صفحات الناس

عوامل النقص في شعورنا الوطني

null
إعداد وتقديم أثير محمد علي
أورخان ميسّر
أورخان ميسر من شخصيات الأدب والنقد والفكر في سوريا، عاصر تحولات شرق المتوسط المصيرية من المدّ الاستعماري ودويلاته المفبركة إلى مابعد الاستعمار ودوله المصاغة. ولد في استنبول مع اندلاعة الحرب العالمية الأولى 1914، وعاش طفولته في العاصمة التركية إلى أن انتقل مع عائلته إلى مدينة حلب عام 1928، حيث تلقى فيها تعليمه الابتدائي، وتابع دراسته الثانوية في عاليه في لبنان وفيها درس على يد مارون عبود (1886-1962) فكان على تواصل مبكر مع المفاهيم التي تدور في فلك “مجددون ومجترون” و”جدد وقدماء”. ثم التحق بالجامعة الأميركيّة في بيروت للدراسة في إحدى الفروع العلمية الفيزيائية، ونال من جامعة شيكاغو درجة معلم علوم. ومكنته حياته ودراسته وتنقلاته من إجادة العربية، والتركية، والفرنسية والانكليزية وبالتالي التواصل والتثاقف مع مروحة واسعة من المصادر الفكرية والعلمية.
بعد الانتهاء من الدراسة في أميركا عاد إلى مدينة حلب وهناك ساهم في تأييد الحركات الوطنية ضد الانتداب الفرنسي. فتح صالون دارته لاستقبال الأدباء والمفكرين لتداول الأفكار والسجال حول المجريات الاجتماعية والتطورات السياسية والشؤون الثقافية. عمل مديراً لإحدى مؤسسات وزارة الإعلام السورية وظل فيها حتى سنة وفاته عام 1965. عُرف بثراء معرفته وبالجرأة والصراحة في طرح آرائه قولاً وفعلاً وكتابةً. ولج الفضاء الشعري كشاعر، فكان من المجددين ومن المبكرين في تحرير القصيدة من وزر الأوزان والقافية، وكان للشعراء الانكليز، وعلى نحو خاص إليوت وروبرت بروك، دور بارز في تكوينه الشعري. كما مارس النقد الأدبي إلى جانب كتابة الشعر.
يذكر يوسف أسعد داغر أن أفكار أورخان ميسر تبلورت بمؤثرات واردة من يعقوب صروف، وإسماعيل مظهر وسلامة موسى من بين المفكرين العرب، وبوخنر وداروين وفرويد من بين المفكرين الغربيين(1). من الواضح أن هذه الأسماء تكفي وبقوة للإشارة إلى طبيعة منحى توجهات أورخان ميسر الفكرية والعلمية والنقدية في إطار التنوير العربي. من مؤلفاته “شوقي وعصره”، وله ودراسة معنونة “سريال” تناول فيها السرياليّة والشعر السريالي وضمنها قصائد له ولصديقه الشاعر والطبيب علي الناصر (1894-1970)(2)، وله بالانكليزية “الإنسان تحت تأثير غدده”، إضافة للعديد من المقالات في الدوريات الصحفية، كما وترجم إلى العربية “الرقص في أميركا”.
أما مقالة “عوامل النقص في شعورنا الوطني”(1950) فقد نشرت لأول مرة في مجلة “الحديث” التي أسسها الباحث والصحفي سامي الكيالي سنة 1927 في مدينة حلب، فكانت واحدة من أهم المجلات السورية في تلك المرحلة والتي تجاوزت الحدود الثقافية الإقليمية نحو توجه ثقافي عربي يركز على التجديد الفكري والأدبي والفني وينفتح على المنجز الثقافي الغربي. وبقيت “الحديث” تصدر بانتظام حتى سنة 1959.
كُتبت مقالة “عوامل النقص في شعورنا الوطني” مع بدايات المرحلة مابعد الاستعمارية، وفيها يتلمس أورخان ميسر الصلة بين المواطنة والحالة السياسية وبين التحليل النفسي وسياق الواقع المتحول. وقول الوطن في المقالة هو قولٌ نقدي عقلاني مفارق للانتماء الديني والمذهبي ومرادف لمتحد سياسي مندرج في التاريخ وتغيراته.

عوامل النقص في شعورنا الوطني
أورخان ميسر
“لماذا ينقصنا الشعور الوطني، وما هي عوامل هذا النقص؟”. لقد وجه إلي هذا السؤال في مناسبات مختلفة من قبل بعض المثقفين ورجال الفكر في سورية، والغريب في الأمر أن التفاصيل التي كانوا يلحقونها بالسؤال والأمثلة التي يوضحونه بها كانت تتشابه جميعها من حيث الأصل والمعنى. كانت الأمثلة تشير إلى أننا نتميز بحالات الانفعال الوطني إلى حدٍّ بعيد ولفترة معينة من الزمن، ثم نعود وكأن هذا الانفعال لم يكن وكأن المؤثر الذي استجاب له هذا الانفعال قد زال من الوجود زوالاً مطلقاً.
وكانت قضية فلسطين بمراحلها المختلفة ثم الحوادث الدامية التي جرت فيها وما تخلل ذلك من أوضاع مخجلة وخيانات كبرى من رجال رسميين وغير رسميين، والنتيجة المؤلمة التي انتهى إليها الأمر بعد ذلك، كان هذا يحتل المكان الأول في الأمثلة التوضيحية؛ أما المكان الثاني فكان يخصص في كل مرة تقريباً لأنواع الأمثلة التي يتناول أوضاعنا الفوضوية الداخلية وتصور مدى نقص الشعور الوطني الصحيح تصويراً واضحاً.
إن الدراسة العلمية القائمة على ضوء التحليل النفسي لموضوع نقص الشعور الوطني عندنا تكشف عن بعض عوامل تولد بمجموعها عند الفرد حالة نفسيّة خاصة هي التي تعتبر مسؤولة عن هذا النقص. غير أن في جملة هذه العوامل عاملين يفوق تأثيرهما تأثير العوامل الأخرى مجتمعة. وهذان العاملان هما: 1- عدم وجود وطن ذي حدود واضحة ومتحد اجتماعي متميز ضمن هذه الحدود. 2- الفوارق الدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة.
* * * * *
1- إن نظرتنا إلى العالم الخارجي ليست عملية مستقلة بذاتها، منفصلة عن كياننا وتاريخنا الفردي وعن ألوف الانطباعات المجتمعة في حافظتنا بصورة قوى كامنة. كما أن المفاهيم التي تتكون نتيجة لهذه النظرة هي المفاهيم التي تنقش آثارها في معجمنا الفردي ثم تعود فتنعكس على معاجم الجماهير أشكالاً مشوهة أو غير مشوهة. إن نظرتنا إلى العالم الخارجي هي وليدة تفاعلات كثيرة تتم حسب الأوضاع الاجتماعية التي تسيطر على سلوكنا وحسب التأثيرات التي تفرضها هذه الأوضاع.
إننا في وضعنا الحاضر في سورية ليس لنا وطن واضح يتميز بحدود واضحة. وكل ما هنالك أننا نعيش في حدود (حالة وطن) تمركزت صورها في أذهاننا وامتزجت بحنيننا الصحيح إلى الوطن الذي يحدده ويوضحه ويفسره الواقع الاجتماعي. وقد كوّن ذلك انطباعاً مشوشاً لفكرة الوطن لا وضوح فيه ولا استقرار له. وليس يحتاج هذا الكلام لتبسيطه إلى أي عناء علمي؛ إذ يكفي أن نستعرض ما مر بنا في تاريخنا القريب، والأوضاع التي فرضت علينا كحالات صحيحة للواقع الاجتماعي، وأن نستعرض أيضاً كيف كان يبتر من أرضنا ويجز قسم آخر ويضاف قسم إلى جزء أو جزء إلى قسم ويعطي كل بمفرده اسماً خاصاً وأشكال معيشة خاصة ويلقن نظرة خاصة للوجود ولواقعه الاجتماعي الوهمي الجديد. يكفي أن نستعرض هذا بقليل من الملاحظة الدقيقة لنكوّن مادةً أولية واضحة تسهل لنا الطريق لفهم الصور التي ألصقت في قاموسنا الذهني إلى جانب كلمة “الوطن” وإذا أردنا أن نزيد الأمر وضوحاً فعلينا أن نستعرض أيضاً عشرات التوجيهات المضللة التي جاءت مفهوم الأصل والعرق والنوع والجنس والتاريخ والتي شاء أن يفرضها من أراد استثمار أرضنا والاستفادة من مواهبنا في جو من الضلال والوهم والتشويش.
ولما كانت نظرتنا إلى العالم الخارجي شيئاً غير مستقل عن مجموعة الانطباعات اللاشعورية التي تحيا في أعماقنا وعن نتائج التفاعل الذي يتم بينها مجزأة ومجتمعة؛ ولما كانت الانطباعات التي تراكمت في لا شعورنا عن أرض الوطن انطباعات وهميّة قياسيّة كان من البديهي أن يكون الشعور المتولد من ذلك شعوراً ناقصاً مشوهاً غير متبلور الاتجاه. كما أنه من البديهي أن الفرد الذي لا يعرف أبويه ولا يعرف له بيتاً يستطيع الادعاء بملكيته ادعاءً حقاً لا تتولد عنده (عاطفة) صحيحة نحو أبويه ولا نحو البيت الذي يعيش في إحدى غرفه أو ينقل فيه من غرفة إلى أخرى كلما شاءت ذلك مصلحة الذي يستثمر البيت في مجموعه.
أما ما نشاهده بعض الأحيان من مظاهر عنيفة شديدة تدل على وجود روح وطنية شديدة كالنضال المقطع في سبيل التحرر والثورات التي قام بها المواطنون في مناطق مختلفة وأزمنةً مختلفة، ومظاهر التمرد على القوى الظالمة الطاغية والمظاهرات ذات الطابع السلبي والخطب الحماسية والوعيد والتهديد.. إلى غير ذلك من المظاهر التي توحي بالإيمان بفكرة الوطن وأرض الوطن، فإن كل ذلك أمور واقعيّة لا تختلف في حقيقتها عن الكلام الذي ذكرناه والتحليل الذي أشرنا إليه. إن الحنين إلى أرض وطن صحيح عامل لاشعوري يؤرث فينا بصورة مستمرة نار الانفصال والنزوع إلى العنف. غير أن الشعور بعدم الارتباط بأرض معينة يصطدم بهذا الانفعال اصطداماً لا وعيياً فلا نلبث حتى ننثني عن النضال والاندفاع ونركن إلى الهدوء وعدم المبالاة. وهذا هو السبب في كثير من التصرفات التي حار الناس في تعليلها. أنه من القضايا المألوفة في بلادنا مشاهدة جماهير ثائرة صاخبة تهاجم بالوهم وبطريقة دونكيشية(3) قوى خارجية معينة هجوماً عنيفاً لا يكاد يصل إلى بعض ذروته حتى ينقلب سكوناً غريباً وحتى تنقلب الجماهير ذاتها وقد نزلت على أبصارها وبصائرها كثيفة فيرتمون عند أحضان ذات القوى الخارجية التي هاجموها. ومن القضايا المألوفة أيضاً أن نطالب بحقوقنا بالشوارع والأزقة وبضجيج لا يلبث حتى يتساقط أشلاء صامتة على موائد الملاهي والمقاهي والحانات. إن هذا الشعور الوطني المتبلور ليس إلا نتيجة سيكولوجية لعدم معرفتنا أرضنا وترابنا والحدود الفيزيونفسية التي تبلور متحدنا الاجتماعي. إن التحليل العلمي لا يستطيع أن يسمي هذا بالشعور الوطني ويرى أن أقرب تحديد له هو في بحث اصطلاح جديد يمكن أن يدعى بـ(رد الفعل الوطني الخاطئ) Pseudo – Nationalist Reaction.
2- إن بلادنا في الوقت ذاته أيضاً مهرجان لعدد كبير من الأديان والطوائف والمذاهب، ونحن نأبى دائماً أن نترك لهذه الظواهر النفسية-الذهنية قدسيتها وروعتها وجلالها، نأبى إلا أن ننزلها إلى الشارع وأن نتخذ منها أداة للمهاجمات والمهاترات الفرديّة والجماعيّة وواسطة لإشفاء الغليل. وقد عرف فينا الأجنبي هذا الضعف فاستطاع أن يستغله بأحسن وسيلة وعن أقرب طريق فقوى فينا رغبة التقلص حول كل دين بمفرده، وشجع في توليد شعور عدائي عند كل طائفة ضد أخرى، وكتل المذاهب في فرق ذات ألوان متنوعة متفرقة. وكانت النتيجة السيكولوجية لهذه العمليات أن تركزت في ذهن الفرد التقلص والوحدة ونمت نظرة عدم ارتياح لمن كان من غير دينه أو طائفته أو مذهبه وصار بالتالي يعتقد اعتقاداً لاشعورياً أنه ليس مستقلاً بالأرض التي يحيا عليها وأنه ليس حراً بعلاقاته والتزاماته نحو هذه الأرض وأن هناك تنافساً وتناحراً بينه وبين أفراد من فئات أخرى. وكلما اشتد التقلص اشتد الشعور بعدم الترابط وقويت الانعزالية من جهة وضعف وضل الشعور بالوطن من جهة أخرى. ونحن إذا لم ننتبه إلى هذين العاملين ونعمد إلى إزالتهما بالمعرفة والدرس العلمي الجدي ونفهم حقيقة واقعنا الاجتماعي فإن شعورنا الوطني سيبقى في غفوته وضلاله ووهمه. (الحديث، س24، ع3، حلب، آذار 1950)
الهوامش:
(1) لمزيد من المعلومات حول أورخان ميسر راجع يوسف أسعد داغر، مصادر الدراسة الأدبية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، الطبعة الألفية 2000، ص1284.
(2) ولد في مدينة حماه السورية وانتقل للإقامة في حلب اعتباراً من عام 1920. لقبه عباس محمود العقاد بـ”بودلير الشعر العربي” كمحاولة للاقتراب من خصوصية نزعته الرومانسية وتطرفه السوريالي ونزعته الرمزية (أ.م.ع).
(3) دون كيشوتية (محرر الحديث).
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى