صفحات ثقافية

وعي الهزيمة .. قراءة في اعمال سعد الله ونوس المسرحية

null

نديم الوزة

ماذا تعني الكتابة عن مؤلف مات بعد أن ترك مجموعة من الكتب تتفاوت أهميتها بين كتاب وكتاب، أو بين قارئ وقارئ؟ هل يعني ذلك أن سعد الله لم يزل لديه ما يقوله؟ أم يعني ذلك أن كاتباً مسرحياً آخر لم يلفت الانتباه بعد فيمكن الحديث عنه ويؤجل سعد الله الي وقت مستقطع بين الأوقات الفاعلة في مسيرة الابداع العربي؟

أسئلة كثيرة ومكررة، وقد لا تلقي أجوبة حاسمة طالما أن الواقع العربي وتجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية، هو علي هذا الفوات الحضاري الذي يدمي العين والأذن واللسان، لا ديمقراطية، لا مستوي معيشيا مقبولا، لا وعي بما جري أو يجري، أو الي أين يمكن الوصول؟ هي أسئلة سعد الله ونوس علي أية حال، واستعادتها هي تأكيد آخر علي فشل أجوبته، أو بالأحري علي هزيمة الكتابة في مجتمع لا يقرأ، لأنه ببساطة لا يريد أن يعرف، لأنه ببساطة وجد أن أيّاً من جاهر بمعرفته وأراد أن يساهم بها في حراك أمته، لترقي الي مستوي امكانياتها، مات بالسوط أو بغيره.

استعادة الموت، نبش القبور، الدخول الي السجون، تلقي الصفعات والركلات والهزائم، الاصغاء الي النحيب والآلام، الي المؤامرات والدسائس، الخيبة والندم تحديداً، هو كل ما يمكن أن يجنيه المرء من قراءة ثانية وثالثة ورابعة… أولي وأخيرة لأدب سعد الله، أقول أدباً وأقصد ذلك، فقط ليمكن الحديث ويتشعب ويمتد امتداد حكايات هذا الواقع ووقائعه التي يستعيدها علي شكل شخوص هي غالباً أشباح تتحرك في دواخلنا، في ذاكرتنا، نتنفسها مع الهواء ونشربها مع المياه، أكثر مما نعايشها أو نعيشها في أفكارنا ورؤانا وأحلامنا، لذلك تبدو غريبة حيناً ومستحضرة حيناً، ولكنها هي من يصوغ وجودنا ويدفعه الي هذا الخراب الذي نتبرأ منه طالما هو بدوره يرفضنا، يرفض ما نفكر فيه، وبالتالي يرفض كل ما يمكن أن نقوله له.

ـ 1 ـ

أراد سعد الله أن يحتال، أن يظهر ذكاءه، دخل في مسامات هذا الواقع، في وحوله وهزائمه، وأخذ يكتب منذ البداية كان يعرف أنه يكتب أكثر مما ينشئ مسرحاً، فهو يعرف أن الذين يكتب لهم تعودوا علي السماع، علي التقاط الهمسات أكثر مما تعودوا علي المكاشفة، وربما كان يعرف أيضاً أن لا مسرح بلا كتابة، ولا كتابة مسرحية بلا أدب، بل هذه الكتابة دائماً أرادت أن تكون شعراً، أو اعتقدت ذلك، حتي بدا كما لو لم يكن لدي سعد الله أسئلة مسرحية، كان لديه هاجس أن يعبّر، أن يفضح، أن يشير الي موضع الألم.

كانت همومه في البداية كبيرة بحجم هذه الـ ميدوزا التي تحدق في الحياة بما يعني قلقاً وجودياً مبكراً وخطيراً. لكن من يصغي؟ من يفهم؟ والشعب الذي يكتب له هو شعب مقموع ببدائية، وجائع حتي لرغيف الخبز، فما الذي يعنيه أن تنتصر الآلة ـ الجسد، وينهزم الكمان ـ الروح؟ أو تنتصر الشهوة الحيوانية المبرمجة عقلياً وينهزم الحب بتجلياته الفنية والحسّية ـ بتأويل آخر لهذه المسرحية ـ؟ أسئلة ربما جاء بها سعد الله من عالم حديث ومتقدم، من لغة أخري ليس لديها مشاكل بسيطة مثل هذه التي نعيشها، بمعني ليس الاغتراب أمام الآلة ما هو ملح الآن، ماهو الملح اذن؟ حاول أن يطرح سؤالاً وجودياً آخر، ربما يجعله يقترب من واقعه، ومن الكون الذي يفكر به أو فيه أو من خلاله، فيكتب المقهي الزجاجي لكن لا فائدة أيضاً فنحن لا نصنع الزمن كي يؤرقنا بل مجرد التفكير في ذلك يعني خطيئة عقوبتها النفي والالغاء. لذلك أخذ سعد الله يستعير أفكاراً من أزمنة وأمكنة قديمة ويحاول صياغتها بالواقع المتخلف الذي نعيشه، فكر بالظلم المطلق، بالحظ العاثر، بالغبن الذي يشعر به الشقيق الأصغر تجاه أخيه الأكبر ومردوداته النفسية فكتب مسرحيته الجراد .

فكر بالفقير الذي يموت جائعاً مشرداً علي الرصيف ولا يجد من يدفنه سوي عابر ثري يأخذ جثته ليطعمها لكلبه الجائع، كما تحكي مسرحيته جثة علي الرصيف . فكر بالانسان المثقف المتعلم الذي يقتله رجال الجهل العابث الذين لا يفهمون الرجولة سوي تسلط وقسوة وتهور، كما في مسرحيته عندما يلعب الرجال . فكر بتجار المديح والموالي وصناع المناصب فصاغ كنايته الجميلة عن الكرسي في مسرحيته لعبة الدبابيس .

فكر بالمقاومة وكيف ينبغي أن تتخلص من أمراضها الاجتماعية والسلطوية كي تولد ولادة سليمة فكتب مسرحيته فصد الدم . فكر بسلبية الناس وخوفهم من السلطة ومداراتها فكتب مسرحيته الفيل يا ملك الزمان . هي بدايات، صحيح أنها قصيرة، لكنها تبرز الي أيّ حدّ كان طموح سعد الله بأن يتمثل القلق الانساني بشموليته، بعيداً عن آنية السياسي وتعسفه، بأن يتمثل تلك الرؤي التي تحاول كشف هشاشة الانسان واغترابه، وشعوره بالضعف أمام القوي التي تهدد كينونته: الآلة، الزمن، الارث الاجتماعي والنفسي والاقتصادي والسلطوي… ومن الطبيعي أن يأتي مثل هذا التمثل انزياحاً لغوياً لاعتبارات آنفة، انزياحاً هو أقرب الي القصة الحوارية منه الي الفعل المسرحي.

وبالطبع كذلك لم يأت هذا القول حكماً سلبياً طالما أن سعد الله كان قد صرح به في مقدمة مسرحيته ميدوزا تحدق في الحياة أولي مسرحياته المنشورة، انه توصيف لاهتمام الكاتب الشاب، لعشقه اللغوي، ولشغله علي اللغة طيلة حياته الابداعية باعتبارها الحامل الأول لمسرحياته دون أن يعني ذلك اغفالاً لاستقلالية المسرح كفن ينبغي تمثيله. علي أية حال تتضح أهمية هذه المسرحيات القصيرة تاريخياً أو بالأحري كتأريخ لابداع كاتبها من جهتين: الأولي أنها تبرز مقدرة سعد الله علي صوغ حكاية ـ أو استعارتها ـ في قالب مسرحي. والثانية أهمية الأفكار التي يتصدي لها وعمقها في كشف معاناة الانسان ولا سيما ما هو جوهري في كينونته.

اضافة الي هاتين الناحيتين تمتاز حكاية جوقة التماثيل بأنها المسرحية الأولي التي منحت سعد الله ونوس لقب الكاتب المسرحي ـ كما أري ـ فهي بحكايتيها: بائع الدبس الفقير و الرسول المجهول في مأتم انتيغونا تبدو وكأنها تتويج ابداعي لمرحلة البدايات، فهي علي الأقل تشي بالتركيبة الفنية التي ستظهر فيما بعد في أكثر من مسرحية وعلي أكثر من شكل، وهي بالأصل لم تغب عن سردياته المسرحية عبر هذا المزج الأدبي بين ما هو سردي وحواري بمهارة توضح مقدرة أو موهبة أصيلة في كيفية الحكي وتمثله بأساليب الكتابة والعرض معاً.

اذن في حكايا جوقة التماثيل يستمر سعد الله بانزياحاته اللغوية، ولكن باضافة بعد مسرحي تقليدي يتمثل باستعادة أو بمساءلة المسرح اليوناني علي وجه الدقة وما يمثله من قيم فلسفية وسياسية كانت الجوقة هي من تقوم بدورها في المسرحيات الاغريقية المعروفة. هذا الضمير الجمعي للحق والخير والجمال الذي انهار مثالاً وراء الآخر أمام بؤس الواقع وسلطاته القمعية في حكاية بائع الدبس الفقير لينحل ويتلاشي تماماً في المكان ذاته ولكن عبر الحكاية الثانية الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا لا تمثل بموتها موت المثل والقيم المشار اليها وحسب وانما تؤكد علي أنّ للمسرح في زمن الكاتب ومكانه دوراً آخر يختلف تماماً عن دوره في أيام ازدهار الديمقراطية الأولي وازدهار التساؤلات الكبري للذات الانسانية عن العدالة والحق والشر والعقاب، تساؤلات بقيت مطروحة في هذه الحكايا وبانزياح شعري يتمثل باضمحلال الشر ذاتياً ليعود بفكرة القدر القديمة من المسرح الاغريقي ذاته. لكن ما هو أهم في هذه المسرحية أكثر من غيره أنها استطاعت أن تركب بين زمنين مسرحيين متباينين: الأول هو الزمن الاغريقي القديم، والثاني هو الزمن العربي المعاصر، ليسائل أحدهما الآخر في مسرحية واحدة هي بائع الدبس الفقير أو الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا ، ولتجعل في مكان الحكي في الوقت نفسه قابلاً لحكايات متعددة هي حكايات العالم أو الانسانية مطلقاً. وعلي هذا لا يبدو سعد الله في هذه المرحلة مهتماً بانشاء مسرح عربي أو حتي التفكير بذلك طالما أن ما يعاني منه هو نتيجة لامتداد تاريخ انساني متكامل، ولصراع تعيشه البشرية جمعاء بما ينفي أية خصوصية تاريخية سوي خصوصية المؤلف وطبيعة كتابته الأدبية.

ـ 2 ـ

مواجهة الواقع المتخلف بثقافة حداثوية متحررة كانت شغل المبدعين العرب في القرن العشرين، ولكن من غير أن يمتلكوا أدوات التغيير فيه، لأقل الأدوات الابداعية لذلك. وهذا ما يمكن ملاحظته في بدايات سعد الله أيضاً، اذ ثمة غربة تقترب كثيراً من قراءة الحكايات الأجنبية المترجمة حتي في مسرحيته حكايا جوقة التماثيل كان لحضور البعد الاغريقي أثر مُخِلّ في تناول المشاكل المحلية أكثر مما هو مخلخل لها ـ هذه المرة سوف يتم تجاوزه حتي في المسرحيات المقتبسة كما هو آت ـ لكن ليكن الحديث عن تحول أساسي بعد هزيمة حزيران (يونيو) التي أرخ لها سعد الله في مسرحيته الشهيرة حفلة سمر من أجل 5 حزيران حيث المسرح بدأ يستجيب للواقع ويدخل في تركيبه الذهني والفني بطريقة يمكن الحديث من خلالها عن تمثل عربي لهذا الفن الوافد الينا مؤخراً، بما يزيد بقليل عن قرن من الزمن. لكن قبل ذلك، وفي هذه المسرحية بالذات، أودّ التوقف عند رؤية سوف تلازم سعد الله فيما سيكتبه لاحقاً وربما هي ما أفضت الي مسرحيات أخري تلامس ما أتحدث عنه بل وتتطور عنه برؤية واضحة لابداع مسرح مختلف وأكاد أقول محليا. غير أن هذه الفكرة الأساسية التي ينبغي البدء بها بعبارة أدق تتحدث عن تركيب رؤيوي للفعل المسرحي يتجاوب وفعل القول بما هو الواقع أيضاً. بمعني آخر ان ادخال المتفرجين في صلب اللعبة المسرحية هو حاجة فعلية لقولها، وليس رؤية فنية مستعارة من التغريب البريختي مثلاً، وهذه الحاجة نفسها هي ما دفعت سعد الله للابتعاد عن لغته الانشائية من أجل الاقتراب من لغة تتواءم والفعل المسرحي بعد أن كانت تحاول الانابة عنه. وهي بالتالي أصبحت لغة متعددة بتعدد شخصيات هذا الفعل وتباين مستوياتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، وبالتالي قد لا تبرز أهمية مسرحية مثل حفلة سمر من أجل 5 حزيران في تصديها للهزيمة وتداعياتها ـ فهي لم تقل شيئاً جديداً يمكن فعله سوي اشراك الجماهير حقيقة في العمل السياسي وهذا ما لم يتحقق حتي في المسرح ـ بقدر ما تبرز في كونها شكلت حافزاً للبحث عن أشكال جديدة للفرجة ليس من الضروري أن يكون متعارفاً عليها عالمياً. لكن كيلا يبدو هذا البحث رؤية فنية وحسب يعود سعد الله الي كيفية هذه التركيبة وليس الي الرؤية اليونانية التي أظهر فشل محاكاتها عربياً ليصغي الي الحكاية العربية بل والي كيفية حكايتها ليكتب مسرحيته مغامرة رأس المملوك جابر اذ وكما هو معروف أن كرسي الحكواتي هو أول شكل من أشكال التفرج الحكائي العربي، وربما الحيوية القائمة بين الراوي ومن يصغي اليه، طقسية هذا الروي، وتبادل الآراء والتعليقات وانقسامها واختلافها حول ما يروي، هي ما أغرت سعد الله بالاستفادة من كل ذلك في مفهومه للمسرح السياسي الذي جاء عفوياً ربما في مسرحيته السابقة حفلة سمر ليأخذ منحي جمالياً مقصوداً لذاته في هذه المسرحية، في تركيبها بين زمن الحكي القديم وزمن الاصغاء الجديد من جهة، وحكاية سعد الله للزمنين مجتمعين والتفرج عليها مجدداً من جهة أخري.

ذات التركيبة ينشئها سعد الله في مسرحيته التالية سهرة مع أبي خليل القباني ليؤكد اهتمامه بأشكال الفرجة العربية، ولكن ليظهر، هذه المرة، الولادة العسيرة للمسرح العربي في سورية، لاستقبال هذا المسرح بكثير من الحذر والريبة، ومن ثم المواجهة بين أبي خليل القباني وقوي التخلف في المجتمع العربي بما فيها القوي الفنية التي انتصرت لأشكال الفن القديمة كمسرح الظل والفنون الدينية. أما أهمية هذه المسرحية فربما تعود أساساً الي كونها عززت رؤية سعد الله للمسرح العربي الجديد أو السياسي كما يحلو له أن يسميه، وأوصلتها الي ذروة الحلم أو امكانيته وذلك باستنفاذ أشكال الواقع وتطلعه الي صيغ جديدة للحوار كان نتيجتها حرق مسرح القباني في النهاية!. ما يمكن قوله بهذا الصدد ان رغبة سعد الله في إنشاء مسرح ديمقراطي عربي في مسرحياته المتتالية حفلة سمر من أجل 5 حزيران و مغامرة رأس المملوك جابر و سهرة مع أبي خليل القباني علي أنقاض ديمقراطية المسرح الاغريقي القديم كما يمكن الاستنتاج سطحياً بالمقارنة مع مسرحيته السابقة حكايا جوقة التماثيل انما هي رغبة استفاد منها المسرح العربي فنياً ربما، أقصد بتوظيف أشكال الفرجة المحلية لكسر الحاجز التقليدي بين مكان العرض ومكان التفرج بأسلوب يتجاوب وطبيعة الكتابة المسرحية أو طقسها المتعارف عليه في تراث الحكي العربي، لكنها فشلت في المقــابل أن تحقـــق غايتها أو هدفها في خلق تقاليد لذلك، وقد يكون الواقع السياسي المستبد من أهم الأسباب التي أعاقت سعد الله في ابداع أشكال اخراجية غير تلك التي سمع بها أو رآها، هي ذات الأسباب التي عاني منها أبو خليل القباني ولكن بتجليات أكثر خفاء.

هذا الوعي بالهزيمة، بعدم قابلية العرب للحوار، وبالتالي للمسرح، هو ما دفع سعد الله للارتداد الي دوره الأساس، دور الكاتب الذي ينظر الي عالم علي أنه مسرح ينبغي كشف لعبته، لعبته السياسية التي لم تزل ملحة بشكلها التقليدي ولكن خارج الأطر المحددة للنزعات السلطوية بمختلف ايديولوجياتها التي أفشلت مسرحه أو أجبرته علي الانكماش ولو الي حين، أقصد السلطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غير الحاكمة بالضرورة والتي تملك منصباً علي أتباعها هو ذات المنصب الذي يشغله ملك في مكان وزمان غير محددين ليدل علي تشابه السلطات الاستبدادية مهما كان شكلها. وعلي الأرجح هذا ما أراده سعد الله أو ما فهمته من عنوان مسرحيته الملك هو الملك التي تخلت عن محلية الحكي والفرجة لصالح فكرة تصلح لأي واقع يعاني استبداداً ما. لكن كشف الاستبداد، فهم طبيعته، ارتكاس معرفي يفرضه واقع عاجز عن الحراك أو التجاوب ونخبته، بمعني أنه واقع عاجز عن تأريخ حداثوي له. ولذلك بدت هذه المسرحية تقليدية في بنائها وفرجتها اذا ما قورنت بالتطور المفترض عن المسرحيات السابقة لها، لولا أنها برهنت، مع ذلك، علي غني تجربة سعد الله واغتنائها بمقومات مسرحية يمكن اعتمادها في أية كتابة قادمة كتهيئة سردية لأدبية كان قد بدأ حياته الابداعية بها.

3 ـ

لا أعرف حقيقة ان كان سعد الله علي دراية بفشل امكانية الحوار في مجتمع غير متكافئ القوي، أو غير قادر علي انتاج بنية للتكافؤ في أية مرحلة من مراحله التاريخية يمكن الحوار من خلالها حين توقف عن البحث الابداعي لأشكال المسرح في المجتمع العربي، محاولاً أن يستعير صيغا جديدة للكتابة من أقلام كتاب انتصرت مجتمعاتها حداثوياً لتريحه قليلاً من شبح السلطة بمفهومها السياسي الفظ والمباشر علّه يستحث الجماهير التي حاول الانتصار لها علي أن تفعل شيئاً، أن تنظر الي ما حولها، أن تفكر فيما تعيشه، أن تنفض عنها غبار الغفلة والدردشة لتري ما يمكن فعله قبل أن تسلب كل ما تملك وترمي كنفاية الي طرقات التشرد والموت، فيجد في مسرحية كيف تخلص السيد موكينبوت من آلامه للكاتب بيتر فايس صيغة ملائمة لذلك، يستطيع أن يكتب اعتماداً علي حكايتها مسرحيته رحلة حنظلة من الغفلة الي اليقظة ليعود بالمسرح الي بساطة القول اذا لم يكن الي سطحيته اذ ماذا يعني أن نعرف ما يدور حولنا طالما أنه لا يمكن أن نفعل حياله شيئاً؟، سؤال تبدو اجابة سعد الله عليه أكثر سلبية في مسرحية لاحقة. لكن ما هو ايجابي في هذه المسرحية أنها تحررت قليلاً من مفهوم السلطة الفردية لتوزعه علي شكل بنية اجتماعية واقتصادية أكثر مما هو حالة سياسية آنية، ليقترب بذلك من ملامسة الأزمة لكن بلا أطراف يمكن محاورتها بما يشكل تراجعاً ملحوظاً حتي عن مسرحه السياسي والاكتفاء تماماً بدور الراوي الذي يستطيع أن يلتقط تفاصيل الواقع ويسردها كما هي – لكن مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية أواخر القرن الماضي يجد سعد الله نفسه في موقف محرج، فالواقع العربي ليس علي هذا النحو من السلبية وانما أدوات مبدعيه كانت عاجزة علي ما يبدو عن صياغة فعل مماثل لهذا التحرك العفوي بل هي سارت به الي ما يشبه زهوة الفرسان لتقضي عليه قبل ولادته. وربما لهذا استشرف سعد الله نهاية كارثية لا تحتملها حكاية الفارس ولا حتي وضوح الصراع وبدائيته فلجأ الي التواء المثقف وأزماته فاستعاد حكاية القصة المزدوجة للدكتور بالمي للكاتب المسرحي انطونيو بويرويانيجو ليكتب مسرحيته الاغتصاب التي شرح من خلالها الصراع العربي الاسرائيلي علي أساس عقد نفسية سادية علي الأغلب، ربما يكون الشفاء منه سريرياً أكثر منه سياسياً ليخلص الي هذه النتيجة التي تدعو للدعابة وتتلخص في أن الحوار بين الاسرائيليين والعرب أو الفلسطينيين لا يمكن أن يتم الا بين شرائح المثقفين وقد تخلّوا عن هواياتهم القومية والدينية! ما يؤسف له أيضاً في هذه المسرحية أن امكانية الحوار الذي تفترضه لم يكن بين العرب أنفسهم، وانما مع وافدين من ديمقراطيات أخري، وربما هذا يفسر انضواء كثير من المثقفين والمبدعين العرب تحت اشراف منظمات وقوي ـ علي الأقل سلطاتها هي من تصوغ الواقع العربي منذ اتفاقية سايكس بيكو وأشباهها من الاتفاقيات والمشاريع التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.

ما أريد قوله ان سعد الله، شأنه شأن العرب جميعاً حتي المبدعين الفلسطينيين منهم، لم يستطع أن يتجاوب والمرحلة التاريخية لشعب وجد نفسه لم يعد يحتمل بؤسه وشقاءه فتمرّد علي شرطه التاريخي ليكتشف أنه وحيد ولا أحد قادر علي الانتصار له في هذه المسرحية سوي محاولة أدبية ربما تذكر بأدب القسوة في القرن التاسع عشر. لكن كيلا أحمل سعد الله ما لا طاقة له به يمكن القول: انه ومن خلال هاتين المسرحيتين استطاع أن يؤكد علي كونية المسرح باعتباره فناً مثله مثل الموسيقي والرسم أو أدباً مثله مثل الشعر والرواية فهو ان كان قد استعار شكلهما المسرحي من لغات أخري الا أنه بكتابته الأدبية عرف كيف يجعلهما عربيتين لغة ووقائع، وهذا لا يعني بالضرورة غلق الباب أمام احتمالات مسرحية لها خصوصيتها المحلية.

( 4 )

اطمأن سعد الله في السنوات الأخيرة من حياته الي ما يشبه الواقعية النقدية أو حتي الوصفية فيما يكتبه من مسرحيات، مكتفياً بدور الراوي لأحداث ووقائع يعيشها أو يعايشها في محيطه الاجتماعي، موائماً هذه المرة بين المسرحية والرواية ولكن بعد أن تخلصت لغته من انشائية البدايات وانزياحاتها. وربما يكون توصيف هذه المرحلة الختامية من مؤلفاته بالروايات المسرحية أقرب الي الدقة، وهو توصيف قد لا يملك قيمة معيارية علي أساس أن الكتابة الحديثة كثيراً ما جمعت بين عدة أجناس أدبية وفنية بل كثيراً ما أعدت الروايات مسرحياً لتعرض علي الخشبة بل ان أعمال سعد الله الأخيرة تتضمن هذا الاحتمال الفني لامكانيات الشاشة السينمائية أو التلفازية كفضاء عرض، ومع ذلك لا ينبغي أن ينكر المرء هذه المتعة التي يمكن تحصيلها من قراءة هذه الأعمال وهي متعة أدبية، تشبه ما يجنيه المرء من قراءة الروايات الأدبية المحضة، وهذا شيء لصالح ما يكتبه سعد الله بالتأكيد، بل أعتقد أن هذا الشيء هو ما جعل عمله علي هذا النحو من الأهمية، اضافة الي هذه الجرأة في تناول الواقع نقدياً بوقائعه وشخوصه المعاشة حتي أن أولي هذه الروايات تأخذ عنواناً مباشراً للدلالة علي راهنية ما تتحدث عنه، وأقصد بها مسرحيته يوم من زماننا .. يبين سعد الله من خلال هذه المسرحية أحد جوانب الفساد في المجتمع وهو جانب الدعارة، ليس بجانبه الوجودي كعلاقة اعتبارية بين الرجل والمرأة وان حصل ذلك كنتيجة وانما في تدخلها في عمل المؤسسات كرشوة أو كمصيدة لمحاربة النزاهة وما الي ذلك، وفي تفشيها بين شرائح الفقراء كمحاولة لتحسين ظروفهم وما يتبع ذلك من مشاكل أخلاقية تطال حتي الرموز الدينية ليؤدي في المحصلة الي هزيمة أبرز المعاني الانسانية التي تربط الرجل بالمرأة وهو الحب الذي ينسحب ممثلوه من الحياة دون أدني مقاومة وكأن قدراً محتماً لا مهرب منه سوف يقضي علي أيّ عاشقين يرغبان في إعلاء شأن الحب أو يحاولان احياءه بل ما هو أشد غرابة من ذلك أن هذا القدر الذي يتمثل بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، سوف يأخذ، وعلي النقيض من منظومة سعد الله العلمانية أو الحداثوية، بعداً طهرانياً يبدو الحب فيه وكأنه خطيئة ينبغي أن يحاسب عليها أيّ عاشق أو عاشقة يقترفانها بعيداً عن المؤسسة الزوجية واستمرارها ليس انتصاراً للقوة الذكورية المتحكمة في المجتمع ولكن كنتيجة حتمية لهيمنة هذه القوة ونفي أيّة امكانية للتغلب عليها كما هي الحال في مسرحيته أحلام شقية ، لكن فهم القدرية باعتبارها شرطاً تاريخياً قد لا يسوغ اعتبار الحب خطيئة ينبغي التطهر منها، بل ما هو أنكي من هذا الفهم أن سعد الله يتبني هذه القدرية الطهرانية في مسرحيته الأيام المخمورة حتي بعد أن تخلص العاشقان من شرطهما التاريخي المتخلف.

أيضاً استحوذت العلاقة بين المرأة والرجل علي تفكير سعد الله في مسرحيته طقوس الاشارات والتحولات ولكن برؤية أكثر حراكاً من المسرحيات السابقة علي الرغم من أنها مستمدة من تاريخ العرب ما قبل النهضوي، وهي مسرحية تحاول، اذا ما أمعنت التفسير في احتمالاتها، أن توضح أهمية الاهتمام بثقافة الجسد، بطاقاته الفنية كالرقص مثلاً، باعتباره حاجة طبيعية ينبغي أنسنتها بعيداً عن طقوس الاسراف أو الزهد في التعامل مع حاجات الانسان الأساسية ومنها الجنس، والا راوح المجتمع في الدوران حول حلقة المحرم والعصيان المستتر و فيها، ولكن سعد الله رصد هذه الحلقة عبر ظاهرتين معاكستين: الأولي هي ممارسة السادة الرجال للجنس مع خادماتهن قبل بلوغهن وتحويلهن بالتالي الي عاهرات يعترف المجتمع بشرعية وجودهنّ في وسطه، والثانية هي المكاشفة في العلاقات الجنسية المشبوهة حتي الشاذة منها لاتخاذ هؤلاء السادة من الغلمان مناهل جنسية، ولكن بما يكفل التراتبية الاجتماعية بين السادة والخدم أو العاهرات من جهة والهيمنة الذكورية من جهة أخري.

لكنّ المسرحية تفترض اختراقاً لهذه التراتبية كأن تقوم امرأة من السادة ـ وتحت رغبة عارمة لجسدها بالانطلاق والتحرر لم تشبعها بزواجها من رجل سيد اعتاد معاشرة العاهرات هو نقيب الأشراف ـ بالتحول من امرأة سيدة الي غانية أو عاهرة تبيع جسدها، ملبيّةً بذلك أصداء أصوات عاشتها من خلال اغتصاب أبيها وأخوتها الذكور للخادمات في حرمة البيت الذي ولدت وتربت فيه، مع ملاحظة أن هذه المرأة أبدت رغبة في الرقص أكثر من الجنس لتسويغ تحولها هذا، ولكن ماذا تفعل اذا ما ارتبط الرقص بالعهر في مجتمعها؟ طبعاً هذا المجتمع سوف يتصدي لهذه الظاهرة الجديدة بالمفهوم الطهراني ذاته فيتم اصدار فتوي بتحريم البغاء لتقتل المرأة علي يد شقيقها الأصغر بينما يقتل زوجها شهوات جسده عن طريق الزهد والتصوف. فتكتمل بذلك حالة الفصام الشرقي بين ما هو ظاهر وما هو مخفيّ، بين تقشف الروح وشهوانية الجسد، بين حلال الرجل وحرام المرأة…أفكار مرتبكة ومربكة لا تؤسس الا لحكايتها التي تحاكي واقعاً تدعي أنها تنقده، كأن سعد الله دخل حقاً نفقاً مظلماً لا نهاية لالتواءاته وتعرجاته.

آخر هذه الالتواءات كانت مسرحيته ملحمة السراب التي تقوم بدورها علي ثنائية اقتصادية حادة التناقض بين انفتاح اقتصادي هو بطبيعته يفتح المجال أمام متع الحياة وأفراحها والواقع المتخلف والفقير الذي يرتضي من الحياة أغانيها، وعلي ما يبدو أن سعد الله ينحاز الي الواقع الثاني للحفاظ علي الحياة الريفية ببساطتها وبمعانيها عن الحب والأسرة والأرض باتخاذه لموقف مسبق من المشروع السياحي الذي يقيمه رجل يصفه سعد الله بالغاوي الذي يتبع شيطانه، متناسياً ربما أن العمل السياحي هو نتاج حداثوي، وليس بالضرورة أن يلغي الحب أو الأغنيات القديمة، وان كان يساعد بما يوفره من غني وتنوع علي مكاشفة الانسان لرغباته وتطلعاته والخوض في هذا أري أنه يحتاج الي وعي أعمق بالوجود لا يبدو أنه كان متوافراً لدي شخصيات مسرحيته التي انقسمت بين مقبل بشراهة علي هذا المشروع وما يتيحه من متع عديدة وزاهد به وبالحياة كلها، بل أن يحتال هذا الغاوي علي رجال القرية في النهاية أمر لا يفند أهمية قيام مثل هذا المشروع، فضلاً عن أن الذاكرة العربية عبر تاريخ حضارتها الواسع مؤسسة علي الانفتاح الذي يمكن وصفه اليوم بالسياحي، لكن يمكن القول: ان الفساد المتفشي في مؤسسات المجتمع ومعاملات الناس فيما بينهم حتي التجارية والصناعية منها بغياب قانون يعطي لكل ذي حق حقه قد يبرز سلبية التطلعات الحداثوية وخاصة اذا ما تمثلت بالمظاهر المتعوية التي تحتاج الي منظومة من التفكير حرّة أو متحررة، وربما هذا ما انعكس علي أوليات سعد الله وتفكيره فيما يكتبه اما بنزوع مقاوم قد لا يصلح لمجتمع هو شره بتكوينه وان يبدي غير ذلك كعادته، واما بنزوع نقدي يستطيع أن يعي مواطن الضعف والهزيمة ولكن بلا رؤية ابداعية واضحة يمكن أن تحرض علي فعل مغاير ومختلف، وربما هو فعل يحتاج الي وعي أكثر امتداداً من الواقع الضيق الذي خاض آلامه واخفاقات أحلامه.

وعلي هذا الأساس شكلت مسرحيته منمنمات تاريخية استجابة لهزيمة الواقع أكثر من رغبة في تخطيها، وهي ان كانت تحمل في معظم مستوياتها عرضاً لأشكال الهزيمة كما هي أعماله الأخري بما لا يدعو الي مزيد من التفكر، الا أنّ سؤالها أو امتحانها للمثقف أو العالم ربما قد جاء سؤالاً نافلاً وربما في غير محله علي اعتبار أن مفكراً وعالماً مثل ابن خلدون يتمثل منظومة فكرية لم يُستنفذ قولها ومفعوله وحسب بل هي بشموليتها وبراغماتيتها قد لا تصغي كثيراً الي ما يصغي اليه سعد الله عن أخلاقية القول ودلالة ما يفعله قائله، بمعني أن أهمية ابن خلدون تكمن في أنه استطاع أن يكتشف علماً كان يستطيع العرب الافادة منه لو أرادوا بينما تتباكي مسرحية مثل منمنمات تاريخية علي ما حصل للعرب وعلي ما يحصل لهم ولم يكن بوسع ابن خلدون أن يرده لو ترك قلمه وامتشق سيفاً ليموت داخل أسوار دمشق أو قلعتها، أما أن تحتاج الشعوب الي مواقف مفكريها ومبدعيها فهذا قد لا يعني شيئاً مهماً طالما أن صحة المواقف قد لا تعني صحة السبل والطرق التي يمكن أن توصل الشعوب الي تحقيق طموحاتها، وما لدي ابن خلدون هو علم يحتاج الي القوة لكي يؤكده وانما كانت خيانته نتيجة لخيانة الواقع لأفكاره، وهذا لا يسوغ شيئاً بقدر ما يوضحه. هل أوضح سعد الله ونوس الواقع؟ ربما أوضح واقعاً مهزوماً فاته أن يعرف كيف يصوغ أسئلته .

ربما لنا عودة

وغداً يومٌ آخر ،، ،

.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى