اليز اغازريانصفحات مختارة

الجسد والمكان في الفضاء المقدسي: خلجات ثقافة المستعمَر من وحي فرانتز فانون

null
اليز اغازريان
قبل خمسين عاماً نُشرت وثائق سرية متعلقة بالثورة الجزائرية تضمنت خلجات فرانتز فانون حول العلاقات الاستعمارية إثر مرور خمس سنوات من الثورة الجزائرية. وقد جاء فيها تحليل سيكولوجية المستعمَر وبعض المحاور ذات العلاقة بالمرأة الجزائرية والإعلام والعلاقات الأسرية والطب وانعكاساتها على العلاقات الاجتماعية والعمل السياسي في المجتمع الجزائري في ظل الاستعمار الكولونيالي الفرنسي. وقد حثتني هذه الوثائق المنشورة بعنوان “العام الخامس للثورة الجزائرية” على توثيق ملاحظاتي حول العلاقات الكولونيالية في القدس الشرقية وتجلياتها على الجسد الفلسطيني المقدسي، بمكانه وزمانه المشرذمين. وبينما يتم في الآونة الأخيرة في الخطاب الشعبي الفلسطيني تعهير الفلسطينيين القاطنين في البلدة القديمة “وكر المخدرات والدعارة والإسقاط” تحاول هذه الخلجات النظر بشكل أعمق إلى ديناميات المجتمع الفلسطيني المقدسي في مواجهته لنظام الفصل والفحص العنصري في القدس الشرقية.
يتراشق التبجيل بـ “زهرة المدائن” ومساحة القدس العامة من قبل القيادات العربية المحرومة من المدينة وسباق المناصرين الدوليين المتكدسين فيها. وفي زاوية أخرى كانت حتى وقت قريب امتداداً للمدينة نفسها، ينهمك البعض بخطاباتهم المتكررة حول جماليات القدس القديمة المتخيلة، ونقيضها المقدسي “الخائن”، الذي “يحظى” بالوجود في المدينة، صاحب الجسد “المدنس” بـ “المخدرات والإسقاط والدعارة”، حامل بطاقة “افتحي يا سماء” والمتحدث باللكنة التي أخذت النكات خارج الأسوار بوضعها في قوالب مخصية من رجولتها. يقف “الابن العاق” المعترض لأجساد الاخوة من حملة البطاقات ذات اللون الأرضي في طوابير التنميط الكولونيالية. يتجرع “ابن التأمين” صبّار الوجود في المدينة. يرى من غرفه الصغيرة وعبر الصحون المركبة على القبب جماليات مدينته بينما يتعرض أرضه وصوته للاغتصاب وجسده للتنميط والهيمنة.
في كل خطوة يقوم بها، يعيش المقدسي ديالكتيك الاستعمار. فهو مراقَب في كل تحرك يقوم به، مضطر لإعادة تحديد علاقته مع ذاته ومستعمريه ومكانه المعرّض للتشرذمة المستمرة. وفي البلدة القديمة، يعيش آلاف المقدسيين في غرف خانقة وزوايا تفوح منها روائح ممزوجة بالرطوبة والبخور والدخان والطهي ورحيق الربيع والنفايات والبهارات والعطور وقهقهة الجيران وقعقعة الأنباء والأسواق الملونة وضجة ورتابة الحياة اليومية بمراسمها وشعائرها وطقوسها. تكاد تغيب الحدود الفاصلة بين المساحة الخاصة والمساحة العامة. فكله مكشوف للسوّاح بعدساتهم الفضولية والجيران بعيونهم الملتزمة وأجهزة الرقابة والإعلام واحتمالات المداهمة. وعلى النقيض من ذلك، يأخذ المقدسي بالتجول في أسواق القدس الغربية البيضاء، وهناك يعيش نشوة افتراضية. يحسد مستعمره على المساحة الرحبة التي يتحلى بها والشوارع “النظيفة” المؤمنة والمقاهي الحرة. وينظر إلى الإسرائيلي نظرة النقيض. فالإسرائيلي الغربي يتحلى بالمكان والزمان والتعليم والرفاهية ويجول بثقة في الشوارع، بينما يضطر المقدسي لأن يتخفى.
مكان المقدسي محدود. تحدد السلطات الاستعمارية نسله وامتداده الجغرافي والديمغرافي والبيولوجي، فيحترف حيل الامتداد والتسلل والتكاثر. يتنافس الجيران على المربعات والمثلثات والدوائر والحواكير أمام شح الموارد والتراخيص. المكان المفتت يبتلع الزمان. يعيش المقدسي في حالة ترقب. فكيانه ووجوده في المدينة معرضان للتهديد الهلامي، وفي أي لحظة قد ينقض المستعمرون على مكانه الضيّق أو قد يتم ترحيله أو اعتقاله أو هدم منزله. تريده الأيديولوجية الصهيونية أن يرحل بعيداً أو أن يبقى في نفس البقعة دون توسع سكاني أو انتشار إلى المناطق المكرسة “لليهود فقط” ودون خصوبة سكانية تهدد الإحصائيات. أما إسهام القيادات فغالباً ما ينتهي بصور لرجال في بدلات رسمية في إطار حداثوي لامع لفنادق فخمة، بينما تستمر سياسة التطهير العرقي على أرض الواقع. فالمقدسي الذي عهد أن ينتقل إلى نفس الامتداد الجغرافي الذي أخذ يدعى بـ “الضفة الغربية” يضطر المرور من سرطان طوابير التفتيش، وإذا حدث أن مل من الحدود المفرضة وتحركت قدماه إلى الجانب “اليهودي” من المدينة تعرض جسده لجهنم الرقابة والفحص العنصري أو تكفير وطنيته من أبناء شعبه. يعيش المقدسي في حيرة وجودية. يسكر البعض على المزاج الاستهلاكي الهروبي مشككين بماهية المقاومة في أجواء تغيب فيها حرية التعبير وفي وقت تنصلت عنهم القيادات الفلسطينية (مثلما تنصلت عن اللاجئين الفلسطينيين وعرب “الداخل” وقطاع “غزة” من قبلهم مخيبة آمالهم بأي بديل). وإذا بالمستهلك الهارب أيضاً يثير الأعصاب العنصرية، من خلال قيامه، من حيث لا يدري، على تلويث نظام الفصل من خلال “مواجهة فضيحة الفصل العنصري بفضيحة الاختلاط”.
يشعر المقدسيون بالذنب على التجول في الجانب الغربي من المدينة ويشعرهم مستعمروهم بأن مكانهم مقتصر على مساحتهم وقفصهم الضيق. إذ يسهل على المستعمِر ضبط المستعمََر إذا كان في مكان محدد. إنّ تسرب العربي إلى المساحة المحددة للعرق الأوروبي يخيف المستعمِر. فتلك المساحة الرحبة من نصيب اليهودي ولا يحق للعربي التحلي بها. يتحدى المقدسي البسيط هذا النظام. يجد نفسه متمرداً مكانياً. تتحدى النسوة المقدسيات والبروليتاريا المقدسية دون وعي نظام فصل المدينة. فمع إنشاء جدار الفصل العنصري وسياسة العزل بين القدس والضفة الغربية يدفع التكاثر السكاني للمقدسيين، ووجودهم في مساحات ضيقة مزدحمة وعملية البحث عن فرص العمل الشحيحة إلى الامتداد العملي والجسدي إلى القدس الغربية. يتجول المقدسي في المناطق المنفصلة المكرسة لليهود فقط ويلوث نظام الفصل العنصري. فهو لا يقر بأن غرب المدينة هو ليس جزءا من مدينته، بل يجد نفسه يتغلغل أكثر فأكثر فيها. يتحدى الاتفاقيات والمفاوضات التي تقسم مدينته. وكلما زادت الجدران ونظام الفصل العنصري وتكرس عزله عن الضفة الغربية، تزيد ثورة المقدسي على الجغرافيا الضيقة وتتطور عنده مهارات الاختراق والتسلل والتخفي والاستمتاع بالمساحة المكرسة للمستعمِر. سيكون لذلك آثار على القدس في المخيلة الجماعية للمقدسيين على المدى البعيد، حيث سيشعر المقدسي بأن القدس الغربية جزء من مدينته رافضاً الاتفاقيات الضيقة. سيؤدي ذلك إلى تحولات في حدود القدس العربية في الذاكرة المتخيلة للمقدسي على المدى البعيد. فمن جهة، سيشعر المقسيون بأن لهم حق في القدس الغربية، ومن جهة أخرى سينتشر وباء مرض الأمنيزيا ونسيان كون أحياء الضاحية والرام و أبو ديس وغيرها التي فرضت إسرائيل إلحاقها للضفة الغربية جزءاً من قدسهم ومدينتهم. ومن المفارقة بمكان قيام بعض المقدسيين باستئجار شقق في مستوطنة بسغات زئيف وتعبيرهم بأنها “فلسطينية”.
“إن الأبيض هو الذي يخلق الزنجي، ولكن الزنجي هو الذي يخلق الزنوجة” (فانون)
يتعرف المستعمِر على المستعمَر من خلال تحركات جسمه، لغته، ونبرته. يتعرف على المستعمِرة من خلال زيها وزينتها وكحلها. في كل مرة يدخل فيها المقدسي دكاناً على الطرف الآخر من المدينة ذاتها، هو معرَض لسياسة “الفحص العنصري”. ففي المقاهي والحافلات والمحلات التجارية والمستشفيات والمساحات العامة الإسرائيلية تترقب العيون لغة الجسد “الشرقية”. فبما أن “العربي” غير ملوّن على غرار نظام الأبارتهايد الافريقي، يشيع في إسرائيل التعرف على “العربي” من خلال تحركات جسده، نبراته، زيه ويمتد ذلك لليهود من أصول عربية. يتم تحديد مكانة الإنسان في سلم الرقي العرقي من خلال هذه الآلية. في كل مرة يواجه فيها الإسرائيلي إنساناً آخر، يتم معاملته بناء على موقعه من سلّم تدرج عرقي أقرب إلى النمط الأوروبي. فالعربي الأشقر المرتدي لبنطال بماركة معينة معرض لمعاملة أفضل من أخيه الأسمر المرتدي لماركة مختلفة، والعربية المرتدية زياً أقرب لشكل المستعمرين، معرضة لمعاملة أفضل. يقوم المستعمر بتذويت نظام التفحص العنصري هذا. فكثيراً ما يتعرف على أخيه العربي، ويحاول التستر عن ذاته والشعور بالتنصل عن أخيه العربي في الجانب اليهودي. فلقاء عربي آخر يذكر المستعمر بذاته التي يحاول الهروب منها، ويخضعه لنظام الرقابة الاجتماعية التي يحاول تحرير نفسه منها نحو فردانية آنية.
يعيش العامل المقدسي انفصاماً داخلياً. فهو يترعرع على مفاهيم ذكورية تزوده بمكانة أعلى شأناً من المرأة في المجتمع الفلسطيني، تقوم والدته بتزويده بهالة من التقديس وتفضيله على إخوته من الفتيات، فإذا بهذه الأنا (الإيغو) تصطدم بمسؤوليات يصعب تلبيتها (إيجاد مصدر دخل) ومعاملة مختلفة في الطرف الآخر من المدينة. يبدأ الشاب المقدسي بالإدراك بأن سطوته أقل شأناً مما نشأ. فيعيش هذا الانفصام الداخلي بين “العربي” في القدس الغربية وبين السيد المأمور في أجواء عائلته. ومن المفارقة بمكان أن المتجول في القدس الغربية صبيحة يوم السبت (العطلة الأسبوعية عند الإسرائيليين) كثيراً ما يصادف مجموعات من الشباب العرب الذين يتمشون في القدس الغربية ويحاولون عيش دور “الإسرائيلي” من خلال محاولة الاستحواذ الافتراضي بالمساحة العامة. ومع إغلاق المحلات، نجدهم يبرزون سيكولوجية المقهور فنجدهم يحاولون التمتع ببعض المكانة والسلطة وعيش دور “الإسرائيلي”. فمع غياب الإسرائيليين يأخذ هؤلاء الشباب المتسربون بممارسة دور شباب “الجيتو” وممارسة سلطة افتراضية عدوانية أحياناً وإبراز سلوكيات الانحراف مثل التحرش بالنساء. يستمعون إلى موسيقى إسرائيلية ويتحدثنون بالعربية حيناً وبالعبرية حيناً آخر.
يحسد المراهق المقدسي مستعمره البرجوازي الأبيض. يحاول أن يعيش دور الإسرائيلي. أن يخفي عروبته، أن يتحلى بجسد الإسرائيلية أملا منه بالشعور بالسطوة والتمتع ببعض ما يتحلى به محتله. يحاول أن يحرر نفسه من خلال الاستهلاك. أن يرتدي ملابس تقرّبه من صورة الإسرائيلي، أن يتناول الطعام ذاته وأن يرتاد نفس المساحات. يتذوق المستعمِر مطاعم المستعمَر باستمتاع، في الوقت الذي يخفي فيه صاحب العمل الإسرائيلي الطاهي العربي خلف الستائر. يأكل المستعمَر طعاماً من ثمار أرضه المصادرة والخارج من لمسات أخيه العربي المخفي خلف الستائر ولكن بغلاف إسرائيلي وتحت نظرات إقصائية تشير إليه وتلومه على التجول في الجانب “الإسرائيلي” من المدينة. وكثيراً ما يشعر الشاب المقدسي بالتحرر الآني في القدس الغربية. فهناك يهرب من وطأة الرقابة الاجتماعية الصارمة ومسؤوليات “الرجل” المعهودة في القدس الشرقية والعادات والتقاليد والمساحة الضيقة ولكنه سرعان ما يدرك موقعه في سلم علاقات السلطة ويصطدم بواقع العلاقات الكولونيالية.
يتحلى بعض العمال العرب بصداقات مع بعض العمّال الإسرائيليين. تظهر أحياناً بعض التضامنات وعلاقات الصداقة بين العمّال في شرائح البروليتاريا المحلية، وتمتد أحياناً إلى المساحة الخاصة. الآباء يشعرون بصعوبة ضبط أبنائهم. فالابن ينشأ على رؤية والده مهان من قبل السلطات العسكرية. يتسلل الابناء إلى “أماكن غير معروفة” في الجانب الآخر من المدينة. كثيراً ما يتقنون العبرية أفضل من آبائهم. يتمرد الأبناء على النظام القيمي بشكل متناقض. يعيش العامل القيم الدينية الرجولية في القدس الشرقية. من جهة أخرى، يشعر في غرب المدينة مساحة لممارسة الممنوع اجتماعياً في القدس الشرقية وفسحة للانحراف على القيم الأبوية التقليدية وعن الدين المتزمت فيؤدي ذلك لعواقب مختلفة. ومع محاولة الحصول على فسحة من الحرية في القدس الغربية يتعرض المقدسي للضرب في القدس الغربية إثر اكتشاف بعض الإسرائيليين أنه ينتمي إلى قاع سلم “الفحص العنصري” – عربي، مسلم، متدين، أسمر. فيتم إيقافه بمسوغات محاولة الكشف عن إرهابيين. يضطر المقدسي تحديد بطاقة هويته وهويته العرقية باستمرار. في مواجهة ذلك يدفع الخوف البعض إلى التشديد المفرط على المسالمة وعدم التسيس في المساحة العامة الإسرائيلية، بينما يتعلم البعض الآخر مهارة التخفي، أما البعض الآخر فيبدأ بإدراك حقوقه في القانون الإسرائيلي ويدافع بثقة وبلغة عبرية متقنة عن ذاته وأصدقائه. وكثيراً ما يعيش المقدسي المراهق أزمة التخفي عن هويته في كل من القدس الشرقية (حيث يضطر إلى إخفاء هويته الذاتية ونزواته) وفي القدس الغربية (حيث يضطر إلى إخفاء هويته الدينية وعروبته في نظام فحص العروبة). وفي مواجهة شعور الانتقاص يأخذ العامل العربي بتفخيم ال “أنا” في القدس الشرقية وكثيراً ما يترافق ذلك مع التشديد على هوية ذكورية دينية متعالية.
في محاولاتها للهروب من قهر المجتمع الذكوري الفلسطيني، تشعر المقدسية بنشوة حرية مؤقته من خلال تذويت حرية مستعمرتها التي تتمتع بالمساحة والحدائق والشوارع و”السوبرماركت” الرحب “النظيف” حيث تخف فيه الرقابة الموجودة في المدينة. تحسد الأم الفلسطينية نظيرتها الإسرائيلية على مساحتها وتبجل بالخدمات الاجتماعية المتوفرة للصحة والطفولة والمرأة التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية. في نفس الوقت تشعر المقدسية بتهديد على البقاء. فسياسات الهدم وسحب الهويات تهدد نسل عائلتها ومنزلها. تبدأ المقدسية بالبحث عن الاستقرار خوفاً منها من أجهزة الرقابة. فبينما يشدد المقدسي داخل المجتمع المقدسي على رجولة وهوية سياسية دينية، تركز أغلب النساء على الاستقرار والقضايا الاجتماعية. ولكن في اللحظة التي تعيش فيها المقدسية تجربة الفقدان فإنها تتمرد على نظام الاستقرار ذاته. وفي قرى القدس حيث يبدي الاحتلال عنجهية من مصادرة الأراضي وفرض الجدار، تنشط المرأة على الصعيد السياسي.
على غرار الجزائرية، تشعر المقدسية بأنها مكشوفة للنظام الاستعماري بآليات الضبط والفحص والتقنية والتحديد الديمغرافي الذي يفرضه. على غرار الأرض يتعرض جسدها للكشف من قبل النظام الاستعماري، وكثيراً ما يؤدي ذلك من جهة إلى ردود فعل مثل تغطية جسدها من جهة، أو الكشف عنه للتماهي و”المرور” من جهة أخرى. يشعر المقدسي أيضاً بعدم القدرة على الضبط على المرأة، الأمر الذي يدفعه إلى الهيمنة المتزايدة على جسدها. ولكنه سرعان ما يكتشف بأنه عاجز عن ذلك. نعيش حالياً هذا الواقع. تتمرد المرأة أكثر فأكثر على هيمنة الرجل هذه عليها. يزيد العنف الأسرى. ويحاول النظام الاستعماري “حماية” المرأة من العنف ذاته بينما يتسمر العنف والعنصرية من قبل القوات الإسرائيلية والجرافات الإسرائيلية المهددة والمخترقة خصوصية الفلسطينية ومساحتها. يأمل فانون أن تنتقل المرأة إلى مرحلة تحرر فيها جسدها وتصبح قوة فاعلة في المقاومة. تقاوم المرأة الفلسطينية، بطريقتها، عدة تحديات. فهي في صراع تحد مع ذاتها، ومع الرقابة الاجتماعية، ومع والدة زوجها، ومديرها/مديرتها والموظفين/ات الآخرين ومع أخيها أو والدها أو زوجها، والأوضاع الاقتصادية ومع الاحتلال بأدواته الاختراقية والعنصرية. تذوت بعض النساء نظام القمع هذا وتساهم دون ملاحظة في إشاعته، بينما تتمرد أخريات هذه الأنظمة بطرق ودرجات متفاوتة. إن تضامن المتمردات في حركة اجتماعية سياسية فاعلة قد يكون له عواقب فاعلة أكثر مما قد نتخيل. ومن المؤسف أن أغلب النساء غير متضامنات في حركة كهذه.
تجد المراهقة في الفسحة المجهولة في الجانب الإسرائيلي من المدينة مساحة لممارسة الممنوع والكبت اجتماعياً تحت اضمحلال الرقابة عليها، فتصاحب هناك أصدقائها وتضحك بصوت عال أو تغير من زيها وتحسد المستعمرة على حريتها ومساحتها وحقوقها. في نفس الوقت تشعر المراهقة الفلسطينية خوفاً من الأعين التي تخترقها وتراقب حجابها، ومن المجهول إجتماعياً في القدس الغربية، الأمر الذي يهدد العالم كما نشأت عليه، فتتناوب مشاعرها بين الحسرة والرغبة. تثير هذه الفسحة غضب الشاب المقدسي ويتضايق من قدرة المقدسية على الهروب لوهلة من سطوته وممارسة “الممنوع اجتماعيا”. وفي علاقات التسوّق تتضايق المستعمرة من وجود زبونة فلسطينية لها في مكان آمر وليس مأمور. ففي اللاشعور الصهيوني الكولونيالي تشعر الإسرائيلية بأن الفلسطينية يجب أن تخدمها لا أن تُخدم من قبلها. يتم احتواء وجود زبائن مقدسيين من خلال التشديد على الاستغلال المالي لهم والأرباح التي يجلبونها. لا تعرف الإسرائيلية كيفية خدمة الزبونة الفلسطينية وبالتالي تضخم سلطتها على مذاق وجسد الفلسطينية. وكثيراً ما تسمح الفلسطينية المقدسية للإسرائيلية بتغيير شكلها مع إيحاءات ذلك بتغيير المكانة ونشوة افتراضية لحراك إجتماعي من خلال تحويل نفسها إلى جسد وزي أوروبي “أفضل”. جسد وزي أكثر نفوذا وأعلى في سلم التقسيم العرقي. تذوّت بعض المقدسيات هذا النظام، فتتعالى على اخوتهن من الفلسطينيات القاطنات في الضفة الغربية “المحرومات” من فرص “الارتقاء” بالمكانة العرقية المؤسرلة.
يمارس المستعمِر السطوة على المستعمر ليس فقط من خلال نظام “الفحص العنصري” وإنما أيضاً من خلال التشديد على “همجية” مجتمع وثقافة المستعمَر في مواجهة “حضارة” ثقافة المستعمِر. فالمستعمِر يبرر وجوده من خلال دوره التنويري، في سعي منه لتبرير ممارساته. أشد ما يروع المستعمر هو رؤية ذاته بعدسات المستعمَر. لا يود المستعمِر الإقرار بانتهاكاته ويشدد على كونه ضحية وليس جان. فالمستعمِر في حالة هروب مستمر عن ذاته. يروع الجاني الشعور بأن تبريراته خاطئة وأن الضحية ليست بربرية كما قد يتخيل. في ذهنية المستعمِر صورة مشوهة متناقضة عن المستعمَر. فالعربي في نظر الصهيوني عدو-ضحية، أحمق- إرهابي خطير، نشيط جنسياً-ومخصي، منتهك لحقوق المرأة، محافظ بشكل مفرط على التقليد-دون مبادئ، سارق، وجاهل وقذر. كلما حاول العربي ابداء النقيض للصور النمطية إزاءه وارتداء ماركات غربية أو إبداء علامات مغربنة، فوجئ باستمرار كشفه واحتقاره من قبل النظرات العنصرية الفاحصة. يحاول المستعمِر الأوروبي الغربي وصم هذه الصفات للعربي فقط، فيجد عنصريته تتسرب إلى اليهودي الشرقي أيضاً. وعندما يتبادر للمستعمِر أن المقدسي العربي أكثر إنسانية مما كان قد تبادر له، يبدأ بتصنيفات جديدة مميزاً الفلسطيني المقدسي عن الفلسطيني في الضفة الغربية وبين المناطق والفئات العرقية والإثنية والطائفية داخل القدس.
يدفع المقدسي الضرائب للحكومة الإسرائيلية. ويتلقى مقابلها خدمات بسيطة، منها عائدات التأمين الصحي. كثيراً ما لا يجد المفدسي خدمات طبية متخصصة في القدس الشرقية ويضطر للتوجه إلى أطباء إسرائيليين. وهناك تبدأ العلاقة بينه كمريض وبين طبيبه القائم عليه الذي يتكلم بلغة الجندي في لاشعوره. يُخضع المقدسي جسده وذاته لطبيبه الإسرائيلي. يضطر الطبيب الإسرائيلي إلى ملامسة جسد “العربي المدنس”، بينما يضطر المريض الفلسطيني الذي عهد على صورة الجندي الإسرائيلي المعني بتعذيبه وإبادته أو صاحب العمل الإسرائيلي الذي يستغله أن يضع ذاته تحت رحمة الطبيب الإسرائيلي. تكشف الفلسطينية جسدها لطبيبها أو طبيبتها الإسرائيلية. كونها خارج نظام الرقابة الفلسطينية يعطيها حرية ما (لو كان طبيبها/طبيبتها فلسطينيا/ية سيكون فرص إشاعة الخبر حول مرضها في مجتمعها أكبر)، كما أن كون الطبيب الإسرائيلي متعود على فكرة الخلط بين الذكور والإناث يمنح الفلسطينية حرية ما أكثر من نظرات الطبيب الفلسطيني المتفحص لجسدها. في الوقت ذاته تخضع الفلسطينية لعلاقات السلطة واللغة كون طبيبها إسرائيلياً. فهي تشعر بعدم القدرة على التعبير اللغوي وتحاط بغيرها من المرضى الإسرائيليين الممارسين بأعينهم نظام الفحص العنصري في المستشفى، الأمر الذي يثير مخاوفها. نظرات المرضى وعائلاتهم إلى المرضى الفلسطينيين يقابَل بمشاعر عدم الارتياح من قبل المرضى الفلسطينيين. كما أن مفارقة “ضرورة التخلص من الفلسطينيين” مترافقة مع “فلسطينيين نقوم بمعالجتهم” ومبدأ هيبوقريدس يخل موازين الأطباء والمرضى الإسرائيليين. فالفلسطيني الذي يدفع عائدات الضرائب والتأمين مضطر لإبداء “التقدير” و”التبجيل” على هذا الاستعطاف.
يمثل نظام الجيتو الشكل الحديث للمساحة العرقية العنصرية. هذه ظاهرة عالمية اليوم. في يافا وعكا واللد والرملة وفي البلدة القديمة تسير بعض الحارات ضمن آلية غيتوهات محلية (الواد، باب حطة،..). فالحي يتشرذم إلى حارات والحارة تتشرذم إلى انقسامات طائفية/ سياسية/ مصلحية/اجتماعية. المستعمَر يعيش حالة صراع على الموارد ويبدأ بالشعور بالتهديد من أخيه وبالفردانية المتزايدة في سعيه للاستهلاك المتزايد ظناً منه بأن السلع المؤقتة ستزيد من مكانته وحراكه الاجتماعية. في الوقت ذاته تقوم الحارات ذات الأبعاد العرقية-الدينية-الطبقية بحماية ذاتها. فالشباب من حارة معينة يتعاطفون مع أبناء وفتيات حاراتهم أثناء المواجهة والخطر وصراع الحارات، بينما تستمر الصراعات داخل الحارات.
يتم محاولة ضبط ورقابة المقدسيين من خلال انتشار الجيتوهات وبث مرجعية قيمية مبنية على الاستهلاك وآثارها الناجمة من علاقات التنافس والمصلحة والاستغلال والعنف، في الوقت الذي أخذت فيه بعض الأجيال الجديدة الخروج من الجيتوهات نحو أحياء أخرى من المدينة. تحاول الإدارة الإسرائيلية تفكيك الشبكة الاجتماعية-القيمية بدعوى خطط سكن أفضل و”التنوير” و”التطوير” وإعادة توزيع هيكلي جغرافي يفكك وحدة السكان وامتداداتهم العشائرية والسياسية والقضاء على نظام التكافل غير الرسمي. إن تكاثر المقدسيين وحركتهم السكانية تثير اهتمام المستعمرين. فالمعركة محددة بيولوجياً ديمغرافياً عرقياً بقدر ما هي معركة سياسية دينية. تصطدم العائلات والمتزوجون الجدد بنظام النسل هذا. فأي تحرك هنا أو هناك يؤدي إلى سحب الهويات ومنع البقاء في المدينة. فتزيد حيل المراوغة على هذا النظام والانتقال أكثر فأكثر إلى قلب المدينة وغربها بينما يحاول البعض الوشي بالبعض الآخر. ومع سياسة الاحتلال بتفكيك العمل الوطني في القدس يبدأ البعض بالتعبير عن آرائهم من خلال مساحة الممارسة الدينية. فالدين والجغرافيا السياسية متداخلين في القدس. والدفاع عن المقدسات الدينية تغدو مقاومة سياسية ويزيد التضامن والتزاوج مع الحركة الوطنية داخل الخط الأخضر. ومع صعوبة إصدار بطاقات “لم الشمل” للأخوة في الضفة الغربية أو الشرقية التي باتت تعد غربية (إذ أن معالم القدس الشرقية باتت تتقلص) بينما تتوسع معالم القدس الغربية.
في المشهد المقدسي في الثمانينيات عهد المقدسيون على متابعة الأنباء من خلال قناة “إسرائيل” كل مساء ثم متابعة الأنباء الأردنية. أمام ذلك أصبح أمام أغلب المقدسيين إمكانية الاستماع إلى روايتين: الرواية الإسرائيلية التي تستهدف “الوسط العربي” والرواية الأردنية المرتكزة على أخبار العائلة المالكة والمقلصة من وتر الأحداث على الساحة الفلسطينية. وفي أيام الجمعة مساء عهد مقدسيو البلدة القديمة متابعة فيلم الأسبوع العربي عبر القناة الإسرائيلية الموجهة لليهود من جذور عربية، والتي على خلاف المحطة الأردنية، لم تشتمل على حذف لمشاهد بدعوى أخلاقية، في الوقت الذي تضخم فيه السياسي للأنباء وتشويه الحقائق. وفي أواسط التسعينيات بدأت تمردات إعلامية من خلال استبدال ذلك بالصحون العربية التي تجلب روايات أخرى، روايات تضع الوضع الفلسطيني نصب الأعين بنبرة شبه بطولية وتكاثر استنساخ الفضائيات بمواضيعها وعروضها المتناقضة. فأخذت تنتشر مصطلحات جديدة ودلائل دينية وسياسية وترفيهية جديدة ذات أبعاد مختلفة. وعلى خلاف التجربة الجزائرية، في فترة النضال الوطني، لم ينجح الفلسطينيون في خلق إعلام بديل. فالإشكالية ليست متعلقة بالإعلاميين فقط بل أيضاً بجمهور المتابعين للإعلام وبعملية التفاعل فيما بينهم.
القدس اليوم هي عاصمة الثقافة المستعمَرة. إنها مثال حي على سيكولوجية المستعمَر بتناقضاته وجدليته. أرى إخوتي ينقرضون شيئاً فشيئاً. يتهدد كياننا الملون (صوفيين، فلاحين، لاجئين، خلايلة، مغاربة، أفارقة، سريان، أرمن، أكراد، يونان، أحباش، أقباط، لاتين، موارنة،…). الأماكن تتغير والأفق تضمحل. الاستهلاك وأجهزة الرقابة تخترقنا. يتناولوننا مفعولا به بدلاً من فاعلين. وعلى صوت كل آذان يستيقظ من تبقى منهم ويبدأ يوماً آخر من الكفاح. الجغرافيا الخانقة تزيد والجغرافيا المقاومة أيضاً تزيد، فنجد أنفسنا نشد على أيادي إخوتنا ونتابع أيامنا العادية وصداماتنا العادية وتكاثرنا العادي. ومن حيث لا ندري نغير الجغرافيا والديمغرافيا ونقاوم الحدود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى