الدور التركي في المنطقةمحمد سيد رصاص

لمــاذا يُتهم اردوغــان بــــ”الأمــركـــة”؟

محمد سيد رصاص
كان انتهاء نظام الثنائية القطبية، بين خريفي 1989 و1991، مؤدياً إلى وضع ثلاث مناطق متداخلة من العالم (البلقان، القوقاز – آسيا الوسطى، الشرق الأوسط) في أوضاع من الإضطراب أوالفراغ، إذا لم يكن كليهما معاً.
عملياً، كانت هذه المناطق الثلاث بؤر التوتر العالمي الرئيسة خلال العقدين الماضيين، أو أنها شكّلت نقط التركيز الرئيسة عند القطب الواحد للعالم بسبب طموحات قوى اقليمية لملء الفراغ أو لإستغلال الإضطراب (عراق 2 آب 1990 – صربيا بين محطتي سراييفو وكوسوفو- ايران ما بعد 2005) أو لكون مصادر واحتياطات الطاقة العالمية متركزة في المنطقتين الثالثة والثانية.
إذا نظرنا إلى الخريطة، نجد أن تركيا هي نقطة الإلتقاء الوحيدة لهذه المناطق الثلاث: تلتقي مع البلقان ليس فقط من خلال الجغرافيا، وإنما عبر ماضٍ عثماني يربط الأتراك، برباط التاريخ المشترك والدين، مع الألبان والبوسنيين المسلمين، لتقود استقطابات تسعينات القرن الماضي وصراعاته إلى وضع أنقرة في صف واشنطن في وجه صربيا المتحالفة مع العدو التقليدي للأتراك ممثلاً بأثينا التي وجدت نفسها (رغم عضويتها أيضاً في الحلف الأطلسي) ليس فقط ضد حلفاء الأتراك البلقانيين وإنما مع أعدائهم الصرب الأرثوذكس وداعميهم المسكوب المستعيدين ارثوذكسيتهم وسلافيتهم في مرحلة مابعد السوفيات، فيما تتلاقى تركيا مع المنطقة الثانية عبر طموح، عبّر عنه تورغوت أوزال قبل قليل من وفاته في عام 1993، لإقامة “عالم تركي يمتد من بحر إيجة إلى الحدود الصينية”، بينما نجد أن “الجنوب” كان دائماً قبلة اسطنبول منذ أيام السلطان سليم الأول ( 1512-1520) ولو مع  فاصل غربي بدأته أنقرة مع أتاتورك حتى انتهى ذلك عملياً مع أوزال قبل أن يتكرس “التوجه الجنوبي” في سياسة ذات قوام استراتيجي مع أردوغان إثر انسداد باب الجماعة الأوروبية أمام الأتراك أواخر التسعينات.
في هذا الصدد، يمكن تسجيل حيثيات عديدة: عدم تشجيع واشنطن انضمام تركيا إلى الجماعة الأوروبية ورضاها الخفي عن انسداد الباب الغربي أمام الأتراك. تلاقي الأميركيين مع تركيا في سياسات عامة في البلقان عبر محطتي حرب البوسنة (1992-1995) وحرب كوسوفو (1999)، وأيضاً في القوقاز – آسيا الوسطى من أجل ملء الفراغ السوفياتي، أو لمنع التمدد الإيراني إلى هناك، ثم لتشكيل حاجز تركي أمام تمدد موسكو ومحاولتها العودة الى مناطقها السابقة بعد الإستيقاظ النسبي للقوة الروسية في عهد بوتين، هذا فيما نجد ذلك الإتجاه الأميركي إلى تعويم الدور التركي في المنطقة الممتدة بين كابول وغزة بدءاً من عام2007 إثر اقتراب “المشروع الأميركي”، المار عبر بوابة بغداد2003، من التعثر والفشل، بعكس ما كان جارياً أثناء غزو العراق واحتلاله لما حاولت واشنطن “إعادة صوغ المنطقة” بيديها فقط، متجاهلةً أنقرة والرياض والقاهرة وحتى تل أبيب.
هنا، يمكن القول إن أردوغان يلعب في منطقة الشرق الأوسط دور المقاول الطارىء عند صاحب مشروع اصطدم بحائط العقبات والعثرات، فيماهو شريك فاعل للأميركيين في القوقاز- آسيا الوسطى، وفي البلقان، حيث تأتي هذه الشراكة من المصلحة المشتركة لكل من واشنطن وأنقرة في الحدّ من نفوذ الغرب الأوروبي (وأيضاً موسكو) في البلقان، حيث كانت أحد عناوين ذلك في الشهر الأخير من عام 1995 هو “اتفاقية دايتون” لإنهاء نزاع البوسنة الأوروبية في أرض أميركية وفي قاعدة عسكرية وليس في أرض أوروبية بعد افشال أميركي لخطة ديفيد أوين – سايروس فانس (التي مثلَت الجماعة الأوروبية والأمم المتحدة) بين عامي 1993 و1994. هذا فيما هناك، في القوقاز – آسيا الوسطى، شراكة أنابيب الغاز والنفط الآتية من هناك عبر المعبر التركي لمصلحة شركات أميركية، وأيضاً المصالح المتلاقية بين أنقرة وواشنطن في انشاء “عالم تركي” يشكل حاجزاً فاصلاً بين بيجينغ وموسكو، وبين الأخيرة وطهران (والمياه الدافئة)، ويمكن اللعب من خلاله لمصلحتهما ضد هذه العواصم الثلاث (جمهورية أذربيجان – الإيغور- اقليم أذربيجان الايراني)، بينما في الحالة الشرق الأوسطية تأتي المقاولة التركية الطارئة من الحاجة الأميركية إلى قطب اقليمي يواجه التمددات الايرانية في عموم المنطقة (الواصلة أخيراً حتى صعدة) بعدما قويت طهران كثيراً منذ سقوط صدام حسين، وبالذات بعد فشل “الإعتدال العربي” في أن يقوم بذلك ضد الايرانيين كما كانت تأمل الوزيرة كوندوليزا رايس أثناء نحتها مصطلح “معتدلين ضد متطرفين” إبان زيارتها للمنطقة في خريف عام 2006، وبسبب عدم قدرة اسرائيل على القيام بهذه المقاولة ضد طهران بخلاف ما فعلته ضد عبد الناصر في حرب حزيران 1967 لمصلحة واشنطن، أو ضد المفاعل النووي العراقي في  حزيران 1981 ليكسب بيغن من خلال هذه المقاولة اتفاقاً سرياً مع الرئيس ريغان (كشفت عنه في السنوات الأخيرة وسائل اعلام أميركية) بتكريس الأحادية النووية الإسرائيلية في المنطقة الممتدة بين اسلام آباد والرباط .
هذا لا يعني انه ليس هناك مصالح تركية خاصة في سياسة أردوغان الملتفتة نحو “الجنوب”، وبالذات عند رجال الأعمال الأتراك ومجموع الطبقة الوسطى الجديدة، الذين يشكلون الحاضنة الاقتصادية – الاجتماعية لحزب العدالة والتنمية والذين معظمهم آتٍ من مدن اقليم الأناضول (وليس من المدن الثلاث الكبرى) ويحملون ميولاً اسلامية ممزوجة بنزعات عملية بورجوازية، وهم يشعرون بحكم الإيديولوجيا (بعكس علمانيي أنقرة وإزمير) وبحكم الجوار الجغرافي بأن الجنوب (وليس الغرب الأوروبي) هو “المجال الحيوي” للصناعي والتاجر ورجل الأعمال التركي، فيما هناك أيضاً مصالح جيو – سياسية لتركيا في احتواء واضعاف القوة الاقليمية الايرانية المتنامية، مع حسابات بأن هذه المقاولة التركية، لمصلحة الأميركي المتعثر بين كابول وشرق المتوسط، هي التي تتيح المجال لأنقرة ليس فقط لتحجيم القوة الكردية في ديار بكر وإنما أيضاً في أربيل وكركوك.
عندما يختلط المرء بتيارات سياسية تركية (كما حصل لكاتب هذه السطور أثناء مشاركته في ندوة عقدت بإحدى جامعات اسطنبول في حزيران 2007 حول “السياسة الأميركية في الشرق الأوسط”) يفاجأ بإتهامات “الأمركة” التي يوصف بها أردوغان والإسلاميون الأتراك من قبل اليساريين الماركسيين الأتراك والعلمانيين الأتاتوركيين معاً، بخلاف ما هو عليه الآن موقع اسلاميي العالم العربي. هل تعني التلاقيات الأميركية – التركية الراهنة أيضاً، إضافة الى ما سبق، أن أردوغان سيكون “نموذجاً اسلامياً” أميركياً  ستقوم واشنطن بتسويقه كبديل ليس فقط من ابن لادن أو نماذج سلفية وإخوانية عربية راهنة أو ماضية، وإنما كبديل أيضاً من العديد ممن هم في الحكم من الأنظمة العربية القريبة لواشنطن؟ كما كان أردوغان بديلاً من العسكر والأتاتوركيين الذين كانوا أقرب لواشنطن من غيرهم داخل الطيف السياسي التركي أثناء أيام الحرب الباردة، وخاصة بعد أن أثبتت محطات ماضية قريبة مفصلية أن أوضاع بعض تلك الأنظمة لم تكن بعيدة، من حيث علاقتها بالشارع، عن وضع الملك فاروق في حرب 1948 أووضع نوري السعيد في أثناء حرب 1956 بالسويس؟
(اللاذقية)
(كاتب سوري)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى