صفحات ثقافية

الاختلاف والائتلاف في مسرحية “منمنمات تاريخية”

null

نجمة حبيب

ككل مبدع رسولي تحدى سعدالله ونوس مأساته الشخصية واستمر في مشروعه التثويري حتى الرمق الاخير. فكانه بذلك يكثف ما تبقى له من أيام فيعيشها مضاعفة ويكتب خلالها أكثر اعماله الادبية ثراء (طقوس الاشارات والتحولات، ملحمة الشراب، منمنمات تاريخية والزمن المخمور)وونوس في جميع كتاباته ملتزم حتى الثمالة، يعيش التزامه كتابة وممارسة بشهادة من عرفوه عن كثب. وهو ملتزم بقضايا الامة العربية يقدم في كل منها قولا وموقفا. فمن مسرحية “فصد الدم” الى “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” إلى “الفيل يا ملك الزمان” إلى “منمنمات تاريخية”، عرض وتحليل للهموم المصيرية: الهزيمة، فلسطين، مسألة الانفتاح والتبعية، مشكلة المثقف وغربته عن مجتمعه، العلمانية وغيرها.

وهو في كل ذلك يزداد ابداعه ألقاً كلما ازداد نضوب الزيت في سراجه، فكانه في عمله هذا يتحدى الفناء المادي وينتصر عليه خلوداً ابداعياً”ومنمنمات تاريخية” واحدة من أعماله المتأخرة التي كتبها وهو على فراش المرض. وهي تتميز بقراءة تختلف عن كثير مما عهدناه في القراءات التاريخية. فهي تحاكم وتدين رموزاً طالما قدسناها. وتعري قناعات طالما اتخذناها ثوابت ومسلمات, وهي منحازة دونما تردد لقيم العقلانية والحرية. آمل من هذه المداخلة المتواضعة أن تكون نافذة على بعض ما عند هذا المبدع الرؤيوي. وقبل الولوج بأية تفاصيل، لا بد من الشر الذي لا بد منه، وهو تلخيص النص..

يتكئ ونوس في عمله على جذر تاريخي مستقى من أمهات الكتب، ولكنه لا يحيل الى مصدر بل يكتفي بالاشارة: “مؤرخ قديم”. تبدأ المسرحية بخروج منادٍ يدعو اهل دمشق، المحاصرة بجيش تيمورلنك، للاستسلام وهجر المدينة وقيام واحد من العامة يناهضه ويسفه دعوته. يبين النص اتفاق السلطتين الدينية (الاعيان والعلماء) والسياسية (السلطان برقوق ونائبه) على الاستسلام، ومعارضة تبرز في كلا الجانبين تدعو الى الجهاد والمقاومة يمثلها في الجانب الاول الشيخ التاذلي، وفي الجانب الثاني صاحب قلعة دمشق الامير أزدار. وينقسم أهل دمشق بين هذين التيارين المتناقضين، فينحاز الاغنياء والتجار للرأي الاول وتنحاز العامة والفقراء الى الرأي الثاني. ثم ينتهي المشهد الاول باستشهاد الشيخ التاذلي بعد قتال قاس ومرير فوق أسوار المدينة. وبغيابه تصاب المقاومة بالهمود وتخلو الساحة للقائلين بالتسليم من علماء وأعيان وتجار.

أما المنمنمة الثانية فيفردها الكاتب لعرض موقف ابن خلدون من هذه المأساة. وفيها تستسلم دمشق ويمشي هذا العالم الكبير في ركاب تيمورلنك. وإذ تسقط المدينة، يلتف من بقي له إيمان بالجهاد حول القلعة وأميرها أزدار. وبعد طول عناء وقتال ضار مستبسل، وبعد حصار قاس دام أربعين يوما، يخرج الامير واصحابه من القلعة فيتم لتيمور السيطرة التامة على المدينةتصور المنمنمة الثالثة ما كان من امر ذلك الغازي مع جماعة العلماء والاعيان والتجار وقسوته عليهم، الامر الذي احبطهم وزاد من بؤسهم فلم يجدوا ما ينفسون به عن خيبتهم إلا بتنفيذ حكم الاعدام بالشيخ جمال الدين القائل بتغليب دور العقل في الخطاب الديني. كيف لا! فالزمن زمن اضمحلال ولا مكان فيه للتفاؤل والامل ففيه “صارت دمشق بعد البهاء والوفرة أطلالا بالية ورسوماً خالية، لا ترى فيها دابة تدب ولا حيواناً يهب (ص: 146)

يختلف نص ونوس عن غيره من النصوص التي عالجت موضوع الهزيمة في انه غاص عميقاً في تحليلها وكشف مسبباتها، فهو لم يلق باللوم على فرد دون غيره، أو حمل المسؤولية لعامل دون آخر، ولا تعلل بقوة الخصم وتفوقه الميداني، ولا لام ظرفاً خارجياً دون سواه، بل ذهب بالمشكلة الى عميق جذورها وعرى ما في الشخصية العربية (الدمشقية في حينه) من هنات لا تنفرد بها فئة دون أخرى إنما تطال الفرد أياً كانت فئته الاجتماعية أو رتبته العلمية أو مستواه الثقافي حتى كأنه يقول أن الانهزام الحقيقي هو انهزام الداخل الذي لولاه لما كان لانهزام الخارج أن يتحقق وإن كان لنا أن نلخص رؤية الكاتب بكلمة لقلنا إنها الادانة. فكل شخصيات النص مدانة: الشجاع والجبان، المقاوم والمستسلم، رجل العلم ورجل الدين، أهل السلطة وأبناء العامة….لم يسلم من هذه الادانة إلا شخصية واحدة هي سعاد ابنة التاذلي التي انتهت بقتل نفسها قبل أن يلوثها عار الهزيمة والادانة عند ونوس على درجات، فمسؤولية الهزيمة في قسمها الاكبر عائد الى فساد القوتين الفاعلتين الدينية والسياسية، وما تخاذل العامة الا انعكاساً لموقف هاتين السلطتين. يبدو ذلك فيما كان من امر الناس عندما قام بينهم رجل صالح يدعو الى الجهاد فهبوا يدافعون عن اسوار مدينتهم بعزم وثبات. وعندما تخاذلت السلطة انكفأوا يتدبرون امورهم فرادى يائسين الى ان أدى بهم الاحباط والضياع الى التعاون مع العدو: “ولمّا بدأوا [جند تيمورلنك] ينقبون الاسوار، أبدى أهل الشام همة عالية في مساعدة التتار على نقبها (131). وإذ يوحي مثل هذا الكلام برؤية فوقية سلطوية تؤمن بدور القائد الفرد وتحيل الجماعة الى طغمة تابعين يتلونون بلون قائدهم، يضحضحها رد أحمد على دلامة في الحوارالتالي:

دلامة: هذه شؤون خطيرة ولا يجوز أن يخوض فيها إلا الكبار أحمد: بل يجب ان يخوض فيها الجميع (9)

بل إن في المصير الذي آل اليه الامير أزدار نقض لهذه الرؤية الفوقية. فالامير شجاع، مخلص لقيمه وقلعته، ولكنه عجز عن الوصول الى مبتغاه لاعتداده برأيه وعدم الاخذ بنصيحة المخلصين من حاشيته، الامر الذي أدى به الى اتخاذ مواقف متسرعة متفردة كمثل صده لابن الطيب الذي جاءه عارضاً نفسه ورجاله للدفاع عن المدينة فكان أن خسر سنداً وكسب عدواً. وفي الموقف أيضاً إدانة لتغليب الحقد الشخصي على المصلحة الوطنية، فحقد الامير على ابن الطيب وإخلاصه للمنصب (العرش) الذي كان أكبر من إخلاصه للوطن، أعمياه عن رؤية صدق وطنية هذا الاخير. وأدانة ونوس للفوقية السلطوية لا تقتصر على الاشخاص بل تمتد لتشمل المواقف والسياسات والامكنة. فالقلعة، رغم شجاعة ناسها واستبسال رجالاتها ومهارتهم في الدفاع عنها، لم تستطع الصمود منفردة بعد ان حيدت الطاقات الشعبية المتمثلة بابن الطيب وفصل مصيرها عن مصير المدينة ككل. ولعل في ذلك إدانة لكل التفردات التي تعيشها أمتنا في الزمن الحاضر. وونوس يعي خطورة القول الفصل في المواقف المصيرية، فالاجابة عليه تحتمل عدة خيارات. لذلك نراه في مثل هذه الحال لا يغلب رأيا على رأي بل يعرض للفكرة ونقيضها تاركاً للقارئ (المشاهد) أمر الحكم في أيهما أكثر صوابية. فهو مثلا رغم ترجيحه الذي يرشح من خلف الكلمات لموقف شهاب الدين في قضية ابن الطيب، لا يتوانى عن عرض رأي الامير أزدار بمثل الحماسة التي عرض فيها الرأي المخالف: “القلوب الفاسدة إذا وجدت عند العدو مصلحة تحولت علينا ولا أستطيع أن أخاطر بتسليحهم والاعتماد عليهم” (39):

ولا تسلم من هذه الادانة الشخصيات المخلصة والوطنية. فهذا الشيخ التاذلي التقي الورع، الذي لا يغلب مصلحة فوق مصلحة الوطن مدان بانضمامه الى مجموعة العلماء في الحكم على تلميذه الشيخ جمال الدين. وتأتي الادانة ضمناً عندما يبرز شعبان المجذوب بعد إحراق كتب جمال الدين يقترب من النار . . . يدور حولها ثم يبول عليها. وقد يرى قارئ متمعن خلف السطور إدانة للمفهوم السائد لمعنى الاستشهاد حين يمسي الموت هدفاً بحد ذاته ووسيلة للتكفيرعن الذنوب أكثر منه فعل فداء للوطن؛ وإلا ، فما معنى هذه الميتة التي مني بها التاذلي والتي لم تؤد الى أي نتيجة إيجابية؟ ولعل أكثر الادانات تميزاً تلك الموجهة الى رمز البطولة في المسرحية، الامير أزدار. فهو شخصية محببة، حارب بشجاعة وقاد المعارك بنفسه حتى الرمق الاخير. كسب جولات عديدة وكلف العدو أثماناً باهظة قبل أن يضطر الى ترك القلعة. وهو رمز وطني اجتمع حوله كل المخلصين، لم يترك القلعة إلا بأبهى زينة وعومل معاملة الند فيما أذل من مالأ وتزلّف. ومع ذلك فهو مدان: فبطولته ناقصة لأنها تسعى الى مجد شخصي، يهمها تسجيل الموقف لا الموقف في حد ذاته. وقد جاءت الادانة على لسان ابن الخطيب: “….هذه ليست شجاعة. إنها مباهاة عقيمة. كل ما تبحث عنه أيها الامير هو شيء من التميز حتى ولو كان على جبل من الضحايا. لم تفكر يوماً بنا ولم يشغلك أمرنا. إنك رجل وحيد استغرقك البحث عن شيء من الصيت ورضى ذلك السلطان الرقيع(125). ولا يكتفي ونوس من إدانة بطله في شجاعته بل تعداها الى مستواه العقلي فاتهمه بضيق الافق وقصور الرؤية عندما صوره غير قادر على الاخلاص لفكرة أو عقيدة: “لا أتخيل أن يقاتل الانسان من أجل دولة في الغيب، إني أقاتل من أجل الدولة التي أنتمي اليها، الدولة التي أعطتني مركزي وحددت لي مسؤوليتي (111-112) وهو لذلك لا يستطيع ان يدرك معنى أن يقاتل الانسان من أجل امته، لا من أجل دولتها ونظامها. وقصور الرؤية هذا، يؤدي به الى اتخاذ القرارات الخاطئة، فقد استبعد أي خطة تربط مصير القلعة بمصير مدينتها، وأعرض عن نصيحة نائبه الذي كان يرى في القلعة ومدينتها جسداً واحداً، وتحصين بعض الجسد لا يفيد إذا كانت بقيته مكشوفة: “ما لنا وهذه المدينة المتقلبة، مدينة أعيانها وعلماؤها خائرة يتسابقون كي يلحسوا مؤخرة العدو (81) وقد جاء موقفه من الشيخ جمال الدين تاكيداً على تلك السطحية. لقد فضل أن يبقيه أسيراً ويحرم من امكانياته كي لا يقال أنه خالف أمراً أجمع عليه العلماء. العلماء الذين ما كن لهم احتراماً وقال فيهم الذم الكثير وحتى عامة الشعب مدانون: عامل النسيج وزوجته مدانان: فمروان لا يحمل السلاح إلا مكرها وزوجته سلبية لا رأي لها ولا موقف، لسان حالها يقول: “أنت فصل وأنا ألبس”. كذلك أحمد داعية الجهاد المملوء حباً بمدينته والذي دار في شوارعها يدعو الناس الى حمل السلاح للدفاع عنها، احمد هذا، ما هو إلا سكير معطل التفكير. وعسكر السلطان الذي جاء المدينة حامياً ومدافعاً خلّ بما جاء لأجله فنهب وبغى وتصرف بالمدينة وكأنها مباحة, وليس السلطان بأفضل حال، فها هو يتخلى عن المدينة في محنتها ويرحل الى مصر لأنه خائف على عرشه. ونساء دمشق مدانات أيضاً، يتخضبن بالحناء فيما مدينتهم تنوء تحت مغتصبيها. ليس هذا فحسب بل إن الادانة تخطت زمن القص وطاولت الازمان اللاحقة ولفحتنا نيرانها. فأناس الازمنة القادمة سيغترون بعلم المؤرخ ابن خلدون وينسون نقيصته: ” لن يذكر التاريخ إلا العلم الذي أبدعته والكتاب الذي وضعته، اما هذه الاحداث والمواقف العابرة فلن يذكرها أو يهتم بها إلا موسوس مثلك، ومثل كاتب هذه الرواية”. وحده هذا السكير المعطل التفكير يفهم أن الحرب ليست من أجل المال بل من أجل الكرامة والعزة والبطولة.

من ناحية أخرى نقرأ في المننمات انحيازاً للعقل الشاب القادر على الحلم والمجازفةشهاب الدين: لو أننا حلمنا وجازفنا أما كان يمكن أن نغير مجرى الاحداث…وأن تكون هذه المأثرة بوابة تحول وانبعاث؟ أزدار: إني أفهمك يا شهاب الدين… كانت قدرتك على الحلم ورغبتك في المجازفة تثيران إعجابي وحبي. وأعترف أنني ترددت وخفت ان اجاريك في الحلم والمجازفة. في أوقات الضعف والانحلال، الاحلام باهظة التكاليف، وكنت أخشى دائماً أن نتوه في الحلم ونضيع الممكن. لا أعلم…ربما كنت مخطئاً أو تنقصني اندفاعة الشباب (136).

وفي انهاء المحاورة بالعناق رمزية غير خافية على وجوب قيام تكامل بين جناحي الامة، حيث يلهب حماس الشباب ما أطفأته الايام من عزيمة الشيوخ، وتعدل حكمة هؤلاء الاندفاعة المتسرعة التي قد تؤدي الى الغوغائية.وباختصار ، فالمنمنمات مشروع تثويري يعيد النظر بالثابت والمتجذر من القيم والمفاهيم . يقرأ الحاضر بمرآة الماضي ويدعو لأخذ العبر من أخطاء التاريخ ولا يحتاج القارئ كبير جهد ليعي أن مجرد تغيير بسيط بالتواريخ والاسماء تمسي المسرحية ابنة زماننا وحاضرنا الاليم إلا أن مأثرة ونوس تكمن في منمنمته الثانيةنقرأ في المنمنة الثانية وعياً عقلانيا للتاريخ ومحاكمة للثابت والمقدس من المعتقدات. لقد توارثنا أجيالاً تلو أجيال ذلك الاكبار والاجلال للعلامة ابن خلدون ومقدمته التي هي ماثرتنا ومجال فخرنا. إلا أن المنمنمة وضعت هذه النظرية وصاحبها على منصة التشريح وعرتها من كل ما اغدقناه عليهما من كريم القول والاعزازمعرية الرجل بشخصه وعلمه على حد سواء. منحِّية عنهما هالة القداسة التي كانت لهما عبر الاجيال. وونوس بعرضه هذا يحاور وعي وضمير المثقف ويدعوه للانحياز ويسمي كل حياد في المواقف المصيرية جبانة وخيانة. لذلك يطلق على منمنمته الثانية هذه اسم “ولي الدين بن عبد الرحمن خلدون أو محنة العلم”، فهو بذلك يهيئ قارئه لما هو قادم ويطلق اتهامه صريحا مدويا لا خجل فيه ولا مواربة فما عالمنا الجليل هذا إلا محنة. وإن كان ونوس قد أسبغ على كثير من شخصياته السلبية بعض الايجابيات إلا أنه مع ابن خلدون كان شيئا مختلفاً. لقد بدأ هجومه على الرجل بأن جرده من صفة العالم الاساسية التي هي التواضع: “العلماء والاعيان يقبلون عليّ لا على المكان (101) ثم زاد بأن جعله كالجهلاء مغروراً مزهواً بنفسه وعلمه: “فهذا العلم يا شرف الدين مستنبط النشأة ألهمني الله إياه إلهاماً لم يسبقني اليه أحد من الغابرين فلو أضاء الله أنوار هذا العلم للفارابي وافلاطون وأرسطو لأعرضوا عما كتبوه أو بدّلوه بالكلية (88). وهو زيادة على ذلك شخصية جوفاء خالٍ من أي عاطفة وطنية، لا يرى في الشجاعة إلا رغبة بالتشوف والمباهاة أو وسوسة وعمى بصيرة.

هذا عن شخصه. فماذا عن علمه؟

يرى ونوس أن ابن خلدون خان أمته بامتياز وانحاز الى أعدائها بحجة الحيدة العلمية وطمعاً بالجاه والمال وفي بعض الاحيان السير في ركاب السلطة درءأ لشرها. ولكنه لبلاغته لم يعدم أن أضفى على تخاذله وصفاً براقأ: ابن خلدون الانسان ليس محايداً ولكنه واقعي. . . ترك الغضب والتحسر والمكابرة للذاهلين والحمقى من غمار العامة. (86-87). ويحاور النص ابن خلدون في ادعائه هذا ويبين زيفه، فكثير من العلماء قبله كانوا يحلمون ويبحثون عن الطرق التي يعالجون بها علل عصرهم ويرسمون للناس تصورات عن مجتمعات فاضلة تليق بالانسان (الفارابي ومدينته الفاضلة، أرسطو في الاخلاق والسياسة. . .) وهو على ما تذكر المنمنمة يمشي الى تيمور ويستعطفه، ويرحل في ركابه ويقدم له الهدايا، ثم لا يلبث أن ينزلق الى الخيانة عندما يلبي له رغبته بكتابة مؤلف في وصف بلاد المغرب. ويبرر ابن خلدون ما يفعله بالقول إن ما يقوم به هو عمل علمي والكراسات التي يؤلفها لا تملك جيوشاً ومدافع. تأتي الادانة هذه على لسان تلميذه شرف الدين: “إنك تجعلني أخاف هذا العلم. هذا العلم البارد الذي يبرر كل وسيلة ويلتقط مقولاته من خراب ومذابح قومه وأهله. هذا العلم الذي لا يبالي بالانين ويحتقر الدموع ويتورط في الخيانة دون وساوس. هذ العلم يا سيدي لا نحتاجه ولا يلهمنا إلا الاسى والخوف” (100)

هذا عن ابن خلدون وعلمه فماذا عن نظريته؟

يدين ونوس في منمنمته نظرية علم العمران التي ابتدعها ابن خلدون ويرى فيها إحباطاً وتغييباً لدور الشعوب في رسم طريقها وتحديد مستقبلها. والنظرية، كما هو معروف، تقول بأن للدول أعماراً كأعمار الانسان. فهي تنشأ فتية عندما تكون العصبية فيها قوية ثم تأخذ بالاضمحلال والتلاشي عند غياب هذه العصبية والشوكة. فصلة الدم والنسب وحب الغلبة والاستيلاء، هي أصل نشوء الدول ومحرك الجماعات والامم. وكلما تقدمت الامة في العمران وبعدت عن البداوة، خفّت عصبيتها وشوكتها وبالتالي آلت الى الزوال. وهذا معناه أن العمران لا يحدث باختيار وإنما كضرورة حتمية للوجود وترتيبه، وهذا أيضاً يعني إلغاء دور الشعب في هذه العملية. مرة أخرى تأتي الادانة على لسان شرف الدين: “. . . كلما قرأت فصلاً من فصول المقدمة شعرت بانقباض وادركني اليأس. . . فماذا يبقى للناس؟ لا يبقى لهم إلا الخمول والجريان مع هذه الدورة الجبارة التي تدور بهم من البلوغ الى التلاشي والموت. ماذا يستطيعون أن يفعلوا حين تشرف دولتهم على الهرم؟ لا شيء!!. لم تترك لهم إلا لبس الاكفان والاستعداد للتفسخ والانحلال. . . هذا علم محبط يا سيدي” (88)

لا يكتفي ونوس ينقض نظرية ابن خلدون بل يعرض البديل فيرى أن الفكرة والمصلحة تقومان مقام العصبية، وأن جموع الناس يمكن أن تفعل الكثير إذا ما وحدت بينهم فكرة ومصلحة، وانعقد لديهم عزم وارادة. هذا التفسير المختلف لنظرية العمران وتسفيه ما قال به ابن خلدون من تغييب لدور الانسان وتجاهل للطاقات البشرية، واعتبار دور صاحب السلطة من ملك وسلطان الفاعل الوحيد في مصائر الشعوب، هذا التفسير التثويري للتاريخ والتعرية لرموزه، أثار حفيظة “الغيورين” على التراث فأقيمت ضد ونوس ومسرحيته حملة تشهير واسعة، شأنه في ذلك شأن كل مبدع يسعى لكشف الزيف ويحرك الاسن الذي يختم علىالقلوب والابصار (للبحث صل

حركية الابداع في “منمنمات تاريخية

يقول شوبنهاور: ان المهم في الفن وما يعطيه معناه الحقيقي، ليس فقط أن ينقل الصورة، أعني الجوهري في الفن، هو التعبير لا الصور. لأن الصورة في ذاتها ليست جميلة وإنما الجميل ما يجعل الصورة متحققة بوضوح وكمال. أعني الاثر الفني[2]. . .ترى الى أي مدى استطاعت منمنمات تاريخية ان تجعل الصورة متحققة الوضوح ومن ثم عالية الفنية؟

في المسرحية، التي بحثت في مقالة سابقة في خطابها التثويري[3]، قيمة فنية عالية تبدو أول ما تبدو في تلك التقنية السردية التي يتشابك فيها السرد التاريخي العلمي بالحوار الذي يشف حتى يصل مستوى اللغة المحكية، بالعبارة الشعرية المكثفة، بلغة الجدل المنطقي، مستويات متفاوتة تعمل جميعها لخدمة الفكرة وجعلها متحققة الوضوح. لهذا نقرأ في النص لغات لا لغة واحدة. فالحوار الذي يدور بين العامة، احمد وخديجة مثلاً، تكثر فيه العبارات الشعبية، التي تدور على ألسنة الناس في الحواري والازقة: ” . . . ومن يخاف هذه الحرمة، عند الكلام عن رجل جبان”. أو: “يا ابن عمي انت فصل وأنا ألبس”. “إمشِ وإلا بعجت بطنك وطبلك”….في حين تكثر الايات القرآنية الكريمة عندما يدور الحديث بين الاعيان والعلماء. كما أن الكاتب استفاد من هذه التقنية ليبين هرطقة ومنافقة هؤلاء إذ جعلهم يأخذون من الايات الكريمة ما يخدم أغراضهم وادعاءاتهم ويعرضون عمّا يناهضها. وعندما تكلم ابن خلدون، جاءت لغته على قدر علمه: لغة منطق وحوار عقل وإقناع تكاد لحسن منطقها أن تزين الباطل حقا. ومن الصور الابداعية التي أثرت فنية النص، نهر بردى وشعبان المجذوب. رمزان استخدمهما الكاتب تحفيزاً للمخيلة. فهما الثابتان الوحيدان على طول الرواية. فرغم ما يصيب المدينة من بؤس وتحولات، وما يصيب الناس من تدهور في أخلاقهم وقيمهم، يبقى نهر بردى على دورته الطبيعية، يفيض ويشح. ويبقى شعبان بأسماله البالية وعلى مقولة لا يبدلها: “يما هاتي بزك يمه….جوعان يمه“.

واضح أن الكاتب أراد بهذين الرمزين أن يحيل لزمن الهزيمة والسقوط. وكأني به يطمئن كل الذين أحبطهم زمن الاضمحلال هذا إلى أنه ليس سوى زمن طارئ ،فالمحتل وإن استطاع ان يفرض منطقه على الارض وناسها إلا أن سيطرته هذه لا تطال إلا القشرة السطحية فيما يبقى الجوهر والاصيل على أصالته. لقد استطاع تيمورلنك أن يحتل دمشق ويقتحم قلعتها ويخرب عمرانها ويهدم معالمها الحضارية، وحتى أنه وصل الى نفوس علمائها وأعيانها فأفسدها، إلا أنه لم يستطع تغيير مجرى بردى الذي ظل يفور ويشح ولكنه لا يذهب. وفي انتقاء ونوس لهذه الرمز، جمالية خاصة، فالماء معادل الحياة، وذكره يعني الخصب والنمو. وفي الحضارات، قديمها وحديثها، الديني منها والدنيوي، اتفاق على هذه الرمزية. وفي القرآن الكريم، سورة الانبياء “أولم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي“.

أما شعبان فهو رمز الانسانية البكر في طور براءتها قبل أن يفسدها طمع وأنانية واستئثار. فالانجذاب كما هو معروف نوع من أنواع العودة الى الاصالة حيث الاكتفاء بالضروري هو الاصل، فالمجذوب ينحصر اهتمامه في بز أمه وفي هذا البز فقط عندما يكون جوعان. وفي لفظة المجذوب التي اختارها الكاتب لوصف شعبان فنية عالية، فهو لم يقل “بهلول” أو “مجنون” بل “مجذوب” واللفظة هذه ترتقي فوق مستوى الجنون وتعود في عمق معناها الى السمو والارتفاع عن كل ما هو دنيوي. لذا قالت الصوفية بها تعبيراً عن الانجذاب الى الروح الاعلى والترفع عن حاجات الجسد. لقد جاء موقع هاتين الصورتين من النص كموقع اللازمة من القصيدة, أو الستارة من المسرحية، تختم كل مشهد وتثيرتساؤلات عن مغزى وجودها. ففي الصفحة الثامنة، عندما كانت دمشق تنوء تحت الحصار كانت مياه بردى في غاية الضحالة وكثرت فيه الضفادع كثرة فاحشة. وفي صفحة عشرين عندما تعم الخيبة قلوب الناس يحصل برد شديد ويبقى بردى على حاله من النقص وقلة المياه. وإذ تستبشر الناس خيراً بوصول السلطان الى دمشق ويقيم في قلعتها يبدأ جريان الماء يقوى في بردى (42) وعندما بدأ الناس يستعدون للقتال أمسى الماء يعلو في بردى ويجري على قوة (52) وعقب خطبة التاذلي واجتماع الناس حوله على نية الجهاد، ارتفعت المياه في بردى وصارت تجرى بقوة وتجرف الاغصان والجذوع المتكسرة (64) وإذ تهن المقاومة وتذل المدينة، يؤثر ونوس أن يشيع التفاؤل فيذكر ان هذه المحنة طارئة لا بد ان تزول فها هو بردى لا يزال على عهده “. . . والماء يجري بين السور وعسكر تيمور، والماء يغدق فيه غدقا”(79) وما زال بردى يجري على العادة (96)

وزاد الماء في بردى زيادة كبيرة” (118)

وما زال الماء في بردى يفيض على الضفتين (131) .

وفي ترتيب يكاد يكون هو ذاته يردد شعبان جملته ذاتها: ” يمه. . . يمه. هاتي بزك يمه. . . جوعان يمه. . . عطشان. حليب. . . حليب يمه. الى ان يختتم النص بتشابك الصورتين: شعبان يركض بين الانقاض مرددا جملته إياها: “يمه فزعان. . . الموت يمه. . كله ميت يمه فزعان. . . بزك يمه. . . وبردى يتدفق الماء فيه بزياد ة وشدة لم تعهدها دمشق منذ سنوات طوال (148).

ومن الصور الموحية التي خطت جمالية النص، انتقاء الصلب طريقة لتنفيذ حكم الموت على الشيخ المستنير جمال الدين. ولا يخفى ما في الصلب من معاني الفداء ونكران الذات في سبيل المبدأ أو العقيدة. الى جانب كونه رمزاً دينياً جليلاً في ديانة أصيلة وفاعلة في ثقافة المجتمع الذي تتوجه اليه المسرحية

ولا تقل صورة الاتان التي ولدت كراً صغيراً له رأس إنسان وليس له ذنب،قيمة فنية عن سابقاتها خصوصاً وأنها اتت مرفقة بانحباس المطر. لقد ترافقت هذه الصورة مع اشتداد الحصار على دمشق واتخاذ قرار الاستسلام وخيانة العلامة ابن خلدون وسيره في ركاب تيمورلنك، فجلل المصاب عجيب يصعب على العقل والقلب تصديقهما تماما كمثل هذه الخارقة. ولن يفوتنا مشهد غادة (الفتاة الدمشيقة) وشرف الدين (الشاب المصري) يتعانقان يتماوجان يتداخل جسدهما تداخلاً إيقاعياً وفاتناً. وببطء شديد تتلاشى الاضاءة فوقهما وكأنهما في تداخلهما ارتفاع فوق مستوى المأساة واستشفاف لرؤيا مستقبلية تتولد من تلاحم بلاد الشام بارض الكنانة

هذه الصور وغيرها ألبست النص حلة جمالية رفعته الى مستوى ابداعي جعل المخرجة نضال الاشقر تقول فيه: “نص ونوس شكسبيري المناخ يمكن أن يقدم بطرق وأساليب مختلفة” [4]. في حين اعتبرته د. يمنى العيد نص تنويع إبداعي على معارف متجذرة في ما هو اجتماعي- تاريخي، يخص الانسان العربي في علاقته بهويته وجسده وفكره، كما في علاقته بسياسة حكامه المستبدين. . . وبالتالي، بعيش يوميّ بائس، وتاريخ تتكرر هزيمته” [5]

على رغم كل ما في هذه الابداعية من جماليات، إلا أن النص لا يخلو من هنات وسقطات هنا وهناك. ففي كثير من الحوارات تشتد اللهجة التعليمية حتى تكاد تمسي خطاباً سياسياً مباشراً كمثل ما كان من أمر جمال الدين مع العلماء. أو حوار ابن خلدون مع تلميذه شرف الدين, أو النهاية التي أفضى إليها ابن مفلح التي تختتم فيها الرواية حيث يبدو الهدف واضحاً ومباشراً. وهذا ينتقص من قيمة العمل الفني

ونبقى “منمنمات تاريخية” لبنة في مشروع ونوس الفكريّ الذي نذرعمره القصير له. وفيها يلتقي التاريخ بالحكاية ليصيغا عملاً إبداعياً راقياً. فما يقصر عنه التاريخ الموضوعي تكمله الحكاية. وما تشط به مخيلة الراوي يعقلنه التاريخ. وتبقى الرواية مفتوحة على عدة قراءات

نجمه خليل-حبيب

20/ 11/ 2006

[1] – منمنمات تاريخية، سعدالله ونوس، دار الاداب، بيروت، طبعة أولى، 1996

[2] شوبنهاور، دار النهضة المصرية، ص: 164-165، عن فلسفة الجمال عند سوزان لنجر، إعداد راضي الحكيم ، دار الشؤون الثقافية، العراق، ص: 42

[3] بحثت الموضوع في العدد السابق

[4] النهار الاسترالية، الصفحة الثقافية, عدد: 22/5/1997 [5] منمنمات تاريخية، سعدالله ونوس، دار الاداب، بيروت، طبعة أولى1996، الغلا


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى