه على قطيعةٍ مع حنّا مينه أو عبد السلام العجيلي أو حتّى هاني الراهب.

***

ومن ناحيةٍ أخرى يشيع أنّ الروايةَ السوريّةَ الجديدة “مضادّةٌ للإيديولوجيا.” وقد يصُحّ هذا على بعض الروايات، مع التنويه إلى أنّ ما هو مضادٌّ للإيديولوجيا قد يحمل إيديولوجيا مغايرةً. لذا، من المستغرب حقّاً أنْ يتمَّ إخراجُ تجربة روزا ياسين حسن في روايتيْها أبنوس2 وحرّاس الهواء،3 وتجربةِ خالد خليفة، في روايتيْه دفاتر القرباط4 ومديح الكراهية،5 من “دائرة الإيديولوجيا.” فالروايات المذكورة تنشغل برصد واقعٍ سياسيٍّ فكريٍّ ممتدٍّ منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وتقدِّم روايةً مختلفةً عن الرواية الرسميّة لتلك المرحلة المهمّة في تاريخ سوريا. كما أنّ هذا الأمرُ ينطبق أيضًا على جزءٍ من تجربة منهل السراج، ولا سيّما في روايتها كما ينبغي لنهر.6 وهو ما لا يُخرج هذه التجاربَ من دائرة الإيديولوجيا، على الأخصّ الإيديولوجيا اليساريّة بطبعتها الموروثةِ من سبعينيّات القرن الماضي. وعلى الصعيد نفسه، لا يمْكن إخراجُ تجربة خليل صويْلح في سياقها العامّ من “الإيديولوجيا،” مع أنّه انشغل بشكلٍ معلَنٍ أو مضمرٍ بهجاء الأنماط اليساريّة التي سادت سبعينيّاتِ القرن الماضي، ونأَى بنفسه عن الانشغال المباشِر بالمتن السياسيّ لصالح الهوامش الثقافيّة، كما نلحظُ في روايتَيه ورّاق الحبّ 7 ودعْ عنك لَومي 8.

بل إنّ الإيديولوجيا أسهمتْ في رواج بعض الروايات: فعلى سبيل المِثال، لامَسَت روايةُ مديح الكراهية لخالد خليفة حدثًا سياسيّاً كان من المحرّماتِ السوريّة، وهو المواجهةُ الدمويّةُ بين الإخوان المسلمين والسلطة في مطلع ثمانينيّات القرن الماضي. وقد كانَ لهذه الجرأة مفعولُها في انتشار هذه الرواية، بينما غابَتْ عن الواجهة رواية سلمون إرلندي9 الصادرة عام 2004 للروائيّ خليل الرزّ، والتي سبقَتْ مديح الكراهية بعامَين في ملامسة الحدث ذاته. إلى ذلك، تميّزتْ روايةُ الرزّ بجرأةٍ وتجريبٍ فنّيّين أعلى، سواء من حيث تبديد السرد الكلاسيكيّ، أو تبديد القول، أو منطوق الشخصيّة، أو وجود “لوثاتٍ” خاصّةٍ بالشخصيّاتِ تنافِسُ الأحداثَ الكبرى المحايثةَ لزمن الرواية. وقد يكون لمنع سلمون إرلندي من التداوُل، وتوزيعِها من “تحت الطاولة،” أثرٌ ما في تجاهلِها (مع أنّ السبب الأبرز في رأيي لهذا التجاهل هو ابتعادُ مؤلّفِها عن الإعلام عمومًا، وابتعادُ الروايةِ ذاتها عن المقُولاتِ المباشرة أو الإيديولوجيّة). ويشير هذا الواقعُ إلى أنّ تعطّشَ المزاج السوريّ إلى الحريّة جعلَه أكثرَ تسامحًا في القضايا الفنّيّة، وأنّ دواعي الجرأة السياسيّة أو الاجتماعيّة تغلّبتْ على متطلّبات الجرأة الفنّيّة. ومن هنا، قلّما نجدُ توازنًا نصّيّاً بين الجرأة الاجتماعيّة والسياسيّة من جهة، والجرأةِ المأمولةِ فنّيّاً من الجهة الأخرى. بل إنّ بعضَ الكتّاب اضطرّ إلى التراجع عن التجريب لمصالحة هذا المزاج، كما نرى عند خالد خليفة: فقد تميّزَ عملُه الأوّل، حارس الخديعة10، بجرعةِ تجريبٍ أكبرَ، إنْ على صعيدِ اللغة، أو على صعيد تبديدِ السرد، وذلك قياسًا على روايتَيه اللاحقتَين، دفاتر القرباط ومديح الكراهية، اللتين غلبَ عليهما الحدثُ، وانزاحَ الاهتمامُ النصّيُّ إلى مرتبةٍ متأخّرة.

***

ثم إنه يجري التنويه بـ “المساهمة النسائيّة” في الرواية السوريّة الحديثة، وكأنّ وجودَ المرأةِ الكاتبةِ شأنٌ طارئٌ على الثقافة السوريّة! فما إنْ تلامِس إحدى الكاتبات موضوعًا كالجنس، حتّى يُعدَّ ذلك جرأةً بالمعنى الاجتماعيّ. وإذا كانت مثلُ هذه الحفاوة مفهومةً في مجتمعاتٍ محافظة، كأنْ يُحتَفى بكاتبةٍ سعوديّة مثلاً، فإنّها تصبحُ مستغربةً في الثقافة السوريّة التي شهدتْ، عبر تاريخها الحديث، العديدَ من الكاتبات اللواتي تميّزْنَ فنّيّا بالإضافة إلى جرأتهنّ الاجتماعيّة. وتكفي الإشارةُ، على سبيل المثال، إلى تجاربِ غادة السَّمّان، أو حميدة نَعْنع، بل كوليت خوري الأسبق زمنيّاً. ولعلّ أسوأَ ما في الأمر، نظرةُ الاستعلاء المضمَرة إلى كتابة المرأة، وإنْ أتَتْ مقنّعةً بمظاهر “التشجيع.” وقد أدّى هذا إلى ظلمِ إسهام الكاتبات مرّتين: مرّةً من خلال “تشجيعِهنّ” لأنّهنّ كاتبات؛ ومرّةً أخرى من خلال التركيز على الجانب الاجتماعيّ لنصوصِهنّ، وإهمالِ الجوانب الفنّيّة.
فعلى سبيل المثال، ركّزتْ غالبيّةُ المقالات التي كُتبتْ عن رواية رائحة القرفة11 لسمر يزبك على العلاقة المِثليّة الموجودة في الرواية بين سيّدتين، مع أنّ وصفَ الفعل الجنسيّ لا يستغرق إلاّ حيّزًا صغيرًا من النصّ. وقد أدّى هذا الاختزالُ إلى إهمالِ رهانات الكاتبة الفنّيّة، سواءٌ من حيث اشتغالُها على البنية النفسيّة للشخصيّات، أو اشتغالُها على التكنيك السرديّ. أيْ تمّ تجريدُ الروايةِ من روائيّتِها، وهي الأهمّ، والانصرافُ إلى الاهتمام بما يُعدّ تجرّؤًا شخصيّا من الكاتبة. وفي المقابل، احتلّ الفعلُ الجنسيُّ المباشر مساحةً أوسعَ في رواية حرّاس الهواء لروزا ياسين حسن، ومع ذلك لم تركّزِ المقالاتُ التي كُتبتْ عنها على هذا الفعل؛ ذلك لأنّ الخطابَ السياسيَّ لحرّاسِ الهواء أعلى من خطاب الجسد، ويلاقي المزاجَ المتعطّشَ إلى الحريّة السياسيّة والاجتماعيّة كما أسلفنا.
والواقع أنّ المقارنة السابقة تحمل شيئًا من التعسّف، إذْ تُجاري ما هو سائدٌ لجهةِ وضع “الكتابة النسائيّة” في مقلبٍ واحد، بينما تتمايزُ نصوصُ الروائيّات السوريّات إلى حدٍّ يُخْرجُها من الانتماء الضيّق المشترك إلى ما قد يُسمّى “كتابةَ المرأة.” وقد تتقاطعُ تجربةُ أيٍّ من الكاتبات مع تجربة كاتبٍ آخرَ، أكثرَ من تقاطعِها مع تجربةِ كاتبةٍ من قريناتها. وفي هذا الاختلاف الإيجابيّ دحضٌ للمحاولات القسريّة للحديث عن تأنيث النصّ؛ إذ إنّ الفوارقَ جليّةً بين الكاتبات: فبينما تنهمِك سمر يزبك في الاشتغال على اللغة في روايتها صلصال،12 ومن ثَمّ الاشتغالِ على التفاصيل الصغيرة أو المنمنمات في رائحة القرفة، نجد روزا ياسين حسن منهمكةً في الاشتغال على القضايا السياسيّة الكبرى في روايتَيها أبنوس وحرّاس الهواء، وفي كتابها التوثيقيّ الذي يرْصدُ معاناةَ المعتقلاتِ السياسيّات (اسمه؟؟). وهذا الانشغال بعيدٌ جدّاً عن تجربةِ عبير إسبر، التي دأبتْ على الابتعاد عن القضايا الكبرى، وانشغلَتْ نصوصُها بالسرديّات الصغيرة في رواية لولو،13 مع ملامحَ بارزةٍ من الخفّة اللغويّة في قَصْقِصْ ورقْ 14.
***

في مقابل العرض السابق، قد يكون مفيدًا الرجوعُ إلى اللهجة الحماسيّة التي وَسَمتْ كتاباتٍ تناولتِ الروايةَ السوريّةَ الجديدة. ونجد في مقال حسين بن حمزة، “نبراتٌ جديدةٌ في الرواية السوريّة: التجريبُ بعيدًا عن الإيديولوجيا،”15 تلك النبرةَ الحماسيّةَ التي تطنِبُ في مديح الروايات الجديدة من غير الخوضِ في محتواها، وتنقضُّ على الأجيال القديمة في الرواية السوريّة دونما تمييز بينها كأجيال أو كأفراد. ويبلغ المقال حدّ المغالطة المكشوفة إذ يقرّر الكاتبُ ما يأتي: “وفي ظلّ تذمّر الروائيّين الجدد أنفسِهم من قلّة اهتمام الصحافة الرسميّة السوريّة بهم، فإنّ صدورَ أعمالهم في بيروت يُكْسب تذمّرَهم شهادةً دامغةً في حسن السلوك الروائيّ.”
ولكنْ إذا كنّا لا نشكّك في انتقائيّة الإعلامِ السوريِّ، وعشوائيّتِه أحيانًا، فإنّ الإنصافَ يقتضي الإشارةَ إلى أنّ أحدَ ممثّلي الرواية السوريّة الجديدة، وهو خليل صويلح، تبوّأ لسنواتٍ عديدةٍ مهمّةَ محرِّرٍ ثقافيٍّ في صحيفةٍ رسميّة، ويُسجَّلُ له انحيازُه المعلنُ إلى الأصوات الجديدة في الرواية على حساب الروائيّين الآخرين. ولقد بدا هذا الانحيازُ جليّاً في حجم الكتابة عن الموضوعَين، حتّى ليمكن القول إنّ ما كُتب عن هذه الأصوات في الملفّ الثقافيّ الذي يحرِّره ـ مضافًا إليه ما كُتب في ملحق الثورة الثقافيّ ـ يفوق بأضعافٍ ما كُتب في الفترة نفسها عن روائيين غير محسوبين على هذه الموجة. وهذا التنويه لا يُلغي حقيقةَ فقرِ الإعلام السوريّ وسلطويّته مقارنةً بالإعلام اللبنانيّ، ولا نشاطِ دُورِ النشر اللبنانيّة قياسًا بمثيلاتها في سوريا أو في دولٍ عربيّةٍ أخرى (الأمرُ الذي جعلها محطَّ أنظار الكتّاب)، ولا سيّما الداران المشار إليهما في مقال بن حمزة (الآداب ورياض الريّس) واللتان نشرتا لأجيالٍ مختلفةٍ من الروائيين السوريين. لكنّ هذا لا يُلغي أيضًا وجودَ أعمالٍ روائيّةٍ، لا تقلُّ قيمةً، نُشرتْ في سوريا، كروايات ممدوح عزّام وخليل الرز وغيرهما، ولم تأخذْ حظَّها من الانتشار عربيّاً بسبب ضعف التوزيع.
وفي مظهرٍ آخر للتحيّزِ الأعْمى للأصوات الجديدة، تستهلُّ روزا ياسين حسن مقالتَها المنشورةَ في موقع الأوان (20/7/2007)، وهو بعنوان “الرواية السوريّة الشابّة: شبابُ الكتّاب أمْ شبابُ الإبداع؟،” على النحو التالي:
“في سعيٍ حثيثٍ لقلب الطاولة على أباطرة الرواية السابقين، يسعى جيلٌ جديدٌ من كتّاب الرواية السوريّة لتأسيس منطقةٍ جديدةٍ خاصّةٍ به، عنوانُها محاولاتٌ للكتابة ضدّ الأطرِ المنجَزة والكليشيهاتِ المعتادة، والخروج على الإيديولوجيّات، وعدم الاعتراف بما سبق، وذلك بغضّ النظر عن القيمة الحقيقيّة لهذه المحاولات!”
من الجيّد أنّ الكاتبة تضع إشارةَ تعجّبٍ في آخر العبارة التي سادتها حماسةٌ تعبويّة؛ ذلك أنّ عبارة “بغضّ النظر عن القيمة الحقيقيّة” للمحاولات الجديدة تُلغي ما يجب أن يكونَ هاجسَ التجارب الجديدة، ونعني بذلك القيمةَ الفنّيّةَ التي قصدتْ إليها الكاتبةُ باستخدامِها تعبيرَ “القيمة الحقيقيّة.” وفي المقالة ذاتِها، تورِد الكاتبةُ عنوانًا فرعيّاً هو “تأنيث الرواية الشابّة”؛ لكنّنا لا نجد تحت هذا العنوان سوى سردٍ لأسماء الكاتبات، من دون الخوض في ملامح تأنيث النصّ… إنْ وُجِدتْ حقّاً.
إنّ من شأن مثل هذه التوصيفات الواردة في المقالين السابقين، وهما غيضٌ من فيض مقالات، أنْ تضلّلَ القارئ، أو أنْ تمارس عليه إرهابًا فكريّاً، إذْ تنتصرُ لبعض الجديد ـ مهما كانتْ قيمتُه الفنّيّة ـ على حساب القديم الذي يُجرَّدُ من تاريخيّته ليسهُلَ الإجهازُ عليه، بل يواجَه بـ “عدم الاعتراف به” كما رأينا. ولعلّ هذا الإنكارَ المطلقَ يقودُنا إلى فهم الآليّة التي تؤدّي إلى تجاهل تجربة سليم بركات مثلاً، على الرغم من أنّ السردَ البسيطَ المدهش الذي قدّمه في سيرة الطفولة وسيرة الصبا، ومِن ثمّ في فقهاء الظلام، أثّر ولا يزال في أجيالٍ من الكتّاب السوريّين، متقدّمًا بالقياس إلى التعثّر اللغويّ الذي يسِمُ بعضَ التجارب الجديدة. كما يتمّ تجاهلُ أسبقيّته في إشاراته الجريئة الواضحة إلى الممارسات السلطويّة للحزب الواحد، وفي ملامسته (أي بركات) تعدُّدَ مكوّنات المجتمع السوريّ (وإنْ بالتركيز على العنصر الكرديّ فيه). هذا التجاهلُ ينطبق أيضًا على الاقتراح الفنّيّ المغايِِر الذي قدّمه فوّاز حداد، قبل حوالى عقدٍ من الآن، في روايتِه الولد الجاهل؛16 إذِ اشتغلَ على الموضوع السياسيّ بعيدًا عن الرطانة، مستفيدًا من تقنيّات الرواية البوليسيّة العالميّة. ولم تكنْ روايةُ سلمون إرلندي لخليل الرزّ بأحسن حظّاً كما نوّهْنا من قبل.

***

بناءً على ما سبق، ثمّةَ خشيةٌ لها مبرّراتُها القويّةُ منْ أن يتحوّلَ مشروعُ “الرواية السوريّة الجديدة” إلى مشروعٍ سلطويٍّ، لا يُجْهزُ على ما سبقَه وحسب، بل يُجهز أيضًا على مجايليه ممّن لا يوافقونه الرأي!
أخيرًا، آملُ أن يَشْفعَ لي موقعي، ككاتبٍ يُحسبُ على هذه الموجة، بالتعبير عن استغرابي الشديد مِن التوصيفات العشوائيّة التي تستوي من خلالها نصوصُ الكتّاب، وتُمحى فيها فرادةُ كلٍّ منهم. وإذا كان من فائدةٍ لأحدٍ في انعدام المعايير، فإنّها لن تعودَ بالتأكيد إلى الرواية السوريّة. وربّما بات علينا أن نكونَ أكثرَ تواضعًا، فنُقرّ بأنّ وجودَنا في الإعلام يمنحُ هذه الظاهرةَ حجمًا لم تكن لتبلغَه بخلاف ذلك. لكنّ الإعلامَ نفسَه قد يصبحُ مقتلَ الرواية الجديدة، باحتوائِه وترويجه لمختلفِ أنواع الادّعاءاتِ المنزاحة عن واقع النصّ. لذا ستكون الخشيةُ ماثلةً من أنْ تتحوّلَ الروايةُ السوريّةُ الجديدة إلى ظاهرةٍ إعلاميّة، أكثرَ من كونها ظاهرةً إبداعيّةً.

* شاعر وروائيّ سوريّ

1. 1. هاني الراهب، ألف ليلة وليلتان (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1979).
2. 2. روزا ياسين حسن، أبنوس (دمشق: وزارة الثقافة السورية، 2004).
3. 3. روزا ياسين حسن، حرّاس الهواء (بيروت: الكوكب – دار الريّس، 2009)
4. 4. خالد خليفة، دفاتر القرباط (دمشق: دار ورد، 2000)
5. 5. خالد خليفة، مديح الكراهية (دمشق: دار أميسا، 2006)
6. 6. منهل السراج، كما ينبغي لنهر (الشارقة: دار الثقافة، 2002)
7. 7. خليل صويلح، ورّاق الحبّ (دمشق: دار البلد، 2002)
8. 8. خليل صويلح، دعْ عنك لومي (بيروت: دار الآداب، 2006)
9. 9. خليل الرزّ، سلمون إيرلندي (دمشق: دار الينابيع، 2004)
10. 10. خالد خليفة، حارس الخديعة (دمشق: دار أميسا، ط 2، 2006)
11. 11. سمر يزبك، رائحة القرفة (بيروت: دار الآداب، 2008)
12. 12. سمر يزبك، صلصال (دمشق: دار نينوى، ط 2، 2008)
13. 13. عبير إسبر، لولو (دمشق: وزارة الثقافة السورية، 2004)
14. 14. عبير إسبر، قصقصْ ورقْ (بيروت: الكوكب/دار الريّس، 2009)
15. 15. جريدة الأخبار البيروتيّة، 30/4/2009
16. 16. فوّاز حدّاد، الولدُ الجاهل(دمشق: دار الكنوز الأدبية، 2000)

* الآداب عدد 9-10/ 2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى