صفحات مختارة

نهايـة التاريـخ…النسخـة الأميركيـة

سمير كرم
كما في الأسطورة اليونانية المثيرة ـ التي تعلمناها في الصغر ـ وصل الامبراطور الى نهاية الطريق مع شرهه وجشعه الذي لا يشبع أبدا الى الذهب. تمنى على الآلهة أن تمده بالسحر الذي لا يقف بوجهه سحر أقوى منه.. ونال ما تمنى . أصبح كل ما يلمسه يتحول الى ذهب. رائع. مزيد من الذهب حيثما سار واتجه وشرهه لا يشبع.
لكن النهايات تأتي بما لا يمكن احتماله .. بالموت، حيث لا يستطيع الشّره والجشع ـ حيث لا يستطيع الذهب ـ أن يغني عن أبسط الأشياء وأرخصها، من الطعام الى الشراء .. فضلا عن الهواء.
هذا بالتحديد ما رآه ماركس يحدث للرأسمالية وقدرتها الفائقة على إنتاج مزيد من النقود … باعتبار أن النقود هي القيمة التي تعطى للسلعة، وبسبب الشره والجشع، تحل محلها. فاللص يستطيع أن يحمل أي قدر من النقود، لكنه لا يستطيع أن يحمل إلا قدرا محدودا من السلع. تنتهي الرغبة التي لا تشبع في التراكم النقدي الى أزمة للرأسمالية. وكان ماركس متفائلا بلا حدود، مؤمنا بأن حل أزمة الرأسمالية يأتي بخير للمجتمع الانساني، لأنه سيؤدي الى عالم أفضل.
الآن وأميركا تجد نفسها في الوضع الذي وجد نفسه فيه الملك ميداس.. فإنها تحاول أن تحل أزمتها »بالتي كانت هي الداء« أي النقود. ولنتصور وزيرا في بلاط الملك ميداس يأتيه بالحل: مزيد من الذهب نصبه على الذهب المتراكم فنخرج من الأزمة. ويصدقه لأنه في وضع لا يستطيع فيه إلا أن يصدق. وزير الخزانة الأميركي هنري بولسن أتى الى الامبراطور بوش بالحل: مزيد من النقود وتحل المشكلة.
لا بد ان تبدو الخطة مكلفة كثيرا حتى يصدق الناس انها قادرة على الحل. المنطق نفسه الذي تبيع به الرأسمالية سلعها.
لكن لماذا ٧٠٠ مليار دولار؟ لا أحد يعرف، وعندما طرح السؤال على أحد كبار المسؤولين قال: كان لا بد أن يكون الرقم ضخما ـ فلكيا ـ ليترك انطباعا كافيا بالقدرة على تحريك جبل الازمة. لا أحد يعرف تحديدا أو على وجه اليقين تفصيلات »خطة الإنقاذ المالي« التي رفضها مجلس النواب الاميركي ووافق عليها مجلس الشيوخ، الامر الذي أتاح ان تعاد الى مجلس النواب للموافقة عليها .. فوافق. لا أحد ممن وافقوا، وربما ممن لم يوافقوا، أتيح له الوقت ليقرأ تفصيلات الخطة. والخطة كانت في بداياتها الاولى مصوغة في ثلاث صفحات … ولكنها أصبحت في صيغتها النهائية المعدلة تقع في ٤٥١ صفحة… لا أقل.
كيف ستؤدي خطة الـ٧٠٠ مليار دولار الى إنهاء الازمة؟ لا أحد يعرف. انه نوع من الرهان الأصم. يكاد الكل يجمع على أن الازمة خطيرة. فالاقتصاد الأميركي يتجه بسرعة نحو كساد كبير، ان لم يكن نحو كارثة انفجار عام. ولا أحد يجرؤ حتى على أن يتوقع أن توفر خطة الـ٧٠٠ مليار دولار وظائف للأميركيين الذين فقدوا وظائفهم، أو مالاً ليدفعوا أقساط القروض التي اشتروا بها بيوتهم … فالمبلغ الهائل اعتمد لتنشيط أحوال الذين تسببوا في الأزمة .. لا لمساعدة الذين وقعت الكارثة على رؤوسهم. انما هناك من يجرؤ على الصياح المكتوب: الشيوعيون قادمون. المحافظون الجدد وتلاميذهم الذين يخشون أن تكون الازمة مبررا لإدخال أشكال لا يألفها المجتمع الأميركي الحر الديموقراطي من تخلي الحكومة. وبالتالي تحطيم السوق الحرة. وهؤلاء عندما يسألون: وهل لديكم خطة بديلة؟ يعجزون عن الإجابة.
ليس غريبا أو مثيرا للدهشة أن الاسئلة المثارة بعد خطة الإنقاذ أكثر كثيرا من تلك التي كانت مطروحة قبلها. وهذا، بحد ذاته، كاف للتدليل على أن الذين أوكل اليهم وضع خطة الإنقاذ اختاروا النظر الى المشكلة من أضيق زاوية: انها مشكلة اقتصادية بحتة. ليسوا حتى مستعدين للاعتراف بأنها مشكلة تتعلق بالاقتصاد السياسي. بينما الأبعاد السياسية وبالتالي الأبعاد الأخلاقية للمشكلة تبدو واضحة من البداية. لا أحد من المسؤولين (عن الأزمة وعن حلها) مستعد لاستخدام تعبيرات من نوع الشره والجشع والإثراء بأساليب الاحتيال وعلى ظهور الفقراء ومحدودي الدخل ومحدودي النفوذ في هذا المجتمع.
قلة من اليساريين ـ وهم في مجموعهم كحركة لا يزيدون عن كونهم قلة ـ تحاول جاهدة أن توضح أن الازمة من الحدة بحيث تكشف أن النظام الرأسمالي وصل الى درجة عالية من عدم الاستقرار. بل إن بعضا من غير اليساريين أعربوا عن الرأي نفسه. بينهم جورج سوروس الملياردير الأميركي الهنغاري المولد، وبينهم ديفيد تايس وهو مستشار استثماري كبير في كليفلاند، وحذروا من أن خطة الإنقاذ لا تتعامل إلا مع سطح المشكلة، وهو السطح الخارجي الاقتصادي البحت. لا بد أن يتذكر الجميع أن ما تنبهنا اليه الازمة هو أن السوق الحرة لا تعمل في أوقات الازمات الكبرى. حتى صحيفة سبكتيتور البريطانية المحافظة قالت »عليكم أن تواجهوا الحقيقة .. لقد كان ماركس نصف محق بشأن الرأسمالية…« ونبهت الى ان جذور المشكلة الراهنة تكمن في الديون الاميركية المتضخمة من العالم الخارجي. بل لقد ذهب بعض المحافظين الاميركيين الى حد اتهام أكبر دائن للولايات المتحدة ـ وهو الصين ـ بأنها وراء الازمة وأنها خلقتها عامدة متعمدة (…)
بطبيعة الحال فإن الجانب الأكبر من اليسار الاميركي يعتقد أن الرأسمالية الاميركية تعاني الآن مرض الموت .. لا شفاء لها. والواقع أن ما تعيشه الولايات المتحدة هذه الايام هو أقرب ما يكون الى حرب أهلية كلامية، لكنها قابلة للتحول الى حرب أهلية ساخنة. والحكومة الاميركية نفسها تذهب في توقعاتها الى حدود قصوى، حتى انه تردد على ألسنة بعض النواب الاميركيين في جلسة التصويت الثانية على خطة الإنقاذ: »اننا اذا لم نوافق على هذه الخطة فسنجد الأحكام العرفية (أي حكم الطوارئ العسكري) تفرض في أنحاء الولايات المتحدة«. ويسود شعور عام بجو غير ديموقراطي يفرض نفسه من خلال مظاهر عدم ثقة الرأي العام بالإدارة والكونغرس والنخبة الحاكمة عامةً.
لم يقتصر الأمر على هذا الجو العام. فقد نشرت صحيفة »ارمي تايمز« الناطقة بلسان الجيش الاميركي ـ وهي صحيفة نادراً ما تلفت أخبارها أو تعليقاتها الأنظار ـ انه »ابتداء من أول تشرين الأول/ اكتوبر ولمدة ١٢ شهرا سيكون الفريق القتالي الذي يتألف من اللواء الاول في الفرقة الثالثة مشاة التابعة للجيش الاميركي تحت السيطرة المباشرة اليومية لقيادة الشمال… وهذه أول مرة توضع فيها وحدات عاملة في مهمة محددة في قيادة الشمال ـ وهي قيادة أنشئت في عام ٢٠٠٢ لتوفر سيطرة اتحادية على الجهود الدفاعية وتنسيق الدعم الدفاعي عن السلطات المدنية«.
ومعنى هذا أن هذه القوة القتالية يمكن أن تستدعى لمواجهة »اضطرابات مدنية وللسيطرة على الجماهير«.
وفي تحليل لمغزى هذا الخبر قال المعلق غلين غرينوالد انه »لأكثر من ١٠٠ عام منذ نهاية الحرب الاهلية الاميركية، كان محظورا نشر قوات عسكرية أميركية داخل الولايات … إلا في ظروف الكوارث الطبيعية مثلما حدث وقت الإعصار كاترينا«.
وليس بمستغرب ان تكون الازمة الراهنة قد أحدثت انقساما طويلا في المجتمع الاميركي بين الرأي العام من ناحية وإدارة بوش ومجلسي الكونغرس من ناحية اخرى، وهو انقسام شمل كتلتي اليمين واليسار في الحياة العامة الأميركية، وبين ممثلي هاتين الكتلتين في الإعلام وفي الجامعات والاتحادات والتنظيمات الجماهيرية … حول قدرة النظام على تخطي الازمة. مع ذلك فقد ساد شعور بأن مجلس النواب وقع تحت ضغوط سياسية هائلة للموافقة على خطة الـ٧٠٠ مليار دولار وإلا فإن البديل سيكون فرض الأحكام العرفية وربما إلغاء الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونـغرس وحكام الولايات.
هل زال هذا الاحتمال كلية بموافقة مجلس النواب على الخطة؟
إن الشك بجورج بوش وإدارته بالنسبة لموعد تسليم السلطة قد عاد يبرز من جديد، وان كان من غير المتصور وقوعه. لكن هناك من يحذر منه بشدة، ومنهم بيل فان اوكين المرشح لمنصب نائب الرئيس عن حزب المساواة الاشتراكي ( وهو حزب ماركسي ذو توجهات تروتسكية) الذي قال انه خلال السنوات الثماني الماضية جرت عملية منظمة لإزالة المبادئ والسلطات لمصلحة رئاسة امبريالية تركز السلطات بشكل واسع في يد الرئيس وبموافقة الكونغرس. وأضاف اوكين ان هذا تم بواسطة رئيس وضع في منصبه بوسائل التزييف الانتخابي وبإملاء من الأغلبية الجمهورية من قضاة المحكمة العليا … مما شكل هجمات كاسحة على الحقوق الديموقراطية الأساسية«.
ويستنتج اوكين أن الازمة المالية الراهنة »تكرّس اللامساواة الاجتماعية في بلد يملك فيه واحد بالمئة من السكان من الثروة ما يفوق ما تملكه نسبة تسعين بالمئة من السكان. لهذا يبدو مؤكدا ان الرأسمالية الاميركية ـ في مواجهة الازمة الراهنة ـ ستتحرك حتما نحو أشكال جديدة من الحكم قادرة على الدفاع عن دكتاتورية رأس المال بوسائل الدكتاتورية السياسية الصريحة ضد الطبقة العاملة«.
إن هناك كثيرين يعتقدون أن خطة الإنقاذ التي وضعها وزير خزانة بوش الذي كان الى وقت قريب رئيس مجلس إدارة ساكس غولدمان، إحدى المؤسسات التي أسقطتها الازمة، يمكن أن تزيد الاوضاع سوءاً. إن الرأسمالية الأميركية التي عاشت عمرها كله تبرر وجودها بأنها صنو الديموقراطية ولا يمكن الفصل بينهما، قد تجد نفسها مضطرة للتضحية بها ما دام قد بدأ يتضح انه لا بد من التخلص من إحداهما لمصلحة الاخرى. ان الرأسمالية في أزمتها الراهنة مستعدة لقتل الديموقراطية بدم بارد.
وهذا بدوره يعني عمليا أن الولايات المتحدة تسير الآن في الطريق الذي بدأته الصين وهو تزويج نظام الحزب الواحد والقوة السياسية للحزب الشيوعي الى الرأسمالية الغربية (…) فهل يمكن أن نستنتج أن أميركا تتجه نحو شيوعية على النظام الصيني .. أم نقول إنها رأسمالية على النمط الشيوعي الصيني الذي لم يكن له وجود قبل ٢٠ عاما وما كان يمكن أن يصدق أحد التركيبة الناجحة السائدة اليوم بوجوده؟
[[[
إن نهاية التاريخ ـ بمعنى نهاية تاريخ الرأسمالية كما عرفها العالم ـ قد تكون أقرب مما نتصور ويتصور مراقبو تطورات الازمة الراهنة. هذه على الاقل نتيجة مبررة في ضوء من لا يزال عالقا في ذاكرته »نهاية التاريخ« كما تصورها المفكر السياسي الأميركي (ابن جزر هاواي) فرانسيس فوكوياما، عندما اعتبر أن التاريخ انتهى بسقوط الاتحاد السوفياتي ومعه نظرية صراع الطبقات والماركسية ككل والاشتراكية كنظام بديل.
الآن جاء الدور على أميركا لتفكر بنظام بديل .. فلن ينفعها مزيد من الذهب كما لم ينفع الملك ميداس في الاسطورة اليونانية عن الشره والجشع بلا حدود والى أين ينتهي.
([) كاتب سياسي عربي من مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى