صفحات العالمعماد عزوز

اليمين واليسار أوروبيا

null
عماد عزوز
في اليونان فاز الحزب الاشتراكي في الانتخابات الأخيرة ومنذ فترة فاز الحزب الديمقراطي المسيحي بقيادة ميركل وبأغلبية كبيرة في الانتخابات الألمانية. الأول هو ممثل اليسار والثاني هو ممثل اليمين. وبين اليمين واليسار هنا أو هناك تكاد الدول الأوروبية تتشابه في أنظمة حكمها لدرجة يصعب معرفة من يحكم في بلد ما اليمين أم اليسار بقدر صعوبة تقييم إن كان توني بليراو ساركوزي أو حتى ميركل مثلا اشتراكيا يساريا أم يمينيا محافظا.
يميل البعض إلى توصيفات تسهل كثيرا تعقيدات مثل هذه التوصيفات فتضع جميع هذه الدول ضمن خانة المعسكر الإمبريالي بما يعنيه ذلك أنها تتضمن صفة الرأسمالية بناءا على النظرية الماركسية اللينينية التي تعتبر أن الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية وذلك بغض النظر عن هذا الحزب أم ذاك يساريا كان أم يمينيا. هذا الميل يأتي وكأنه تطور واستمرار للموقف من هذه الدول التي تقاسمت احتلال واستعمار الدول الفقيرة فيما بينها قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى لتبدأ الانسحاب والتخلي عن هذه المستعمرات بعيد الحرب العالمية الثانية,الاستعمار الذي جاء على أرضية البحث عن أسواق جديدة لتصريف بضائعها وللحصول على المواد الأولية الرخيصة من الدول المستعمرة واستغلال الأيدي العاملة الرخيصة جدا بعد أن بدأت- أي الدول الاستعمارية – تمر بأزمات اقتصادية خانقة, هذه الدول التي دخلت على أبواب الحرب العالمية الثانية في أحلاف وتكتلات لمواجهة الخطر القادم من النازية الهتلرية في ألمانيا والفاشية الموس ولونية في إيطاليا وليضم تكتل ما عرف بالمحور العديد من الدول منها الإتحاد السوفياتي الشيوعي وأمريكا التي بدأت تصبح أقوى دولة رأسمالية في العالم وفرنسا وبريطانيا الدول الرأسمالية التقليدية.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الفاشية والنازية وتراجع فرنسا وبريطانيا عن مستعمراتها التي بدأت الحصول على استقلالها تباعا, مع هذه النهاية ستتغير سياسة التحالفات ولتقود الولايات المتحدة الأمريكية احد الأحلاف والذي سيعرف بـ(الغرب), ويقود الإتحاد السوفياتي الحلف الآخر والذي سيعرف بـ(الشرق) المتمثل بأوروبا الشرقية الشيوعية ولتبدأ معها الحرب الباردة.
هذه التحالفات ستستمر كذلك حتى سقوط الإتحاد السوفياتي وسقوط معه جدار برلين وانهيار ما سمي أوروبا الشرقية الذي سيؤدي ببعض دولها إلى تغيير اتجاه سياساتها والانضمام إلى الطرف الذي كان بالأمس القريب عدوا  والذي بدأ بتشكيل مايعرف ب( السوق الأوروبية الموحدة).ومنذ هذا العهد سيتحول العالم من سياسة القطبين إلى سياسة القطب الواحد.
الأحزاب الاشتراكية الأوروبية التي تشكلت والتي أعادت تشكيل سياساتها طوال الفترة بدت وكأنها بنت الواقع أكثر منه بنت الإرادوية لاقت العديد من الانتقادات بل دخلت في حروب سياسية وإيديولوجية مع الأحزاب الاشتراكية التي عرفت بالأممية الثالثة والتي تزعمها لينين الأمين العام للحزب الشيوعي الروسي وأول رئيس للإتحاد السوفياتي  حيث قامت هذه الأممية الثالثة باتهامها بالانتهازية والإصلاحية وضيق الأفق لأنها لم تقم بثورات لإسقاط أنظمتها الرأسمالية واتبعت سياسات إصلاحية.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية ودخول العالم تحت إطار الحرب الباردة  وجدت هذه الأحزاب نفسها في موقع  يصعب تحديد ملامحه فلاهي مع المعسكر الأمريكي ولا هي مع المعسكر السوفييتي ومع سقوط الإتحاد السوفياتي وانهيار معسكر أوروبا الشرقية وتحول العالم إلى معسكر القطب الواحد أخذت أوروبا ككل على حدة وكمجموعات منفصلة أيضا منهمكة في التفكير  وفق مصالح ستجمع بينها وذلك لإثبات وجودها ضمن التكتلات العالمية الجديدة. منذ هذه اللحظة سيصبح الهاجس شبه الوحيد لهذه المجموعة هو النظر للداخل للاهتمام بمواطنها, هذا الهاجس سيساعد على انسحابات وانتقالات لكل من اليمين واليسار بحيث يتضاءل الفرق بينهما مع الوقت وبحيث نشهد منذ هذه اللحظة ابتعادا عن الإيديولوجيات لصالح السياسة اليومية وابتعادا عن التفكير بالعالم الآخر بصفته موضوعا للتدخل المباشر لصالح الداخل الخاص بها وبمصالحها. وهذا الهاجس سيجعلها سوية تعيد التفكير بكل سياساتها مستفيدة من إرثها المرتبط بعصر النهضة لتخطئ نفسها في بعض الأحيان عما فعلته من أخطاء في الفترة السابقة, ولتعدل من العديد من مفاهيمها في أحيان أخرى لاسيما فيما يخص حقوق مواطنها وحقه في الحصول على حريته الفردية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى سواء من الناحية السلبية التي تؤدي إلى تحوله إلى فرد معزول عن الوسط المحيط به  أو من الناحية الإيجابية التي تؤدي إلى حصوله على ذلك الفضاء المهم المتعلق بممارسة إنسانيته بما يضمن كرامته  ويضمن حقوقه في الضمان الاجتماعي في مجال العمل والطبابة والسكن….الخ.
لو تمعنا في النقاشات الدائرة بين اليسار واليمين في أوروبا لوجدنا الجزء الأكبر منها يتعلق بتفاصيل الدخل والضريبة والميزانية وكيفية تقسيمها بين قطاعات المجتمع وتعتبر الفروقات في وجهات النظر بمثابة خلافات ترتبط مثلا فيما إذا ستكون الضريبة 31 ام 32 في المائة من الدخل او مثلا إذا سيكون راتب العاطل عن العمل 80 ام 70 في المائة من دخله  قبل أن يصبح عاطلا عن العمل. وعلى أهمية هذا الموضوع إلا أن هذا الهاجس تحول إلى الهم الوحيد والموضوع الأساسي للخلافات بينما ابتعدت تماما موضوعة المنبت الإيديولوجي وابتعدت أيضا ولو بدرجة أقل موضوعة السياسة الخارجية والتي أصبحت تشبه بعضها البعض لدرجة كبيرة بحيث أصبح هناك إجماع على الدور الكبير للأمم المتحدة وإجماع على تثبيت الاستقرار في العالم بعد تخفيف بؤر التوتر في العالم بما يضمن مصالحها ومصالح الجميع حتى لو أدى ذلك الى تغيير مواقفها مما كانت تراه في الأمس ممنوعات ومحرمات  ويشمل هذا الإجماع بدرجة متساوية اليمين واليسار.
إذا ثمة إنزياح من اليمين باتجاه اليسار ومن اليسار باتجاه اليمين وهذا لا ينطبق فقط على أوروبا وإنما على أجزاء كبيرة من العالم كما في اليابان وكندا والهند وجزء كبير من النمور الآسيوية. حتى في دولة مثل الصين المصنفة على أنها شيوعية هناك إجراءات مازالت حتى الآن تقتصر على الجانب الاقتصادي لكنها تصب في طريق هذا الانزياح.
يبقى السؤال هنا فيما إذا كان يشكل ذلك دحضا لنظرية ماركس أم أن ذلك تتويجا لنظريته لكن وفق آلية جديدة؟ وإذا كانت الإجابة لا تحتمل التبسيط ولا يمكن الإجابة عنها بنعم أم لا, إلا أنه من الواضح تماما أن النظرية الماركسية أصبحت بحاجة الى تعديل كبير وربما الى ما يشبه الانقلاب, لكن من الواضح أيضا أنه لو نظرنا الى ماركس والماركسية كما نظر إليهما جاك دريدا في كتابه أطياف ماركس حيث اعتبر أن ماركس الطيف موجود ويحوم حولنا. بهذا المعنى استفادت أوروبا من الماركسية كثيرا لكن بطريقتها الخاصة وبهذا المعنى أيضا نستطيع أن نقول أن أساسيات النظم الأوربية الداخلية هي تمثيل بشكل أو بآخر للماركسية أو هي إحدى نتائجها على الأقل. من هنا السؤال المهم: هل نعيد إحياء ماركس الطيف أم نكرس اعتباره

•        سوري مقيم في السويد
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى