حسين الشيخ

الصورة الأكثر وضوحا في ألبوم العائلة

null
حسين الشيخ
البحر ييدو خلف مراسل الجزيرة في صور، هادئا ، وكأن ليس له علاقة بالمجازر التي ترتكبها اسرائيل في لبنان، وكأنه يراقب فقط ما يتسرب اليه من أشلاء ودماء الضحايا، وكأنه يشرب الأركيلة بهدوء من دون صخب المجزرة الحالية. لماذا يزعج نفسه بمجازر لا زالت تتكرر في تاريخنا وكأنها موجة يرسلها الينا تروح وتجيء، وكان قدرنا أن نتقبل المجازر بدون شكوى، وكأننا اعتدنا على صور أشلائنا وهي تتبعثر على شاشة التلفزيون أو ألبوم الصور القديم، الذي نضيف اليه كل يوم صورأ لمجزرة جديدة.
لماذا علينا أن نقبل بهذا ونسكت، أو نشيح أبصارنا، أو نطرد أطفالنا إلى غرف أخرى كي نمعن النظر في أشلائنا. أو لكي نمسح ارض البيت من دمائنا التي تسيل بهدوء من جهاز التلفزيون المفتوح أبدا على المنظر.
لماذا علينا أن نقرأ مقالات لسياسيين يكتبون كلماتهم بالمسطرة، لتبرير الحدث، لماذا علينا أن نقرأ لهم وهم يحاولون اثبات أن المجزرة المرتكبة بحقنا ودمائنا التي تسيل بتمهل، سيستفيد منها ذلك النظام أو الآخر، لماذا علينا أن نستمع إلى معارضة عاجزة عن تحريك نملة، ولكي تبرر في المستقبل أن الحرب أطالت عمر ذلك النظام أو الآخر، لكي تبرر عجزها عن تأييد مقاومة شريفة بحجة أنها شيعية أو رافضية أو ماشابه من الكلمات التي استخدمها البعض من السنة أو العرب لتبرير عجزهم، علماء السلطة الذين أباحوا وحرموا كما تشتهي السلطة وكا يشتهي النفط وكما تشتهي الفضيحة التي تلم بالكل، لماذا علينا أن نصغي لسياسي يخبر حسن نصر الله بأن حلب تستقبل حاخاما يهوديا، ولا يحرك ساكنا في حشد كل العالم من أجل مقاومة الموت الذي يحصدنا طفلا طفلا وامرأة امرأة . لماذا علينا أن نصغي لسياسيا ينظر لحقيقة حزب الله الشيعي، أو آخر يقيس بالمسطرة مقدار الفائدة التي يجنيها النظام السوري أو الأيراني من دمائنا التي تسيل بتمهل شديد على صورتنا المعلقة على جدار العجز، لماذا نردد تحفظاتنا المؤدبة والتي تخفي سما زعافا في طياتها حول الموعد الملائم لمهاجمة اسرائيل، المواعيد التي توافق السياسيين المؤدبين الخانعين العاجزين الذين يبحثون عن انتصارات صغيرة مزعومة أو انتصارات تطفح بالمؤمرات الدنيئة الصغيرة أو بحثا عن مكسب مخجل، لماذا علينا أن نصغي لتباكيهم على صوت أشلائنا وهي تتبعثر في الأفق، أو لاستنكارهم الشديد لاستهداف المدنيين وتدمير البنية التحتية، أي تبرير لمثل هذا السلوك، سيتم اضافته إلى لائحة القتلة او المساهمين في القتل أو الذين يتجاهلون القتل وهم يعيشون في نعيم المنفى الفخم. لماذا علينا أن ننتظر رد فعل ذاك السياسي الذي تسيل منه رائحة طائفية، أو الآخر الذي اختبأ في مكان ما دون أن تصدر منه كلمة، ينتظر صفارة الأنذار التي تعلن عن انتهاء المجزرة ليظهر مرة أخرى وكأنه بطل منفوخ، وكأنه هو الذي قاد العاصفة، وما الفائدة في نبش الكلمات والتي يتقنها ساسة آخرون لكي يجدوا المعنى خلف المعنى، فنصفق لهم على حذقهم في استنباط معان مخبأة في صدر القاتل والفاشي ومرتكب المجازر أو من يحيط بهم من منظرين ومحللين وخونة.لماذا علينا أن نصغي لسياسيين حمقى ينصحوننا بالتعقل وعدم المجازفة وتحديد المكان والزمان للرد على آلة همجية عمياء من ورائها ألة القتل وبحجة تحقيق ديمقراطيات غثة ومستقبل غائم يخبئ خلفه مئات المجازر الأخرى، فهذا الثمن الذي يجب أن ندفعه من أجل حريتنا في اختيار المشهد الأكثر دموية لاشلائنا التي تتدلى من شاحنات الأمم المتحدة التي تحمل لنا الطحين والبطانيات. أي عبث في هذا المشهد، أنظمة مترعة بالاسلحة تطالبنا بالصبر، فلم يحن الوقت بعد لطلاء الشبابيك بالازرق خوفا من غارات وهمية على عتبة الكعبة، أنظمة تحفز مخبريها العلماء لكي يخبروننا بحقيقة الهلال الشيعي الذي يطوق أرواحنا، أنظمة مازالت وما فتئت تحضر لهزائمنا بعناية بالغة، الهزيمة تلو الهزيمة، أنظمة لم تدخر جهدا باقناعنا أن ندفع ونعاني ونتألم ونختنق من أجل المعركة التي لم تأت ولن تأتي، وعن التوازن الاستراتيجي الذي دفعنا له أعمارنا ولم يتحقق، أنظمة يصف أحد رؤسائها المجزرة ودماءنا وأشلاءنا بأنها عمل غير مسؤول، ويتلفت حوله بحثا عن الصمغ الذي يلصق مؤخرته على كرسي المعجزة. أنظمة ومعارضات مخجلة تتشارك في صنع مشهد استشهادنا، تدور الكاميرا ببطء وتأنٍ وتشفٍ ومرارة، وكأن الكاميرا السادية لا يكفيها أن تشارك في الحدث، بل تكون تاريخنا القادم المخجل.
لماذا علينا أن نصغي للساسة وهم يخبروننا بأن المقاومين جلهم من الشيعة كان لزاما عليهم أن يحسبوا ويطيلوا العمليات الحسابية عما سيكسبوا من الدول النفطية المسيطرة على الاعلام والساسة والتدبير والأمر والنهي والامنيات والتي يسيل من لعابها خوف ظاهر ناصع الوطأة ، وعما سيكسبوا من الميزات والعطايا التي ستترتب على مواقفهم المخجلة والتي سترشح عن أموال النفط الوسخة. لماذا علينا أن نصغي إلىالفتاوى المعبأة بالامراص ارضاءا لاميركا أمنا الحنونة المعطاءة الديمقراطية التكنولوجية ، أم العالم وأبوه (وأبيه) في الوقت نفسه.
لماذا علينا أن نصغي إلى العواصف التي بشرنا بها رئيس آخر وهي تعم منطقتنا، وفي الوقت نفسه يطلب وقف اطلاق النار بالحاح من يرتكب المجزرة، أو إلى رئيس مفدى آخر وهو يصف المجزرة بارهاب الدولة، صح النوم، لقد وجدها، لقد وجدها وريث الألقاب والحكمة والموت…!!!!
لماذا علينا أن نتسمر أمام شاشة التلفزيون نبكي موتنا، ونتفرج على أشلائنا قطعة قطعة، وعلى أطفالنا الذين لم يعودوا يلعبوا أو يلتصقوا بنا عند الخوف، على نسائنا اللواتي لا زلن يلبسن لبس البيت، فلم يعلمن بالمجزرةليستقبلن الصحافيين بأثواب الخروج إلى الزيارات، أو كما يليق باستقبال الغرباء، على عشائنا البيتي المكون من جبنة الله والزيت والزعتر، على ابريق شاينا المسود من شدة الانفجار ، على أفقنا المديد المعربش على غرفة كنا احتمينا بها خشية برد أول الصبح، على أغطية الفراش، على قصص الجدة العجوز التي اختارت أن تجلس قرب المدخل وكأنها تهجس باغنية فيروز “في شي بدو يصير”، ولم تنم أبدا ألا حين فاجأتها القنبلة المجنونة الفراغية التي صنعت في أميركا ودفعت ثمنها الدول العربية قاطبة، ومرت عبر سماوات الأرض لتصل إلى الباب الموارب، لم تقرع الباب، ولم تستأذن الدخول إلى بيت العيلة، ولم توقظ نيامنا ولا أطفالنا ولا اللعب ولا شيء ، ولا شيء، ولا شيء.
حتى الأنهار تغدر بنا في هذا الوطن المكون من جيفتين، وعشر جيف، وعشرة أخرى بعين الحاسد، أنظل بعد كل غصة بالماء أو العرق أو الخيبة نقول “لاحول ولا قوة إلا بالله”. لماذا يهرم النص الآخر فينا، ونتباهى بالنص المليء بسير الهزائم والأحزان، لماذا تكثر في خطابنا كلمات مثل الجهل، الرعب، البقية، الكرامة، العقم، الفراغ، الجمل، الخطابة، الصمت، الفحولة، المسيطر، القمع، الهجرة، المعتقل والموت. ألسنا نولد شيوخا بلا حكمة، سوى حكمة المجازر، منذ المخاض ونحن نشعر بالمدافع والرصاص والدم، الضجة الأولى لسمعنا الذي لا يلبث أن يشيخ، وحين نتقدم إلى هذا العالم المسود المسدود، وبحكمة المجازر التي نخفيها تحت أرديتنا، نرفض الولادة، تقودنا الممرضات نحو أسرتنا المبعثرة بعدد غير محدد من المجازر، ولأننا نمتلك الحكمة نبعثر الرصاص على طارف الأفق، نقلب القنابل التي ستقتلنا ونلعب بها ككرة، نتقاذفها فيما بيننا، ونخفي الجثث تحت الأسرة، فلا يجب أن ننشر غسيلنا الوسخ أمام الغرباء!!!
ولا يلبث بعض ساستنا ان يتعاطف مع القاتل، فلابد أن يثبت للعالم حيادنا تجاه ما يحدث فهو لا يعنينا، وسنظل ننظر إلى ساعاتنا، قلقين، مخفين عن العامة هذا الإسهال الذي يمنعنا من التمتع بالصيف، أو محادثة ملقم المدافع التي لا تهدأ لا صباحا ولا مساءا، لكي نظهر اعجابنا الحار بجنود قتلة لا ينامون ابدا، قبل أن تحدث مجزرة أخرى،
لذلك لا نريد تبريراتكم ولا مساطركم ولا بطانياتكم ولا نفطكم ولا اعلامكم ولا علماءكم المأجورين ولا كذبكم ولن تجبروننا أبدا أن نكون مؤدبين ولا ساسة يكتبون بالمسطرة نحن ننتمي إلى المقاومة التي تقاتل في جنوب البلاد..
ماذا تريدون منا بعد هذا الموت، لم يبق سوى أن نمشط شعر المجزرة، وننفخ صدورنا، ونعدل قمصاننا الباهتة الألوان ، ونتحضر للصورة القادمة التي لن تطول.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى