صفحات مختارة

إجابات أوّليّة على طريق لقاء اليسار

null


كميل داغر *

يُعقد في أواسط هذا الشهر لقاء طال انتظاره لليسار اللبناني، «من أجل بحث المرحلة الجديدة من الأزمة المستعصية التي يمرّ بها وطننا منذ قيامه، وارتباطاتها العربية والدولية، بحيث يتمّ التوصّل إلى تحديد السبل للخروج منها، مع أهمية دور اليسار في تحقيق ذلك»،
كما جاء في نصّ الدعوة التي وجّهها الحزب الشيوعي اللبناني. وهذا المقال، المقتضب بالضرورة، يحاول أن يقدّم بعض الإجابات الأولية بخصوص نقاط أساسية واردة في الدعوة. على أمل ألّا تحدث أيّ تطوّرات، أكانت موضوعية أو ذاتية، تحول دون ثبات اللقاء المذكور في موعده، وعلى أمل أن يجري التعامل أيضاً بأقصى الجدية معه، ومع خروجه باستنتاجات وتوجّهات متقدّمة، وآليّات عمل فاعلة لوضع هذه التوجّهات موضع التنفيذ.

مهمات مترابطة

هذا ويطرح نصّ الدعوة، بين ما يطرح، مشكلة تتعلّق بكيفيّة الربط بين مقاومة الاحتلال ودعم فلسطين وبناء الوحدة العربية، من جهة، وقضايا التنمية والتقدّم التقني والعدالة الاجتماعية، والتطور السياسي والديموقراطية، من جهة أخرى. وهي مسألة لم تكن تتّخذ هذا الطابع الإشكالي في تاريخ سابق، وإجمالاً، في معظم بلدان العالم، على رغم التفاوت الواضح في تطورها، وذلك بسبب موازين القوى الطبقية على المستوى العالمي بعد انتصار ثورة أكتوبر عام 1917، وما تلى ذلك من تطوّر كثيف لنضالات الطبقة العاملة وما أمكن أن تحقّقه من مكاسب وانتصارات، بنتيجة الأزمات الخانقة والمتواصلة على صعيد المجتمعات الرأسمالية.

كانت الشروط الموضوعية لقيام ثورات اشتراكية ناضجة في عدد واسع من الدول، وهو ما كان يصفه المفكّر الماركسي المجري، جورج لوكاش، بحاليّة الثورة. وكان ثمة اعتقاد راسخ بأنّ الشيء الوحيد الذي ينقص لأجل تغيير العالم إنما هو العامل الذاتي، المتمثّل بالأحزاب الثورية الجماهيرية، المرتبطة بفكر الطبقات العاملة ومصالحها، وبالتالي بالبرنامج الذي يضمن قيادتها لعملية التغيير.

إنّ انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الذي كان يزعم بناء الاشتراكية جاء يضغط باتجاه إعادة النظر بعمق في مسألة حاليّة الثورة، ولا سيما في السنوات القليلة الأولى التي تلت ذلك التحوّل المذهل وأتاحت للكثيرين أن يكرّروا وراء فرانسيس فوكوياما، كالببّغاوات، جزمه الأبله بنهاية التاريخ.

غير أنّ هذا الأخير لم ينتهِ، وواصل مسيرته بدأب وبصورة لا تقلّ انتظاماً. وبقي القانون الذي تحدّث عنه ماركس وإنغلز في مطلع بيانهما الشيوعي، في ما يتعلّق بصراع الطبقات، يفعل فعله بلا انقطاع. وسرعان ما عادت تتعدّل موازين القوى مجدّداً لغير صالح الإمبراطورية الأميركية، ولغير صالح رأس المال المعولم. نزل الملايين إلى الشوارع في عواصم العالم ضدّ الحرب، وتجمّعت الشبيبة العاملة من شتّى البلدان، في سياتل وبورتو اليغري وبومباي، ضد النيوليبرالية. ومجدّداً، بات يمكن الحديث عن التغيير الثوري، وعن قيادة الطبقة العاملة لهذه السيرورة. إنّ قيادة الطبقة العاملة بالضبط، على المستوى العربي العام، وفي هذا القطر أو ذاك، بما فيه لبنان، هي الكفيلة بالربط بين المهمات الواردة أعلاه. وفي ما يخصّ لبنان بالذات، هي التي يمكن أن تعيد ضبط البوصلة الطبقية، بحيث لا تبقى المذاهب والطوائف تقود حركة الجماهير، وتشطر البلد شطرين، وتهدّد بتكرار حروب أهلية سابقة لم يجنِ البلد منها سوى الكوارث، ومئات الألوف من القتلى والجرحى والمشوّهين، عدا الدمار في كل مكان والديون الخيالية، والتخلّف الذريع في الوعي وانقسامات سياسية قاتلة لا علاقة لها على الإطلاق بالمصالح الفعلية للناس. علماً بأنه فيما يحدث هذا الاستقطاب المخيف، تتراجع أوضاع الناس الاجتماعية بصورة مذهلة، وتمضي الطبقة الحاكمة في نهبها لخزانة الدولة، بلا حساب، وفي آن واحد لأوسع شريحة من المنتجين والمستهلكين، الذين تنهار غالبية ساحقة منهم إلى مستوى الفقر، وحتى إلى ما دونه بدرجات.

لقد نجحت البورجوازية المحلية في العقود الأخيرة في ضرب الأدوات الأساسية للنضال الطبقي، وفي مقدمتها الاتحاد العمّالي العام والهيئات النقابية، بما فيها الروابط الطلابية، واتحاد طلبة الجامعة اللبنانية، التي كانت تضمن، قبل ذلك، ولو جزئياً، قيادة التحرّكات الشعبية ضدّ الغلاء، وانهيار مستوى المعيشة، وكبت الحريات، وغير ذلك من تجليات الهجمة السلطوية على مصالح الناس الاجتماعية والوطنية. إنّ عودة حقيقية لليسار إلى واجهة الصراع الاجتماعي والسياسي في البلد لا مفرّ من عبورها بإعادة بناء الجسم النقابي وضمان استقلاله عن أجهزة الدولة، وفي آن واحد عن الطبقة البورجوازية السائدة، ولا سيما جناحها المالي.

القضايا القوميّة

لكن في غضون ذلك وبالتلازم معه، لا بد من أن يجد هذا اليسار، وفي القلب منه الحزب الشيوعي اللبناني، موقعاً أساسياً له، ولجماهيره التاريخية ـ بما في ذلك كل الذين انسحبوا في أزمنة سابقة من تجربته، ولا سيما في العقدين الأخيرين ـ في العمل المقاوم، وفي كسب أوسع الجماهير، من شتى الطوائف، لقضيته ولقضية حماية سلاحه، وذلك بالتعاون والتنسيق الوثيقين مع المقاومة الإسلامية في حزب الله. ذلك أنّ المعركة القادمة ستكون بالغة الضراوة، وطويلة الأمد، في عصر نعيش إرهاصاته الأولى، هو عصر الاهتزاز العميق للتفوق الإسرائيلي (على المستوى الإقليمي)، وفي الوقت عينه، وهذا هو الأهمّ، عصر بداية انهيار الإمبراطورية الأميركية. وانخراط اليسار اللبناني في هذه المعركة لن يضعه فقط في صدام مع اليمين المحلّي، والسلطة المحلية القائمة، أو على الأقلّ مع جناح أساسي منها، بل أيضاً مع النظام العربي المسيطر (وفي القلب منه بوجه أخصّ المملكة السعودية والحكم المصري)، هذا النظام الذي يمثّل صمام الأمان الإقليمي لاستمرار الدولة الصهيونية، من جهة، ولبقاء الهيمنة الإمبريالية على الوطن العربي، من جهة أخرى. وهو واقع لا بدّ من أن يؤدّي دوراً مؤثراً في تعزيز الشروط الموضوعية والذاتية في آن واحد لوحدة عمل اليسار العربي، ولتبادل التأثير العميق بين مكوّناته الإقليمية، مع موقع خاصّ وأساسي في عملية تبادل التأثير هذه لليسار اللبناني، ليس فقط بنتيجة أدائه العملي، بل أيضاً بنتيجة إشعاعه الفكري والبرنامجي، الذي يتجاوز الإطار الوطني المحدود إلى الأفق القومي، عبر إيلائه أهمية جوهرية لمسألتين في برنامجه يُفترض أن تكونا مركزيّتين، ألا وهما القضية الفلسطينيّة (وتأمين الدعم الأقصى للشعب الفلسطيني لتمكينه من ممارسة حقّه في تقرير مصيره) وقضية الوحدة

العربية.

وبخصوص المسألة الأولى، يتأمّن هذا الدعم، لبنانياً، بمقدار ما تتأمن الشروط التالية:

استمرار الصدام مع إسرائيل والإمبريالية العالمية وتأمين ظروف ومقومات هذا الاستمرار العربية والدولية.

حماية السلاح الفلسطيني في المخيمات وإحباط مؤامرة نزعه التي كان آخر تجلياتها تدمير مخيم نهر البارد، علماً بأنّ إعادة إعمار هذا المخيم الفورية يجب أن تكون مطلباً مشتركاً للجماهير اللبنانية والفلسطينية.

تأمين الوحدة النضالية بين السكّان المحلّيين، على اختلافهم، ومن ضمنهم اللاجئون الفلسطينيون، وبالتالي وحدة السلاح المقاوم، اللبناني والفلسطيني.

الضغط الجدّي والدائم لأجل انتزاع الحقوق المدنية الكاملة للشعب الفلسطيني على الأرض اللبنانية، بالتلازم مع الدعم غير المشروط لحقّه في العودة، تنفيذاً للقرار الأممي رقم 194 الصادر عام 1948.

الضغط لأجل تبنّي الدولة اللبنانية مطلب سحب الاعترافات العربية بإسرائيل وقطع العلاقات معها بشتى أشكالها، وفي الوقت نفسه لأجل أن يصبح هذا المطلب نقطة مركزية في برنامج قوى اليسار والتقدّم والديموقراطية في شتى البلدان العربية.

أمّا بخصوص المسألة الثانية، مسألة الوحدة العربية، فيجب أن تعود إلى واجهة برنامج اليسار اللبناني، وانطلاقاً من ذلك إلى واجهة برامج شتى مكوّنات اليسار العربي، وذلك على أساس المطالب الانتقالية التالية:

الضغط لأجل تحويل الجامعة العربية إلى أداة فعالة لحل الخلافات سلماً بين أعضائها، وتطبيق المعاهدات المعقودة في إطارها في فترة صعودها بوجه أخص، ولا سيما معاهدة الدفاع المشترك، ومقاطعة إسرائيل والشركات المتعاملة معها.

العمل على إلغاء الحواجز الجمركية بين الدول العربية، وعلى إقامة سوق عربية مشتركة، تمهيداً لتوحيد العملة، والدخول تالياً في سيرورة توحيدية شاملة، ولا سيما في ظلّ العولمة الرأسمالية الراهنة والحاجة إلى احتواء الأضرار الجسيمة التي تلحقها بالاقتصادات الوطنية، وبقدرة بلداننا على إحداث تنمية ذاتية حقيقية وسيطرة جدية على ثرواتها. وهي سيرورة تتضمّن كذلك اعتماد تأشيرة عربية، وإنشاء المشاريع المشترَكة على صعيدي الصناعة والزراعة، وحلّ مشكلات المياه والري على مستوى عربي شامل، وإنشاء مصرف قومي يتغذّى من تحويل أموال النفط والغاز إلى الاستثمار والتنمية في الوطن العربي، ويكون بين أهدافه في الوقت ذاته تحرير الشعوب العربية من الديون الخارجية ومن سيطرة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمؤسّسات المالية المعولمة.

الضغط لإجبار الحكومات العربية على أن تضع في أعلى جدول أعمالها، في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة، مسألة نزع سلاح الدمار الشامل الإسرائيلي، ولا سيما السلاح النووي، كما لأجل تقديمها شتى أشكال التضامن الفاعل للشعب الفلسطيني، من أجل ممارسة حقّه الكامل في تقرير مصيره، وعلى طريق ذلك تقديم أقصى الدعم المادي والمعنوي إلى مقاومته، في شتى أماكن وجوده داخل فلسطين التاريخية، فضلاً عن توفير مقوّمات صموده في وجه آلة القتل والتدمير الإسرائيلية، المدعومة أميركياً.

الضغط لإعادة الاعتبار لاستخدام سلاح النفط، وذلك لأجل حماية المصالح الحيوية للشعوب العربية وإحباط الهجمات الإمبريالية التي تستهدفها.

العمل على إحباط مشاريع الإدارة الأميركية لإقامة ما تسمّيه تارة الشرق الأوسط الجديد، وطوراً الشرق الأوسط الأكبر أو الكبير، والضغط في آن لتفكيك القواعد العسكرية التي تقيمها في العديد من البلدان العربية، ولوقف المناورات العربية الأميركية المشتركة، وكامل التسهيلات التي تقدمها الأنظمة العربية إلى آلة الحرب الأميركية.

دعم حقّ الشعب العراقي في فرض انسحاب فوري للقوات الأجنبية من العراق، وفي استعادة سيادته وسيطرته الكاملة على ثرواته.

السعي إلى حلّ قضية الأقليات القومية عن طريق تمكينها من ممارسة حقّها في تقرير مصيرها، بما في ذلك الانفصال، مع تشجيع بقائها وعدم لجوئها إلى هذه الخطوة القصووية، وذلك عن طريق تأمين المساواة التامّة بينها وبين الأكثرية العربية وضمان كل حقوقها المدنية والثقافية والديموقراطية. وضمان حق ممارسة الجميع، من شتى الملل والأديان، معتقداتهم الدينية بالكامل، وفي الوقت عينه ضمان الفصل التام بين الدين والدولة.

السعي إلى إرساء علاقات تضامن وتنسيق وثيقة بين قوى اليسار والتقدم والديموقراطية في شتى البلدان العربية، فضلاً عن بلورة نقاط برنامجية ذات طابع انتقالي تتضمن السعي المشترك إلى إنهاء السيطرة الإمبريالية على الثروات العربية، وإحداث تصنيع متقدّم للمنطقة على أساس المصالح الفعلية للمواطنين، سواء كمنتجين للثروة الاجتماعية أو كمستهلكين، مع مراعاة دقيقة لحماية البيئة، وإرساء الأسس الضرورية للتحول الوحدوي الاشتراكي، بالتعاون والتضامن مع شعوب العالم الأخرى.

وبالطبع، فإنّ هذه المهمات، التي تتجاوز الساحة الوطنية الضيقة إلى الأفق القومي، لا يمكن الفصل بينها وبين المهمات الوطنية البحتة المتعلّقة بقضايا التنمية المستدامة والتقدّم العلمي والتقني، والعدالة الاجتماعية، والتطوّر السياسي والديموقراطية، وكل ما يمكن أن يمثّل رافعة في تجاوز أزمات النظام الطائفي اللبناني، الرأسمالي المتخلّف والتابع.

نحو برنامج انتقالي وطني

لقد أوحى نصّ الدعوة بأهمية اكتشاف شروط الردّ على أزمة النظام اللبناني الطائفي باتجاه تجاوزها، ملمّحاً إلى إمكان الاستناد في ذلك إلى جوانب من البرنامج المرحلي للحركة الوطنية، في سياق رؤية نقدية لاتفاق الطائف.

وفي الواقع، إذا كان هذا الأخير والبرنامج المنّوه عنه يتضمّنان بصورة جزئية، نقاطاً إصلاحية للنظام المذكور، ولا سيما انطلاقاً من مطلب إلغاء الطائفية السياسية، فيما يزيد البرنامج الإصلاحي المرحلي مسألة الزواج المدني الاختياري، فإن ذلك يبقى قاصراً إلى حد بعيد عن ملامسة الجوهر الذي بدونه سوف يصمد هذا النظام، كما فعل في العقدين الأخيرين، لا بل سيزداد ترهّلاً وتعفّناً وإنتاجاً لشروط تجدّد الحرب الأهلية.

إنّ ذلك يحفّز بالضرورة استجلاء رؤية برنامجية أكثر جذرية، تمتلك طابعاً انتقالياً، ولا تقتصر على الإصلاح السياسي والإداري، بل تتجاوزه إلى بدء سيرورة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي هي الوحيدة القادرة على إنتاج ظروف الانتقال بالإصلاح السياسي والإداري إلى التنفيذ، عبر الإفساح في المجال أمام إزاحة القوى السياسية التي تحجز هذا التطوّر وتشلّه وتعيقه منذ عام 1990.

فعلى الصعيد الاقتصادي، الذي يشهد تدهوراً سريعاً في مستوى معيشة أوسع الجماهير، يتزايد إمساك البورجوازية المصرفية والماليّة بمفاصل الاقتصاد اللبناني، وانتهاج سياسة استدانة خطيرة تضع البلد بكامله تحت رحمة الشركات الأجنبية المعولمة، والبنك وصندوق النقد الدوليَّين، بعدما فاقت الديون الخمسين ملياراً من الدولارات؛ ويتعرّض جزء أساسي من هذه الديون للنهب والهدر على يد الطبقة البورجوازية السائدة وحلفائها في السلطة السياسية، من أسياد الطوائف وأمراء الحرب وأزلامهم؛ وتنتهج السلطة المذكورة سياسة اقتصادية، عبّرت عنها بوضوح الورقة الإصلاحية المشهورة لحكومة السنيورة الملتزمة الاتفاقات الدولية التي كان آخرها ذلك المُقرّ في مؤتمر باريس 3. وهي سياسة بين أهم بنودها خصخصة أجزاء حاسمة من القطاع العام المحلّي، ضمن ظروف تؤكّد أنّ هذه العملية ستندرج هي الأخرى في سياسة نهب المال العام ذاتها، بحيث لن تؤدّي إطلاقاً إلى إطفاء الدين العام، ولا حتّى الفوائد التي تتراكم عليه، كما يزعم دعاة هذه الخصخصة والقائمون على تسويقها ووضعها موضع التنفيذ. علماً بأنّ كل ذلك يجري تحميل أعبائه للجماهير الواسعة التي يتزايد إفقارها يوماً بعد يوم، في وقت نعرف فيه أن الحدّ الأدنى للأجور لم يتغير منذ عام 1996، على الرغم من التضخم الزاحف باستمرار، ولا سيما في السنوات الأخيرة.

إن هذا الواقع يتطلّب إعادة نظر جذرية في السياسة الاقتصادية في اتجاه التدابير الآتية:

ـ الحؤول دون المضي في سياسة الخصخصة، والعمل على حماية القطاع العام وإخضاعه لرقابة مشدَّدة يشارك فيها العاملون فيه، فضلاً عن المحاسبة الصارمة لحالات الفساد والهدر في شتى الإدارات والمؤسّسات العامة، وفي الوقت عينه إحباط التوجهات الحكومية لتطبيق البرامج الاقتصادية والمالية النيو ليبرالية.

ـ اعتماد الضريبة التصاعدية على الدخل، وإنزال أشدّ العقوبات بالتحايل على الضريبة من جانب أرباب العمل وأصحاب المهن الحرّة والتجّار وأصحاب الدخول المرتفعة.

ـ وقف الاستدانة، وفرض تحقيق شامل لكشف حقيقة صرف عشرات المليارات من الدولارات المستدانة، مع ما رافق هذه العملية من نهب، وتحديد القوى المسؤولة عن ذلك ومحاسبتها الدقيقة على نهبها وهدرها، واستعادة الأموال المنهوبة مع فوائدها. فضلاً عن ضرورة استعادة الأملاك البحرية وغيرها من الأملاك العامة من تحت سيطرة مستثمريها غير الشرعيّين الحاليّين، بعد إجراء تسوية لصالح خزينة الدولة تأخذ بالاعتبار الأرباح المحقَّقة سابقاً من استثمارها.

ـ إعادة الاعتبار لدور الحركة النقابية، في مواجهة الدولة وأرباب العمل، مع إعادة نظر جذرية في هيكليّتها، ضمن هذه الغاية، والسعي إلى ضمان انغراسها في الوسط العمّالي وقطاعات الإنتاج، والتزامها النضالي القضايا الشعبية والوطنية. هذا مع الضغط لأجل الكفّ عن تحميل الشغّيلة، وكامل الفئات المعسرة وزر الأزمة المسؤولة عنها الطبقات السائدة، وتالياً تطبيق سياسة اجتماعية قائمة على اعتماد السلم المتحرّك للأجور، وتأميم المنشآت المهدَّدة بالإفلاس والإقفال، وتسييرها من جانب عمّالها وموظّفيها، كما حصل خلال الأزمة الأرجنتينية، قبل سنوات. فضلاً عن الضغط لاعتماد الرقابة العمّالية في شتى مرافق الإنتاج.

أمّا على الصعيد السياسي، فيجب اعتماد برنامج انتقالي يتضمن الإجراءات الآتية:

ـ الدعوة إلى انتخاب جمعية تأسيسيّة، على أساس غير طائفي، تعيد النظر جذرياً في الدستور اللبناني الحالي نحو تجاوز اتفاق الطائف، وتحقيق فصل حقيقي بين الدين والدولة، واعتماد الزواج المدني الاختياري، بصورة مؤقتة، تمهيداً لتجاوزه إلى قانون مدني للأحوال الشخصية، في مهلة لا تتجاوز السنوات العشر بعد ذلك. على أن يتضمن الدستور الجديد، الذي تقرّه الجمعية المذكورة، تحقيق المساواة التامّة بين المرأة والرجل، في شتى الميادين، ومن ضمنها قوانين الإرث والعمل، والعقوبات، والجنسية؛ وعلى أن ينصّ أيضاً على ضمان ممارسة الحريات الديموقراطية، عبر تأمين شروطها المادية، ولا سيما بخصوص حرية التعبير والإعلام التي يجب ضمانها بمشاركة الدولة في تمويل الصحافة الحزبية، من دون قيد أو

شرط.

وعلى أن يشدّد هذا الدستور أيضاً على قمع أي إعاقة من أي طرف كان لعمل المجلس الدستوري، مع إعطاء هذا المجلس حقّ المبادرة، تلقائياً، إلى دراسة كل القوانين التي يصوّت عليها المجلس النيابي، والبت بدستوريتها، أو العكس.

ـ وضع قانون للانتخابات النيابية، يلحظ النسبية والدائرة الكبرى، وخفض الاقتراع إلى 18 سنة، وجعل الاقتراع في مكان الإقامة الفعلية، وإعطاء النساء حصة لا تقل عن 30 في المئة من مقاعد المجلس النيابي.

ـ تعزيز التعليم الرسمي الابتدائي والثانوي، والجامعة اللبنانية، مع رصد موازنة جدية للأبحاث، على طريق تمكين البلد من الالتحاق بالتقدّم العلمي، وبالتالي استعادة الأدمغة المهاجرة، وتطوير اقتصاد منتج في كل المجالات يسهم في حل مشكلة البطالة والهجرة حلا جذرياً.

ـ الضغط من أجل تأمين الشروط الضرورية لقيام قضاء مستقلّ تماماً عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويتمتع بأكبر قدر ممكن من النزاهة ونظافة الكف، مع إتاحة المجال واسعاً أمام المتقاضين لملاحقة القضاة المرتشين والفاسدين وكفّ أيديهم وإنزال أقصى العقاب بهم.

في كل حال، إن هذه بعض الأفكار الأساسية التي يمكن أن تمثّل مدخلاً لإغناء الحوار الذي سيبدأ يومي السبت والأحد القادمين، 15 و16 آذار الجاري، على أن يتمكّن لقاء اليسار من اختيار لجنة متابعة تمتلك الكفاءة والحيوية وما يكفي من الحوافز المعنوية لأجل إنضاج شروط قيام حالة يسارية متقدّمة منغرسة في الوسط الجماهيري، وقادرة على إنشاء بديل متقدّم للقوى المذهبية المرتبطة بالنظام الطائفي الرأسمالي اللبناني التابع، في مرحلة هي الأشد خطورة في تاريخ لبنان، وكامل المنطقة

العربية.

* كاتب ومحامٍ لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى