أكرم البنيذاكرة الصفحات

من ذاكرة الصفحات: إعلان دمشق ومستقبل المعارضة السورية

null
أكرم البني
بعد مخاض عسير استمر أكثر من خمسة شهور خرج إعلان دمشق إلى النور في السادس عشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي بتوقيع خمس قوى سياسية معارضة، هي لجان إحياء المجتمع المدني والتجمع الوطني الديمقراطي ويضم خمسة أحزاب أهمها الاتحاد الاشتراكي وحزب الشعب الديمقراطي (الاسم الجديد للحزب الشيوعي، جماعة رياض الترك) ووقعه أيضاً التحالف الديمقراطي الكردي والجبهة الوطنية الكردية وكل منهما يضم خمسة أحزاب كردية، إلى جانب حزب المستقبل وعدد من الشخصيات العامة منها الناشط الليبرالي السجين رياض سيف، والشيخ المجتهد جودت سعيد.
واللافت أن تفكيك أجهزة الأمن للمؤتمر الصحفي الذي كان مقرراً لإشهار الإعلان ساعد على تحقيق هدف الإشهار أكثر مما لو تركت الأمور لمسارها الطبيعي، فانتشر الخبر بسرعة كبيرة.
عندها توالت رسائل التأييد من الأحزاب والتجمعات الموجودة خارج البلاد، مثل جماعة الإخوان المسلمين وأحزاب المجلس الوطني والحداثة والتجمع من أجل سوريا وغيرها.
تلاها من الداخل حزب العمل الشيوعي ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي وتحالف الوطنيين الأحرار وأيضاً عدد من لجان العمل الوطني والجمعيات المدنية ومنظمات حقوق الإنسان وعشرات الشخصيات الوطنية منها الشاعر أدونيس والروائي حيدر حيدر.
وبهذا يبدو الأمر وكأن ثمة ترتيبا مسبقا أن تصير الأمور إلى ما صارت إليه حين أجمع كل هؤلاء وخلال أيام معدودة على تأييد إعلان دمشق واعتبار أنفسهم جزءاً منه ومن عملية التغيير الديمقراطي المستحقة في البلاد.
وهذا الأمر يدل على جوع حقيقي عند هؤلاء للتعاون والعمل المشترك وعلى أن ثمة جديداً وجامعاً حمله إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، هو على نقيض من ما ذهب إليه البعض من أنه ليس أكثر من تكرار ممل لمطالب ديمقراطية دأب الطيف المعارض على طرحها طيلة سنين.
أولاً: ثمة موقف جديد وصريح في إعلان دمشق يعتبر أن النظام فشل وعجز عن تنفيذ وعوده الإصلاحية ولم يعد هناك متسع من الوقت لمزيد من الانتظار ومنح الفرص.
وهذا ما يعني فك الارتباط بين مشروع التغيير الديمقراطي وبين مشروع السلطة الذي نظم لسنوات نشاطات المعارضة، والأهم إظهار العزم على تقديم التضحيات من أجل إنهاء مرحلة الاستبداد وبناء سوريا وطناً حراً لكل أبنائه، لتغدو كأنها المرة الأولى التي يتجه فيها الطيف المعارض بوضوح قاطع إلى الشعب وقواه الحية بصفتها حاضنة التغيير وأداته ورافعته.
وما كانت القوى المعارضة لتجمع على هذا التوجه لولا سنوات من الممانعة والركود والتراجع أيضاً إلى الوراء، ولو لم تبرهن الوقائع على صحة الرأي الذي حذر منذ البداية من الرهان على دور أساس للسلطة في عملية التغيير، وذهب إلى القول بأن النظام عاجز عن الإصلاح وأن ممانعته وتحجره لا علاقة لها بإرباكات وصعوبات موضوعية أو بصراع بين حرس قديم وحرس جديد أو باجتهاد حول أولوية الإصلاح الاقتصادي وأسبقيته على الإصلاح السياسي بل هي ناجمة عن تبلور قوى تتعارض مصالحها وامتيازاتها مع أية خطوة جدية صوب التغيير والإصلاح الديمقراطي.
لقد دأبت القوى المعارضة طوال تاريخها على مخاطبة النظام السوري بالعرائض والرسائل كي يقوم بخطوات الإصلاح السياسي ويوسع هوامش الحركة والحرية، لكن سنوات من الوعود الزائفة ومن الممانعة والمماطلة، ثم ما شهده المجتمع مؤخراً من عودة إلى الوراء إلى الوسائل والطرائق الأمنية والتضييق المستمر على النشاطات المدنية والسياسية حسم موقف المترددين وشجع الكثيرين على نفض اليد من النظام وإسقاط الرهان على مبادرته أو دوره في عملية التغيير.
لكن يبقى هذا الموقف الجديد وللأسف عرضة للتراجع والانتكاس طالما لم تتحرر غالبية القوى المعارضة من رهاناتها وأوهامها وطالما نجحت بعض الإجراءات الإصلاحية الفوقية في تغذية هذه الرهانات.
وخير مثال على التباينات التي ظهرت لدى الطيف الديمقراطي في قراءة القرار الأخير للجنة المركزية لحزب البعث بإزالة نتائج إحصاء عام 1962 وحل مشكلة قطاع مهم من الأكراد المحرومين من الجنسية، أو الوعد بإصدار قانون أحزاب يسمح بالنشاط السياسي المعارض أو العفو الذي صدر مؤخراً عن ما يقارب المائتين من المعتقلين السياسيين!!..
ثانياً: إقرار أولوية الديمقراطية وأنها خيار نهائي لا رجعة عنه والمخرج الوحيد من الأزمة الراهنة المركبة التي تعانيها البلاد، بعكس ما كان يدعو إليه البعض من أولوية المسألة الوطنية ومواجهة التحديات الخارجية والهجمة الإمبريالية الصهيونية، الذريعة التي أعاقت الاستحقاق الديمقراطي لعقود طويلة.
وإذ يؤكد الإعلان على رفض أي تغيير محمول من الخارج يدعو في المقابل إلى ضرورة إدراك الترابط الكبير بين العامل الداخلي والعامل الخارجي, وأهمية الإفادة موضوعياً من الظروف والمواقف العالمية المساعدة.
ويمكن النظر من قناة هذا الخيار إلى دعوة إعلان دمشق إلى التغيير الديمقراطي الجذري كحاجة حيوية للمجتمع بغض النظر عن الظرف الخاص الذي يمر به النظام، ورفض كل أشكال الإصلاحات الترقيعية أو الجزئية أو الالتفافية الشكلية.
تجلى هذا الأمر في مطلب إجراء انتخابات عامة لاختيار جمعية تأسيسية تعد دستوراً جديداً للبلاد يضمن تداول السلطة وسيادة القانون، ويشكل رداً واضحاً وملموساً على بعض المواد الواردة في الدستور السوري وخاصة المادة الثامنة التي تقول بدور حزب البعث كقائد للدولة والمجتمع، وكذلك المواد التي تمنح السلطة التنفيذية على اختلاف مواقعها صلاحيات حاسمة على حساب السلطتين التشريعية والقضائية.
وتجلى أيضاً فيما أجمع عليه الموقعون والداعون إلى إعلان دمشق من اعترافهم بكل مكونات المجتمع السوري القومية والطائفية والمذهبية ونبذ الفكر الإقصائي والتصفوي والوصائي.
ولأول مرة تتحد هذه الكوكبة ذات المشارب المتنوعة على مفهوم دولة المواطنة الحاضنة لبشر متساويين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم، مع احترام خصوصية الأقليات القومية وحقوقها، وأهمها دعوته لحل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سوريا، في محاولة الإفادة من التجربة العراقية وتداعياتها وإزالة الشروخ والتصدعات التي خلفتها أحداث القامشلي ربيع عام 2004.
ثالثاً: لعب التوقيت دوراً مهماً، حيث صدر “إعلان دمشق” بعد أيام من خبر انتحار وزير الداخلية السوري غازي كنعان وقبل أيام من موعد تسليم ديتليف ميليس تقريره حول اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه.
وإذا كانت الحقيقة تقول إن المبادرين إلى توقيع الإعلان لم يضعوا في اعتبارهم أهمية هذه اللحظة ولم يكن ثمة قصد من الانتظار عدة شهور سوى متابعة النقاشات وتطوير المسودة الأولى، فعلينا أن نعترف بأن ضغط التطورات والظروف المستجدة سرع بلا شك مسار الحوار والتوافق وحفز الحاجة موضوعياً لحضور الصوت المعارض كقوة ثالثة تحسباً لأية انعطافات مهمة يرجح أن تحدث، حتى لو بدا هذا الحضور أشبه بحضور معنوي لا يملك القوى المكافئة على الأرض.
لكن التعويض يكمن في ما يظهره إعلان دمشق من استعداد سياسي صريح لتحمل المسؤولية ومواجهة تفرد السلطة بتقرير مصير البلاد، ليغدو أشبه بإجابة منتظرة على سؤال ملح يشغل بال المجتمع السوري على اختلاف مكوناته حول مستقبله ومستقبل العملية السياسية مع احتمال تشديد الحصار السياسي والاقتصادي واستمرار ممانعة النظام وإصراره على التمسك بعقليته القديمة وأنماط سلوكه العتيقة!!.
رابعاًً: لاشك في أن البنية التوافقية للإعلان ومحاولته إرضاء أطراف متباينة المصالح والمواقف والاجتهادات الفكرية والسياسية تفسر ما احتواه من مفارقات وتعارض وتعويم، خاصة عدم تدقيق بعض المفاهيم والمصطلحات.
وقد وعى الموقعون هذا المثلب وتركوا الباب مفتوحاً أمام الآخرين واجتهاداتهم وإمكانية مشاركتهم في إعادة صياغته بعد أن يأخذ حقه في الحوار والنقد ويمتحن في حيز الممارسة لبعض الوقت، ثم إن رفض المبادرين في إصدار هذه الوثيقة اعتبار أنفسهم هيئة قيادية واكتفائهم بدور لجنة تحضيرية مؤقتة دليل صحة ونوايا طيبة بأنهم ينأون عن الوصاية ويعتبرون أنفسهم جزءاً من كل وأن الجميع معني على قدم المساواة بإعادة صياغة التوافق وإنضاج الاصطفاف ووضع الخطط الملموسة وتالياً اختيار ما يمكن أن يعتبر قيادة ميدانية لإعلان دمشق.
وفي هذا الإهاب ينبغي القول إنه ما من خطاب سياسي توافقي إلا ويوجد عليه مآخذ ونقائص وعيوب، وينبغي إدراك أن الإعلان ليس نهاية المطاف ولا نصاً منزلاً, وهو قابل للنقد والتعديل حسب توافق مستجد بين الأطراف المختلفة، خاصة إذا نجحت أطرافه في تعزيز الروح الديمقراطية المشتركة ووثقت بالشعب واحتكمت إليه في تقرير صراعاتها واختلافاتها.
لقد اكتفى إعلان دمشق بعرض أنصاف حقائق في قراءته للعديد من المسائل ذات الطابع الإشكالي أو لنقل هرب عامداً من تحديد مواقف واضحة وقاطعة من قضايا خلافية اقتصادية أو سياسية، كمسألة الاقتصاد الحر أو المسألة القومية أو الدين، ربما كي ينجح بالمقابل في توحيد هذه الكوكبة المتنوعة المشارب من القوى والنشطاء السياسيين على مفهوم دولة المواطنة الحاضنة لبشر متساويين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم، وليبدو أشبه بمرآة أو قاسم مشترك يمكن أن يجد فيه كل طرف بعضاً منه.
خامساً، مع تنوع الملاحظات والانتقادات التي طالت “إعلان دمشق” وصحة بعضها، يبدو ضروريا تدقيق عدد من النقاط وتوضيح بعض الأفكار التي تضمنها.
إذ إن أهم ما صنعه ليس حجم الدعم والتأييد اللافت الذي حصده خلال زمن قياسي، وقد انضم إليه حتى الآن أحد عشر حزباً وتجمعاً سياسياً معارضاً وأكثر من مائة شخصية وطنية أو عاملة في الشأن العام، وإنما أيضاً الصورة التي أظهرها للعالم أجمع بأن سوريا ليست أمام خيارين لا ثالث لهما في حال انهيار النظام الراهن، وأن مصيرها لم يعد رهن الصراع بين طرفين، السلطة والخارج، بل ثمة قوة ثالثة تتأهب للحضور وتحاول أن تفرض نفسها معنوياً وسياسياً وميدانياً على الأرض.
لقد قصد الإعلان أيضا من حيث يدري أو لا يدري أن يطمئن الشارع السوري إلى أن القوى والفعاليات المعارضة على اختلاف فئاتها ومذاهبها وطوائفها وقومياتها ومشاربها الإيديولوجية قادرة على التوافق وعلى احترام تنوعها والاحتكام إلى قواعد العملية الديمقراطية السلمية وأنه يمكن الوثوق بها لتجنيب البلاد الاحتمالات الأسوأ كالصراع الأهلي والتفكك.
وهذا يقطع الطريق على عبارات التهويل من احتمال أن ينفرد طرف واحد بالسلطة أو التخويف بأن البديل هو التفكك والفوضى والحروب الأهلية أو السيطرة التامة للإسلام السياسي المتشدد!!.
أخيراً يمكن القول إنها المرة الأولى منذ عام 1968 التي يلتقي فيها هذا الطيف الواسع من المعارضة على برنامج ملموس وتفصيلي للتغيير الديمقراطي، صانعاً من إعلان دمشق علامة بارزة في الحراك السياسي السوري وحاملا واقعاً لتوحيد مهام المعارضة ممارستها لا يمكن بحال من الأحوال تجاهله أو القفز فوقه.
ولنقل إنه صار أشبه بمظلة عامة يمكن أن ينضوي تحتها كل من يرغب ويتطلع للتغير الديمقراطي في سوريا دون استئذان أحد، خاصة بعد فشل محاولات عدة وأكثر من دعوة لعقد مؤتمر وطني واسع يضم مختلف القوى والتعبيرات السياسية المعارضة.
والأهم أنه حرك المياه الراكدة وحفز الحوارات والسجالات وروح المشاركة والإبداع والمبادرة حول أفضل السبل لإنقاذ البلاد مما ينتظرها وللسير خطوات واضحة في طريق التغيير الديمقراطي المنشود.
ويمكن اعتبار ما طرحه رياض الترك مؤخراً واحدة من هذه المبادرات إلى جانب المشاريع والمقترحات التي عرضها بعض الشخصيات والجماعات السياسية الأخرى بغية تطوير “إعلان دمشق” صيغة وقوى وخططاً ملموسة.
ويبقى أنه طرداً مع استكمال النتائج الايجابية التي حصدها هذا الإعلان بخطوات جدية تقرن الأقوال بالأفعال، ينمو الأمل بمستقبل واعد للمعارضة السورية وتالياً بخلاص مشرف للبلاد مما يعترضها من مخاطر وأهوال!!

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى