صفحات الناس

بعد مصادرة كلّ شيء: حريّتنا الأخيرة في أن نتمسّك بقناعاتنا

null

مارسيل خليفة *‏

حين بكى الطفل وأراد أن تقطف له أمّه القمر… أتت بدلوِ الماء وصوّبته إلى السماء، مدّ الطفل يده إلى الماء فانكسر القمر. ضحك الطفل ثمّ نام».

صحيح أنّ الولد ضحك ثم نام. أمّا أنا، فبقيت ساهراً، ألملم تناثر القمر على وجه ذاكرة تموج كالماء الهارب من الولد، ليغطّي مساحات شاسعة من الزمن. يصبح ماء الدلو جدولاً، نهراً، بحراً، ضجيجاً، غناءً، رقصاً، سُكراً، عرساً، وجعاً، ناراً. تصهر كلّ ما قسا فيَّ وتحجّر وتعيده نقيّاً مثل قربانة أولى أو قبلة أولى. أصدقائي، علّني أجد معكم اليوم مقعداً للحنين على وقع تكريم الحركة الثقافية ـ أنطلياس. هل ما زلنا قادرين على الحنين؟ ورؤية المستقبل الغامض؟ (أحبه دائماً غامضاً!).

وأعود إليكم، أعود إلى ذاتي، أعود إلى مدينتي لأركب ما تفكّك في النفس والزمن، رغبة في التعبير عن فرح غامض، عن سعادة ما، وسط هذا الظلام الدامس، علّنا نستطيع أن نغيّر هذا العالم ونستبدل فوضاه: بالإيقاع والموسيقى والشعر والحب.

العودة إلى عمشيت

لقد قلبت المدن صفحة صفحة، ففي الموسيقى أيضاً غربة، وأعود لألتقيكم ولأعوّض عمّا أفتقده هناك في البعيد البعيد: «مطر أوّل على بيادر وحقول ضيعتي القريبة من هنا، لأسترجع العطر الطيّب للمطرة الأولى على الأرض العطشى ولأتذكّر أمجادي الأولى يوم بنيت ممالك على ضفاف السواقي في عمشيت وحَمَلَتْها الفصول إلى أسفل الأودية». وتلك الطائرة الورقية التي كانت تجذبني إلى الفضاءات الواسعة، وياما انتظرتُ هبوب الريح الغربي لأتلاعب بها. وكنت أخاف أن ترميني من علوّ شاهق وتتكسّر رقبتي من قلّة درايتي بقيادة الطائرات الورقية في تلك الهضاب الصغيرة حيث رائحة الحبق والصعتر والنعناع والتراب وحديث القصب المزروع على الحفافي ينبت «نايات» صادحة على بحّة «صبا» و«نهوند»…

وذلك الشاطئ الأزرق، أهرب إليه من الحرّ والدرس، مع القصبة الطويلة والسلّة الصغيرة، وقبعة «الفلّين» تغطي رأسي من لطعة شمس حارقة، أترقّب اهتزاز القصبة ولطالما أرهقتني الاهتزازات الكاذبة، وأثارت أعصابي. بعدها تروح أصابعي، تفْتِلُ برشاقة قطعة عجين صغيرة حول الصنّارة، لأقذف القصبة مجدّداً. أضغط بسبابة يدي اليمنى على الخيط وبصري يسبق الرصاصة إلى الموضع، هناك في الوسط على الصخرة الكبيرة قرب مغارة (البابور) حيث الفقاقيع البيضاء. أتذكر أيها الصبي كيف كنت ترافق فرقة «النَوَرْ» وتغني وترقص معهم حتى صباح الليل تُسلطن مع «بزق» سعيد النوري وتتحمّس لتلك النورية الساحرة ولرقصتها تخطف بصرك؟ وكان البزق يدندن لها، لكنها تختار إيقاعك، كما لو أنها ستقع بين يديك. جمال راقص يكمن في تكامله وجسد عابر مذهل بحسنه يتماوج أمامك. وكنت تصرخ بصوت عالٍ: آه تلو الآه.

«لو في جنّة الله ساحرة متلك لكنت صدّقته»

وذلك القبو العتيق تحت بيت جدك «يوسف»: تدخل وتدوس أرضيته اللماعة، السوداء، التي لبّدها شحم السنين. خيوط العنكبوت تغطي السقف وقد التصقت بها فراشات وحشرات أخرى. «درنبكة» في إحدى الزوايا المعتمة تنتظر قدومك.

يسمع جدّك الجلبة، ينزل إلى القبو مسرعاً ومغتبطاً، خطوة خطوة، نقرة نقرة، يعمّر أغنية. تنزل بعد حين جدتك «عفيفة» غاضبة وتفتعل خناقة مع جدك: «والزغر يا يوسف ما عاد يلبقلك لا الخلع ولا الغناني»… وكان جدّك الطيّب يبتسم لها. يروّض مزاجها الحاد. يدعوها للرقص فتمانع. وبعد غمرة حنونة تدخل في الأجواء المطربة. وظلّت جدتك عاتبة على جدك لأنه ترك كل شيء في عز فتوّته ولحق بالراقصة وردة العمشيتية إلى الإسكندرية. يلعب لجسدها الممشوق على طبلة مدوّية وناي منتصب.خليفة في إحدى حفلاته البيروتيّة في العام 2003 (أرشيف)خليفة في إحدى حفلاته البيروتيّة في العام 2003 (أرشيف)

جدّك لحق بوردة إلى مصر لتلهمه ولتضرم حماسته يتطلّع إلى عينيها العسليّتين فتتأجّج موّالاً وأنغاماً ورقصاً. يضرب الأرض بقدميه ويشيع الحبّ والدفء في القلوب عندما كان يترك آلاته ويشارك وردة رقصتها المدوّية على إيقاع طاولات السهّيرة.

كيف كان لجدك الصمود أمام اللون الأسمر والمشية الراقصة والجمال المتلوّي لفاتنة البلدة.

نعود أيها الصبي إلى ركن القبو حيث أكبّ جدك على شبّابته وراح يعزف بصوت خفيض وأنت ترافقه على «الدرنبكة» وفي تلك الوصلات البيتية كان جدك قد شاخ كثيراً وتهدّل حاجباه فوق عينيه.

ولم يعد باستطاعته النفخ لساعات فينهي الوصلة، بعد أن يعلّق شبّابته بمسمار مثبّت على الحائط بالقرب منه ليأتي عندها دور الفونوغراف العتيق الذي أكل الدهر عليه وشرب مع أسطوانات كبيرة وسميكة «بيضافون كومباني» الأستاذ محمد عبد الوهاب ـ يا جارة الوادي وتبدأ الخشّة ترافق مطرب الملوك والأمراء بمجرد وضع الإبرة على الأسطوانة ويستعيد جدك أيام زمان وينطرب ويسبّق على عبد الوهاب وبطبقة صوتية أعلى: لم أدرِ ما طيب العناق على الهوى حتى ترفّق ساعدي فطواكِ.

تنتهي الأغنية وجدك يسلطن على ـ لم أدرِ ـ تطيب له، حتى يبحّ صوته فتعود وتضع الإبرة من جديد لينسجم بنقرات العود المحبّبة لديه.

أتذكر أيها الصبي عندما دخل العود إلى البيت الصغير في حي «العربة»، كان عيداً حقيقياً يوم وصوله مع صديق والدك الذي كان يعمل سائقاً على طريق بيروت ـ دمشق، وبعدما انتظر الجميع «أنطون» أسبوعاً كاملاً ليعود من مشواره الطويل. وكاد والدك يفقد صبره بسبب تأخّره، وخصوصاً أنه دفع سلفاً ثمن العود.

لم يستفرد بك العود المجنون وإنما فتك بك وأفناك من شدّة الولع. وذلك الوتر الناعم الملمس كجسد المرأة الطالعة من لهفة الحب. أوتار مزدوجة، متجاورة، متدفّقة في العرض مثل المدرج الموسيقي. تتلاعب عليها من الجانبين بالريشة والأصابع. تجرحها، تداعبها، تحنّ عليها. تفترسها بشفير الريشة المسنونة المتحكّمة في لقاء الأوتار والأصابع تتوغّل بالريشة نحو الأعمق. أوتار من قصب وحرير تغور في الأعماق نقر على وتر النوى فيتبعه الصوت ويتبعه الصدى والعود في رهافة وسطوة يتقدّم. رنّة ذائبة في نقرة تخرج من داخل واحد إلى دواخل لا تُحصى، والعود الملتهب العاشق تختلط فيه حدود النقرة مع حدود النغمة.

وكنت تتساءل: كيف تسنّى لتلك الغابات أن تنبت كل هذه الأشجار وتصبح مخلوقات فاتنة كالعود.

أتذكر كيف كنت تقف بقامتك الصغيرة قرب حافة الدرج المؤدي لبيت كريستوف كرم لترى الأخوين رحباني في زيارتهما السنوية لذلك البيت العمشيتي الذي يشبه المعبد. تتهامس ورفاقك الصغار عندما تلمح وجهاً من وجوه هؤلاء المدعوين: عاصي، منصور. كنت تحاول أن تحييهما متهيّباً، إذ إنك كنت شغوفاً بحبات النغم وتعرف أيضاً مقام الرجلين.

ومرّة عزفت أمامهما بعدما تلقّيت دعوة من صاحب البيت. وعندما دخلت تفركشت بالسجادة في وسط الدار. ونجوت من سقطة ملعونة كانت ستقضي عليك وعلى العود. احمرَّ وجهك خجلاً، تمالكتَ نفسكَ وعزفتَ أمامهما وأنت ترتعش ومضيت مسرعاً إلى وجه أمك لتراه مشرقاً يحرّضك على أجوبة لأسئلة كنت تقرأها في عيون ماتيلدا تخبرها عن إطلالة منصور وابتسامة عاصي وتخبرها عن تهيّبك أمامهما. فتذكّرك بأن لك موعداً مع أستاذك فريد غصن في المعهد الموسيقي.

رحلت أمك في ريعان شبابها (أحنّ إلى أمي وخبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي). ماتيلدا كانت قصيدة جميلة.

أتذكر ملامح ذلك المراهق في بداية عشرينياته يصغي بشغف إلى رجل نحيل، رياضي، واثق بنفسه يتكلم بحرارة لا توصف عن عمل موسيقي راقص يعدّه لفرقته الناشئة آنذاك. كان هذا الصبي شديد الحماسة ليقينية هذا الرجل بضرورة عمل شيء جديد في موسيقى الجسد. ومع قلق الرجل بعدم معرفة قدرة الصبي على تحقيق الفكرة، إلّا أنه سارع إلى الاقتناع به بعدما حقّق في وقت قصير لوحة موسيقية كاملة.

وتعالت الموسيقى في 13 نيسان لسنة 1975 في مسرح قصر الأونيسكو بيروت موقّعة باسمك الفني ـ الناشئ ـ لعجايب الغرايب لفرقة كركلا، لكن لم يكتمل الفرح مع تلك الليلة. وكانت بيروت قد دخلت في الظلام. وأصيبت الراقصة الأولى أميرة ماجد برصاصة اخترقت ظهرها وأقعدتها مدى الحياة.

أما زلتَ تذكر نظرة حنان ميشال والدك كيف بدت جليّة وواضحة؟ نظرة سرقها وأنت تهم بالرحيل. تطلعت خلالها عيناه صوبك، إذ كنت على سفر وهروب من المنطقة الشرقية في بداية الأحداث. بدا يومها ميشال هادئاً وديعاً. لكنه كان يخفي قلقاً على المصير من حرب ضروس تأكل الأخضر واليابس.

لم تعرف وجه ميشال بهذا الحزن العميق، وخاصة عندما دمعت عيناه وتموّجت نظراته. غبت وظلَّ معلّقاً في اتجاهك. يومها لم تتطلّع إلى الخلف رغبة في الهروب ممّا لا يمكن إدراكه واستيعابه من هذا البعد القسري الفاضح.

وفي صباح باكر من شهر آب لسنة 1976 سجّلت «وعود من العاصفة» مع شركة الغناء في العالم بباريس وصدرت أسطوانتك الأولى وأوّل تظاهرة لهذا العمل كانت على خشبة الجناح اللبناني في أوائل أيلول 1976، وفي احتفالات جريدة «الإنسانية» الفرنسية بالقرب من بسطة للحمص والفول والفلافل. لم تكن منذ البداية لا الصورة ولا الإيقاع ولا الجملة ولا القصيدة ولا الأدوات ذاتها ولا المفاهيم ذاتها.

لم تكن لديك رغبة في معرفة المستقبل بالوضوح الحديدي الذي تسلّح به السابقون.

إنه وضوح يضاهي قيداً لا يرحم. وكان من حقّ الآخرين المحافظين أن يسمّوا هذا خراباً، فربما حلا لك ذلك ولم يستطع أحد منعك أو ثنيك عن فعلتك.

بدايات غامضة لتشير إلى ذهاب نحو مستقبل أكثر غموضاً، مستقبل لا يزعم الثبات ولا يتطلّبه.

تكريم للوطن

أصدقائي، أحسب أن هذا التكريم الذي أحظى به منكم تكريم للبنان الوطن، لبنان الإنسان والحرية والثقافة والإبداع والجمال. أنا، في النهاية، سليل هذه التربة والماء والهواء، وابن هذه المعاني كلّها التي تشرّبتها منذ الطفولة وانتهلتُ من ينابيعها وصقلت وجداني.

لقد علّمني وطني أن أدافع عنه: ضدّ العدوان الأجنبي، وضد الفساد والاستغلال وقمع الحريات. وحاولتُ أن أكرّس فني لهذه القيم والأهداف ولم أبرح سلوك هذا السبيل حتى اليوم على الرغم من أن التجذيف الصعب ضد تيار اليأس والفساد والقذارة بات ضرباً من الممتنع أو يكاد في هذا الزمن المحروس من الأمل.

أنا سليل هذه المعاني كلّها، لكني اليوم حزين أيها الأصدقاء. فأنا أراها الآن تتهاوى تحت معاول هدم جماعي يأتيه من تناقص منسوب لبنان في أنفسهم، أو من أخذتهم مصالح القبيلة والعشيرة والطائفة والعائلة بعيداً عن الوطن. وليتها أخذتهم عنه فحسب لكان الأمر هان حينها وصغر، لكنهم ـ بكل مفردات الأسف ـ يأخذون الوطن معهم إلى حتفه كأنه ليس لهم، كأنهم ليسوا منه! كانوا دائماً مختلفين (حتى حينما يتعرّض الوطن للخطر!) وكان يسعهم أن يظلوا على سجيّتهم مختلفين إلى ما شاء الله.

لكنهم لا يملكون أن يغرّموا شعباً بأكمله بخلافهم ولا أن يدقوا الأسافين بين أبنائه، فيمارسون الضغط على تماسكه الوطني نيابةً عن غيرهم حتى إن لم يدركوا أنهم يفعلون ذلك.

أنا غاضب أيها الأصدقاء، إذ أرى وطناً يتمزَّق وشعباً يستنفر بعضه ضدّ بعض وساسة يتلهّون بلعبة الانقسام وقيماً نبيلة تُداس وعذاباً إنسانياً يتضاعف وشقاءً اجتماعياً يلد اليأس، ومبادئ تُباع وتشترى وألسنة تؤجّر نفسها للسلطة والمال، وثقافة تذوي، وفنّاً تعبث به يد القذارة وهواءً يتلوّث وأفقاً ينسدّ ويدلهمّ. ليس هذا اللبنان لبناننا، ليس الوطن الذي ضحّى من أجله الشهداء واليتامى والأرامل، ولا الثقافة التي انعقدت لها الإمارة في بلاد العرب أجمعين. إنه شبح مخيف وكابوس مزعج ينخر الذاكرة ويمسح ما تبطّن فيها. أنا غاضب أيها الأصدقاء فهلّا شاركتموني غضبي عسى صوت الاحتجاج يرتفع أعلى فأعلى

أنا اللبناني العربي

ثم إني أحسب هذا التكريم تكريماً للثقافة العربية وأنا من معين هذه الثقافة نهلت وفي رحابها نشأت. فأنا اللبناني العربي لست أستطيع أن أخرج من أفقي العربي حتى لو أردتُ فكيف إذا لم أكن أريد. وأنا لا أريد أيها الأصدقاء، وإلّا خُنتُ رسالتي الفنية، وبادلت المحبة والاحتضان بالصدّ والخذلان، وحرمت لبنانيتي أن تكتمل مدىً ومعنىً بأفقها العربي الرحب. ومنذ بدأت رحلتي الفنية، وكان ذلك قبل ثلث قرن، لم أكن جاهزاً لكي أصطنع الفواصل والمسافات بين لبنانيّتي وعروبتي. وكما أخذت لبنانيّتي من تاريخ هذا البلد ومن ثقافته وشعبه، لا من نظام أو مؤسّسة كذلك ما أتتني عروبتي من نظام أو مؤسّسة وإنما من تاريخ أمّة، وتراث، وإنسان، وحضارة، وثقافة، ولغة نحن منها جميعاً.

وها إن الحزن والغضب يعتصران قلبي (وأحسب أنهما يعتصران قلوبكم جميعاً) وأنا أعاين هذا القدر الفظيع من العدوان البربري على كرامة وآدميّة الفلسطينيين في غزة، وعلى كرامة وآدميّة العراقي في بغداد والموصل، وعلى العربي في أن يكون إنساناً، مجرّد إنسان! إن الذي يسفك دماء الأطفال والنساء في جباليا وخان يونس وبيت حانون وديالى وبعقوبة وبغداد وسامراء والبصرة هو نفسه الذي سفك دماء أطفالنا ونسائنا وشيوخنا في قانا وعرسال وصور والضاحية وبنت جبيل وعيتا الشعب والخيام وعيناتا. القاتل هو نفسه، وأداة القتل هي نفسها. مَن ذا الذي يفرّق إذن، بين هذا الوطن الصغير وبين ذاك الوطن الكبير؟ وحّدنا التاريخ والحضارة والثقافة واللغة، وقسّمتنا السياسة، وها هو الدم المسفوك اليوم يوحّدنا ثانيةً، فليدعونا نتوحّد في هذا الألم عسانا نشعر بجمعنا العصيّ على الانقسام، وليدعونا نغضب ونصرخ ونستنهض الهمم ونستصرخ الضمائر الحية في وجه هذه الجريمة.

لنتحرّر من سلطة النظام والعشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والمؤسّسة الدينية.

ولنتحاور بصدق وعمق عن عجز المسؤولين وتسلّط المسؤولين وتكاذب المسؤولين والهدر الكبير لطاقات الناس «المنوّمة» والمخصيّة القدراتِ الذهنيّة والعلمية. وربما يقودنا هذا الحوار الصريح إلى اكتشاف طرقنا السليمة إلى الحرية والديموقراطية فنصل إليها بمبادرة ذاتية ونقطع على المحتلّين سجلّ الادّعاء بأنهم قادمون لهدايتنا وإيصالنا إلى الطريق الصحيح، ولو بواسطة الصواريخ والمدافع والقمع والقتل والتشرّد والتدمير المقصود لثقافتنا وتراثنا وذاكرتنا وأرضنا ورجالنا ونسائنا.

لقد يئسنا الهزائم المبثوثة في مشاريع الشعارات ومبتكرات القمع. يئسنا من سلطة لا أمل فيها ومن معارضة تغدر بالأمل. يئسنا من أحزاب ترى في المستقبل نوعاً من التأسيس على ماضٍ مهترئ وحاضر ينهار.

يئسنا من اليأس والأمل معاً.

ليس في البال سوى فعل الهدم الجميل الذي انتظره الوقت والمكان منذ طفولة الأشياء.

ولم يبقَ لنا سوى البوح العميق لندافع عن أنفسنا. لأن القيم الإنسانية الكبرى لا تشيخ فلن تكون الحرية والعدالة والكرامة أشياء بالية كما يبشّرنا النظام العالمي الجديد الموغل في القدم.

ولن نرضى بأن يحوّلنا إلى جموع خائرة مستنفدة، ذليلة، تتمرّغ باليأس وتفاهات التلفزيونات الملوّنة والاستهلاك الرخيص والطائفية والتعصب.

إن حريتنا الأخيرة في أن نتمسك بقناعاتنا بعد مصادرة كل شيء بلا استثناء. لنصون شعلة المبادئ ولنأمل بصباحٍ جديد لربيع لا ييأس ولنسأل باستمرار عن حصتنا من الحرية والسلام.

لا نريد جواباً لأننا لا نريد مزيداً من العذاب… ولا مزيداً من الغربة… ولا مزيداً من الشهداء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى