صفحات العالمما يحدث في لبنان

مرثية جميل السيّد للنظام اللبناني

نصري الصايغ
I من يكون جميل السيد؟
غرفة المطالعة، يقيم فيها الصمت إلى جانب الكتاب. كنت منصرفا إلى قراءة كتاب في مكتبة «الكوليج بروتستانت» عندما تقدمت مني تلميذة، وقالت بصوت خفيض:
ـ جميل السيد يكون «البابا».
كانت واقفة إلى يميني، وكنت جالسا، نظرت إليها فوجدت على شفتيها ابتسامة غريبة، وفي عينيها دمعتان توشكان على النطق.
أكملت: «برأيك يا أستاذ، متى سيخرج البابا من السجن»؟ وتوقف كلامها عند السؤال. ولأول مرة لا أنهر فتاة بكت. من عادتي أن أصرف بعنف أي فتاة تتسلح بدموعها.
أجلستها بقربي، وأسمعتها كلاماً مبهماً لم تسمعه. كانت تريد أن تشكو لي، قلت: «ربما دخل بالسياسة، وسيخرج بالسياسة».
لم تحدثني عن براءة «البابا». قالت كلاما ودمعا سريا. وطوال عام ونيف، صرت أتحاشى لقاءها، كي لا تخاطبني بعينيها، لكن كنت أرغب بأن لا تكون الضحية. ما كنت قادرا على الجزم، في البراءة ولا في الارتكاب. كنت أكتم قناعتي بالقاتل، أو ظني وتخميني، منتظرا القضاء أن ينوب عن ظنوني، ويبت في الارتكاب أو البراءة.
II جميل السيد وأصابع الله
لم أسرد هذه الحادثة لاستدرار العطف على أحد. أكره الضعفاء واستدرار الإحسان والشفاعة والضراعة والتوسل. كنت فقط، أستذكر هذا المشهد، عندما استمعت ظهر أمس، إلى رثائية جميل السيد.
نعم: كان كلامه رثاء. لغيري أن يرى فيه اتهاما، أو اعتداء أو تصفية حساب. من حق جميل السيد أن يشن حملة على من ارتكب بحقه وحق زملائه الضباط جريمة اعتقال تعسفي دام لما يقارب السنوات الأربع. من حقه أن يسمي ويدعي ويصرخ بصوت منفعل. من حقه أن يدافع عن براءته حتى لا يمل. ولكنه، في تعداد «مرتكبي» اعتقاله، عدد أسماء شاركت في الفعل، وصلت إلى حدود تسمية نائب ورئيس وزراء، وأربعة قضاة، وضابطين كبيرين، إلى جانب عدد من الإعلاميين والمستشارين، من دون أن يوفر المحكمة الدولية ومن تولى مسؤولية التحقيق فيها.
من حقه، وهو الخارج من القهر، أن ينتقم على الأقل باللهجة، بعنف الكلام، بقوة الصوت، بوثائق يمتلكها، ليجعل من قضيته، قضية قابلة لإعادة الحساب القضائي. اذ، لا يجوز، في رأيه، أن تكون أصابع الله (القضاء والأمن) ملوّثة وعفنة وقذرة. إلا أنني وجدت في «مؤتمره الصحافي» مرثاة طويلة.
III مراثي إرميا… والهيكل اللبناني
لم تعد الطريق سالكة، لمعرفة من قتل الحريري؟
فلنعلن الرثاء عليه مرة أخرى.
جميل السيد، سمى الأسماء، ولم يسمِّ النظام. فالذي اعتقل السيد، ليس مجرد أشخاص، بل هو النظام، اللانظام فيه.
«المتهم يا سيد جميل، ليس أشخاصا بذواتهم، بل نظام سياسي، يكبد الحق حضوره، يلغيه ويغنيه ويتهمه. النظام اللبناني، وقد كنت فيه ركنا، هو المسؤول. لأنه لا يحمي بريئا، بل يحمي مرتكبين، (جمع مذكر سالم غير سليم). لا يحمي قادة، بل يحمي قتلة قيادات، ويجيّر التهمة وفق الرغبات والمصالح. نظام سياسي، يتكئ على مرجعية «الزعبرة الدائمة» و«الاغتياب المستمر» و«الانتهاك المسموح» و«الدجل السائد» و«المافيات الحاكمة» و«القبائل المستحدثة» و«العائليات المتناسلة على زنى».
هذا النظام السياسي، الذي بوّأ على سدته، قتلة ومجرمين وسارقين وأمراء حرب وزعماء ميلشيات، وفي رقابهم وعلى أيديهم، دماء آباء وأبناء وأمهات وأطفال لبنانيين، من كل الطوائف، وفلسطينيين من كل المنافي.
سمعت مؤتمره الصحافي، وقلت: من سيسمعك ليقيم ميزان العدالة؟
لا أحد.
الموالاة وسعد الحريري ومن اتهمت من مساعديه، سيشنون هجوما مواربا. القضاء، قد يصدر بيانا يحتاج إلى تفسير بسبب ميوعة مفرداته. السياسيون، سيتناولون أمورا شتى… أما المعارضة، فلا خيل تهديها ولا مال: هي أكثرية بصيغة أقلية، إلا قليلا كما الأكثرية، هي أقلية بصيغة أكثرية. انهما يتشابهان داخل النظام، ولو كانا مختلفين سياسيا واجتماعيا وفقهيا.
لغتهم داخل النظام واحدة. برغم ألسنة بابل السياسية الطائفية.
جميل السيد، قدّم حجة جديدة على الموت السياسي، وعلى ان لبنان مرجعيته الدائمة، هي الانقلاب على الذات بواسطة الآخر.
«لن يسمعك أحد. ولن يستجيب إلى ندائك أحد. خاطب الشعب اللبناني… ما لجسم بميت إيلام؟ لذلك، بكل أسف، غداً ستبقى وحدك».
IV جميل السيد، وحيداً وليس مفرداً
اننا نعيش في عالم بلا أخلاق. ولبنان يعيش على عكازات نظام بلا قيم. والبراهين كثيرة:
} عندما قام انطون سعاده، زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، بثورته في العام 1949، قام رئيس الجمهورية السورية آنذاك، حسني الزعيم بتسليمه إلى الحكومة اللبنانية.
اقتيد سعاده من الحدود اللبنانية بسرعة، وأدخل قاعة المحكمة وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم في أقل من ثمان وأربعين ساعة.
طلب المحامي اميل اده، وقتا، لساعات، لدراسة الملف. لم يعط. تدخل كمال جنبلاط ليلا، وعلى وجه السرعة. وعدوه ولم يفوا بالوعد.
كان سعاده وحيدا وحيدا وحيدا. أمنوا له فقط من يعرفه. حضر الكاهن وأعطاه المغفرة. طلب أن يرى زوجته وبناته الثلاث… رفضوا. طلب قلماً ليكتب رفضوا.
كان وحيدا. ولما أعدم. كان أمام ثلة من الجنود، وكاهن يصلي، ورمل يتدثر قدميه. وأسفرت المفاوضات، بين أجهزة القضاء، على انتقاء متهمين لإعدامهم وفق المحاصصة الطائفية. فنالت كل طائفة حصة من الإعدام.
عندما يفسد القضاء… ينتهك النظام برمته.
} كانت بيروت وحدها عندما اجتاحها جحافل هولاكو، بقيادة ارييل شارون. حوصرت حتى الرغيف الأخير، والضمادة الأخيرة. كانت وحيدة، فيما العواصم الأخرى منصرفة إلى «المونديال». تراقب كرة القدم، وتتحمس للبرازيل أو ألمانيا. بثقة وجدارة كانت الجماهير العربية إما ألمانية أو برازيلية ولم تكن بيروتية أبدا. الحكام الدوليون كانوا منصفين. الحكام العرب كانوا مع السكين. ساقوا المدينة إلى الذبح ولم تخرج إلى «بؤسها المسالم»، إلا بعد مجزرة صبرا وشاتيلا.
} ووحيدا كان السيد حسن نصر الله، في قيادته للمقاومة في عدوان تموز، ووحيدة وحيدة كانت المقاومة. ووحيدا جدا كان لبنان… ولكم نزفت دماء، ولكم صبراً صبر على الإخوة. ووحيدة وحيدة، كانت غزة، بانتظار أن يسمح لها بالتنفس قليلا وهي تموت، عبر معبر رفح. وحيدة كانت، وبات من هو مرشح لمساعدتها، متهماً في مصر، كمخرب للأمن القومي.
انه عالم مصاب بالكوما الأخلاقي. عالم، دينه مقيم في خنجره، وربه في جيبه ونفطه.
} هل يتذكر اللبنانيون، ان نظام قيمهم انتقائي واستنسابي، فالصح هنا خطأ هناك. والحرية هنا فوضى هناك. لنسرد ما يلي:
ـ أمام وزارة العدل في بيروت، جرى اعتقال طلاب عونيين وقواتيين مسيحيين. استنكر الاعتداء والاعتقال قيادات مسيحية. سكتت قيادات ومنابر إسلامية.
ـ جرت مظاهرة في دار الإفتاء، لرفع الظلم والتعذيب عن المعتقلين من الإسلاميين في أحداث الضنية. استنكرت القيادات السنية، وسكتت القيادات الشيعية والمسيحية.
ـ جرى قمع تظاهرة في مار مخايل، سقط فيها متظاهرون شيعة. غضبت قيادات شيعية وصمت الآخرون.
هذا هو لبنان. وهذا هو العالم الذي لا يفهم لغة القيم. لا يعرف أن الإنسان بشر، لا يريد أن يعي. النظام الدولي مهترئ قيميا. النظام الرسمي العربي، كامل الاهتراء، أما النظام اللبناني، فلا يلزمه إلا أن تلعن الساعة التي… فيها.
V نظام الحساب الممتنع
عندما تعيش الشعوب، خارج منطق الحساب، يصبح الاستنساب هو القاعدة. وحجة الأقوى هي الفضلى (لافونتين). فمع حضارة العولمة، بات العالم غابة متشابكة من المصالح والمانيوزية، والشركات العابرة للأديان والقيم والعادات والثقافات، على أن دول القيادة في مراكز العولمة احتفظت لنفسها ببعض قواعد المحاسبة، وفق ما تعتمده من أنظمة ديموقراطية، ووفق القوى المسيطرة فيه، عبر انتخابات تلعب فيه الثروة، لعبة الورقة الرابحة.
نظام المحاسبة عندهم ظل ساري المفعول. وهو يخيف الرؤساء، كما القضاة، كما السياسيين. وكم مرة شهد العالم، اعتقالات لسياسيين، وملاحقات لقادة، وانتحارا لرؤساء مرتكبين (فرنسا تحوز نصب السباق، أما إيطاليا، فتتفوق عليها في عدد الدعاوى المنشأة).
نظام المحاسبة خارج دول القرار الدولي، وقادة العولمة، هو نظام استنسابي واستبدادي. لذلك، لم يصر الى محاسبة الاستعمار الفرنسي في الجزائر. ورفضت باريس الاعتراف بما ارتكبته، وادعت أنها كانت عامل حضارة. ولم تعتذر باريس مما ارتكبته بحق سوريا، قصفا وتدميرا، ولا قبلت أن توجه اليها تهمة تدشين خطف الطائرات، لأن فرنسا، قامت بأوائل عمليات الخطف للطائرات، ولم تعترف بجريمتها، عندما فجرت سيارة ملغومة قرب مسجد في القاهرة، لقتل أحمد بن بللا.
ونظام المحاسبة لم يطل جورج بوش، وقبله ريغان، وسواهما من القادة الأميركيين، الذين ارتكبوا مجازر تفوقت على ما أقدم عليه تيمولنك وهولاكو وهتلر.
ونظام المحاسبة، يمتنع كليا عن ملاحقة القادة الاسرائيليين، مرتكبي المجازر. لعل نظام المكافأة هو السائد حيث اختص شيمون بيريز، قاتل أطفال قانا، بجائزة نوبل للسلام، عبر مفعول سبقي.
VI إلى جميل السيد وسواه أيضاً
لن يدافع عنك أحد. لأنك لا تملك القوة. كل حق لا تسنده قوة، إلى زوال. دولتنا لا حول ولا قوة لها وفيها. كل القوة، رهينة الطائفية. لذا، على من تتلو مزاميرك؟
لعل القضاء الفرنسي، يستجيب لصلاتك ودعاويك. وإذا كان للقضاء اللبناني الراهن ان يستجيب، فسيقوم بعمل يستقيم مع اصطفائيته. فقد يصدر مذكرة توقيف بحقك، بسبب تهجمك على مراجع قضائية. وإذا فعل… فقد يذهب لبنان إلى ما لا تحمد عقباه…
توازن القوى الطوائفي الراهن، يلزمك بالبقاء في المنزلتين لا بينهما. فالعجز اللبناني في أوج حضيضه.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى