صفحات ثقافيةعبد الرزاق عيد

الحرية: المعرفة/السلطة، النص المسرحي لسعد الله ونوس

null

عبدالرزاق عيد

في حوار مع نعوم تشومسكي، تصاغ له الاشكالية الهوبرزية بطريقة ماكرة اذ

يسأل :

هل تعتقد أن البشر يحنون بطبيعتهم للحرية، أم أنهم على استعداد لأن يخضعوا للنظام مقابل الأمن والأمان ؟“.

يجيب تشومسكي “هذه مسائل خاصة بالايمان لا المعرفة، توجه أمالك نحو ما تؤمن به، وأنا أحب أن أؤمن بأن الناس قد ولدوا أحرارا، ولكنك إن طلبت مني دليلا على ذلك لما أمكنني أن أعطيك إياه “.

فسئل في دهشة : “انت تتحدث عن الايمان، فهل “تؤمن ” بالحرية ؟ “فأجاب ” أحاول الا يكون ايماني غير عقلاني، فنحن يجب أن نسلك على أساس معرفتنا وفهمنا مع العلم بأن معرفتنا محدودة… ولكنه، على أية حال، ايمان خاضع لاعتبارات الحقائق والعقل ” (1).

الحرية هي أكثر المعاني القيمية تجريدا وغموضا والتي بمقدار ما تمارس حضورها يشتد غيابها فهي تتضخم في الفكر بقدر ما تضمر في الواقع، وهي من جهة أخرى كلما أزاد الواقع غنى بحضورها عبر تفتح الفرد وثراء شخصيته تفتح الشوق الانساني لمزيد من المماهاة. في صيرورتها اللامتناهية.

ومن هنا فإن هيجل يرتفع بها الى مستوى مطابقتها للعقل : “الحرية هي المطلق، والمطلق هو العقل المجسد في التاريخ وفي الدولة “(2).

ان التي تستدعي نقيضها الجدلي، ينتقضها الضروري أبدا، هو السلطة، سلطة الدولة عند هيجل سلطة رأس المال عند ماركس، وسلطة الوجود ذاته عند سارتر، سلطة الأنا الاجتماعي العليا عند فرويد.

هذه التجليات الأربعة للسلطة، تشكل لحمة الدراما المسرحية عند سعدالله، اذ تخترق البنية التكوينية للنص في مستوياته الدلالية المتنوعة وهي تتضافر لانتاج جمالية المعنى، حيث الحرية دائبة البحث عن وسائلها المعرفية لاقتحام ملكوت الضرورة الذي يتشكل في رباعية سلطة الدولة، سلطة رأس المال، سلطة الوجود المفوت في صياغاته الاجتماعية التقليدية، الساكنة، الآسنة، الكابحة لـ (الآنا) الفردية، وازدهار الشخصية، عقليا وروحيا وجسديا في مواجهة الأنا الاجتماعي العليا فلابد من المواجهة التدميرية التي أتاحتها الوجودية وهي تتفلفل في ثنايا الثقافة العربية منذ نهاية الخمسينات وبداية الستينات.

وذلك لأن الحرية الوجودية كما عبر عنها سارتر هي القدرة على الاعدام، وهذه الصيغة السارترية توافق تماما المطلب الأول للمجتمع كما يشعر به المثقف العربي الثائر.

فالواقع العربي في عين المثقف واقع مرفوض، يجب أن تسلب منه المشروعية، ولهذا فقد شكلت الوجودية أساسا لنظرية الرفض الشامل العنيف، النظرية التي يقرها عالم محتاج الى معول يهدمه لكي يعاد بناؤه، لذلك لم يهتم المثقفون العرب بأسس هذا المذهب الوجودي بقدر ما تلقوه كدعوة خلقية يجب الانصياع لها، ويخلص عبدالله القروي الى أنه بسبب ذلك تغلب الجانب الأدبي التعبيري على الجانب النظري التمحيصي (4)، هذه الحرية الوجودية ستجد منافذ لها الى نصوص مسرح سعدالله الأولى، ما قبل حرب حزيران 1967 أي ما قبل “حفلة سمر من أجل ” حزيران،

المرحلة الأولى : محكومون بالحرية

ان الأطروحة الوجودية القائلة بأن الانسان محكوم بالحرية على لسان سارتر، تدفع بمسألة الحرية، خارج حدود (المجتمع والتاريخ)، بوصفها جوهر الكائن الفرد (الذات) وما دامت الحرية ماهية الوجود الانساني، فالوجود ذاته حرية، وعلى هذا فإن أي مصادرة لها. هي مصادرة للوجود ذاته، اعدامه وعلى هذا فإن المسرح سيتحول الى خشبة لصراع المصائر، هذه المعاني ستتكشف دلاليا منذ أول مسرحية ينشرها سعد الله وهي مسرحيته “ميدوزا تحدق في الحياة “(5) وينبه الكاتب في مقدمة المسرحية لتاريخ النشر، ويشرح الأسلوبية البنائية التي اعتمدها بوصفها عملية مزج بين القصة والمسرحية، مستفيدا من الامكانيات التي يتيحها القص في تصوير الجو والشخصيات وفي حضوره كمعلق وراو.

كما يعرف القاريء بـ (ميدوزا) بأنها أحدى الفيلان في الغورغونات الأساطير اليونانية، وكانت مرعبة، ونظرتها تحيل من تقع عليه حجرا (6).

ان هذه الاحالة التي يقوم بها الكاتب في أعماله الكاملة الصادرة حديثا، ذات مغزى يومي، الن العناية التي يوليها لهذا النص بوصفه جزءا مهما في تجربته المسرحية، يعتز به ويؤكد عليه، أي لا يزال يتبناه وباعتبار هذه المسرحية هي النص الأول في تجربته المسرحية ما قبل هزيمة حزيران، فإننا سنتوقف عنده وقفة خاصة لتحري آلية العلاقة بين المعرفة والسلطة على طريق الحرية المسرحية مؤلفة من خمس شخصيات : الحاكم (كورش ) ويقدم من خلال الكاتب الراوي الذي يمهد للحكاية بكونه “الحاكم ” مرهوب الجانب، ويتملق الجيران قوته وأسلحته الفتاكة، وهو طويل… ممتليء كما يفترض بأي حاكم، وعيناه كعيون كل الحكام، مستنقعان من الخبث واللؤم والجشع.. والشخصية الثانية التي تظهر في إطار البسط لمتن الحكاية هو (فيدوس ) مستشار الحاكم الذي يشع وجهه بذكاء بارد لا أنساني ككل مستشاري الحكام (7).

ثم ابنة الحاكم (هيرا) ابنة الحاكم الفاتنة التي يتنازع حبها شابان، الأول (داريو) عاشق للفن والموسيقى، عازف كمان، والثاني (هراري) منصرف كليا للبحث والمعرفة التي قادته الى اختراع عقل آلي.

السلطة الحاكمة تطمح الى كسب سلطة المعرفة لتدجج بها قوتها وتخضع جيرانها، أي “توحيد السلطة وتكثيفها في بؤرة واحدة كلية القوة… تعرف كل ما تشاء، وتصرف الأمور كلها طبقا لما تشاء.. لتتمكن من معرفة أفكار الناس وما ينتوون، وتمسك بزمامهم جميعا فلا يفلتون، (8). (داريو الفنان يحذر (هيرا) بأن الأرقام ستخرب العالم… والمصير يسوقهم نحو هاوية العدم، يدعوها الى الرحيل لأن العينين المعنيتين تمتصان الحياة والأمل معا… وأنها ستعرف أنها لا تساوي شيئا إلا في أنغامه، وفي شطحات أشعاره… وان القوة التي تسحرها، ستقتلها هازئة بخيالاتها… ولن تفعل القوة سوى تمديدنا تحت شمس الظهيرة، صلبنا بلا خفايا في الحر الأبيض والذباب… وينتهي داريو الى أن يأخذ برشامة الموت الفوري، لأنه يرفض أن يتدن ويتحجر، معلنا : “سأموت وأنا أمجد جمالك الذي لن يقدر مذاقه سواي”(9).

(هراري) صوت المعرفة العلمية، يحاور صوت الفن (داريو) مقرا بأنه كان مغرورا، اذ كان يبحث عن الحقيقة المطلقة ! فقد “سحقه انتصاره ” وعجز عن تفكيك العقل الذي

صنعه بيديه، ليسيطر هذا العقل على الجميع ويسحقهم.

ويترف لداريو “كلانا يا داريو كان يتلهف للمعرفة المطلقة ” لكنه كان يعتقد أن طريق الفن لن يقود الا الى الترهات وتختتم المسرحية بقرار السلطة بسجنه على مستوى الحدث المسرحي، أما على مستوى الخطاب الذي يسوغ الحزمة الدلالية للمسرحية، فإن هراري يتابع لامباليا.

وهيرا… الجمال الكلي، خلف اللامبالاة تستعر رغبة مومضة وغامضة بمستحيل لا يطال : “أن أصير واياك يا داريو رجلا واحدا (وشهقت هيرا) وسييبس الجمال، تماما كما تنبأت يا داريو… سيتخرب ويموت (10) تلك هي حكاية المسرحية وموضوع بنائها، والأطروحة المضادة التي يتأسس عليها حوار النشخصيات :

الشخصيات في هذه المسرحية، أسماء مستعارة للمعني، فالشخص دور، فاعل نصي درامي، ليس له حضور شخصي ملموس، أو معاناة انسانية حية تتحقق عبر تواصل الشخصيات الفعلي في إطار زماني مكاني تاريخي محدد، فهي تتواصل وتتفاصل عبر الحوار، انه تواصل ذهني مفاهيمي. تحققه شخصيات هي رموز للأفكار، وهذه السمة سمة الشخصية التي تؤدي دورا رمزيا للفكرة، ستصبح خاصية أساسية من خصائص البنية التكوينية لنص سعدالله حتى في الانعطافة التي سيحققها في نصوصه الأخيرة من خلال توجيه اشكالية الحرية صوب الشخصية، داخلا وجسدا.

وهذه السمة التي شكا منها المخرجون من قبل تجاد مسرح توفيق الحكيم الذهني، يشتكي منها المخرجون والممثلون مه نصوص سعدالله التي تعول على البناء والحبكة بينما الشخصية ليست إلا رد فعل لأحداث خارجية، تتحول من حال الى نقيضه، حيث سيطرة فعل الكلام على حساب فعل الحركة، مما يؤدي الى أن المخرج والممثل كليهما يجد نفسه تابعا للنص وأسيرا له في حين يظن أنه يمارس حريته(11).

هذه السمات البنائية للشخصية، تفضي على المستوى الدلالي، لحضور الشخصيات ليس بوصفها شخصية مشروطة بزمن وتاريخ. ومجتمع بل بوصفها كائنا مجردا يبحث عن المعرفة المطلقة (داريو _ هراري) أو القوة الكلية (الحاكم كورش ومساعده فيدوس ) أو ممثلة الجمال الكلي (هيرا).

وعلى هذا فإن البحث عن المعرفة المطلقة بالنسبة لـ “داريو” لن يكون إلا البحث عن الحرية المطلقة في وجه الأرقام وتضخم عالم الأشياء الذي سيستعبد البشر في صورة العقل الالكتروني، والحرية هنا تتمثل في اختيار الفن كوسيلة لبلوغ المطلق، مطلق المعرفة والحرية، باعتبار “الوجود ذاته حرية ” على حد تعبير سارتر، وباعتبار “الحرية هي ماهية الوجود الانساني،”(12).

فهذا الوجود الانساني الد بماهيته عندما يهدد باستلاب حريته من قبل سلطة الحاكم، فإن داريو ممثل سلطة المعرفة يمتلك قدرة الاعدام، مادام لا سبيل أمام كينونته إلا أن تكون حرة لهذا فإنه ينتحر لأن الكون فقد الحرية ومعادلها المتمثل بالجمال المطلق أمام شمولية القوة المطلقة، فلا مبرر لاستمرار الحياة عندها ينهض الرمز كمعادل مجازي تدميري بمستواه المركب، المستوى الأول المتمثل ببنية الرمز ذاته بوصفه أداة لاحلال (الهناك ) محل (الهنا) أي احلال الغائب محل الحاضر، والمستوى الثاني المتمثل بنوعية الرمز ذاته الذي يحمل في بنيته الأسطورية دلالة التدمير، وذلك بتحويل الكائن الى حجر عبر عيون ميدوزا، وعلى هذا فان درع برسيوس لم يؤد وظيفته في الكشف عن بشاعة وجه ميدوزا لتتحول هي ال حجر، كما حاول د. جابر عصفور أن يستثمر دلالة الأسطورة في هذه المسرحية.

فالمسرحية تنتهي بحرية القدرة على الاعدام على مستوى الفعل (الحدث )، اعدام الذات التي لا يمكنها الا أن تكون حرة، لأنها محكوم عليها بحريتها، ومن جهة أخرى تنتهي بالأمنية على مستوى الكلمة (الخطاب ) عندما يقول (هراري) أن (هيرا) تريد أن يكون (دار يو وهراري) رجلا واحدا، أي أن الجمال الكلي يستدعي وحدة الحرية المطلقة مع المعرفة المطلقة في سبيل مواجهة السلطة المطلقة.

وعلى هذا فإننا من خلال تحليلنا للشخصيات وهي تنتج وعيها في النص سنجد أنفسنا تجاه ترسيمة نظرية وجودية خالصة في وعي الحرية على مستوى الدلالة المعرفية للنص.

لكن السؤال الذي يعنينا في هذا السياق والذي يؤطر اشكالية بحثنا، ليس المرجعية النظرية الفلسفية التي تستند اليها رؤية النص في وعي الحرية، بل ممارسة الحرية بوصفها فعلا معرفيا تحريريا ينتجه النص أو خشبة المسرح بشابتها نصا مختلفا من خلال تفاعله مع المتلقي في مواجهة السلطة سياسية كانت أو اجتماعية أو ثقافية.

بهذا المعنى فإن المرجعية الوجودية للحرية في هذه المسرحية، لم تؤد إلا الى تقديم أنشودة مجردة عن تمجيد الحرية بالممنى المطلق دون أن تنشي ء علاقة ملموسة مع المتلقي، وسياقات علاقته بمشكلة الحرية في الزمان والمكان، في المجتمع والتاريخ ومن ثم فإن الوجودية لم تتح لموضوع الحرية سوى التعين في النص لاثارة التأمل المجرد في مصائر كونية لا صلة لها البتة باشكالية الحرية في المجتمع السوري والعربي في ستينات هذا القرن، وذلك عندما تكون النقيضة الحوارية التي تهيكل الحدث الدرامي، وحواره هي نقيضة الحرية / العلم، أي التقدم التقني الذي راح يستبعد الانسان بدلا هن أن يحرره فهي نقيضة كتمس اشكاليتها في المجتمع الغربي الصناعي بامتياز، لا في المجتمع العربي الذي لم يتعرف بعد على الصناعة فحسب بل وعلى الابجديات الأولى للعقلانية ولمفاهيم الحريات المدنية والدستورية.

وهذه الدعوة الى الحرية بصيغتها الوجودية المجردة الاطلاقية التي لا يتعين مطلقها بالعقل المجسد في التاريخ والدولة، وفق الصياغة الهيجيلية التي تنتج وعيا مطابقا بالتاريخ والدولة عندما تحاض معركة الحرية في سبيل اكساب التاريخ والدولة مزيدا من المعقولية المفتوحة بانفتاح حركية جدله.

نقول ان هذه الدعوة بالصيغة المجردة، هي التي تطبع الانتاج الأدبي المتأثر بالوجودية عربيا، حيث نزعة التمرد الت يتلمسها العروى بوصفها نزعة مطابقة لحاجة المثقف العربي على الهدم والتقويض للبنى التقليدية لا تتخذ شكلا متمردا متعينا في زمنها وتاريخها، في هذه المسرجية بل ومجمل مسرحيات سددته قبل 5حزيران 1967، حتى يكاد الباحث في الانتاج الأدبي لتلك الحقبة، التي شهدت الغلغل الوجودية في وعي ووجدان الثقافة العربية، والتي تبنتها في تلك الفترة مجلة الآداب التي نشر سعدالله مسرحيته فيها، الا يجد أية محاولة حقيقية لتأصيل الوجودية في بنية الثقافة العربية لتمنحها هذه النفحة التمردية التي يتحدث عنها العروى. وآية ذلك، أن كاتبا مبدعا خلاقا كـ(زكريا تامر) لا يعيد انتاج مفهوم الحرية الوجودية في السياق الواقعي التاريخ العربي الا في صيغة تمرد كينوني وضعي كوني، بدون أن يتخذ التمرد شكله الملموس ضد بنى اجتماعية وتاريخية وثقافية ملموسة للمتلقي السوري والعربي، فالعامل عنده يتمرد أيضا ضد الصناعة التي تسحق انسانية، تماما كما يتمرد (داريو) على العقل الالكتروني وذلك في مجموعته الأولى “صهيل الجواد الأبيض “.

حيث الراوي في قصة “الأغنية الزرقاء الخشنة ” وهي القصة الأولى في هذه المجموعة، يتمنى أن يكون “قطيعا من المدى المتوحشة المنغرسة في قلب المدينة “، ويتمنى أن يهدم المعمل والالات ليعود الى (الأرض الأم ) (14).

من الواضح أن أسطورة الحنين في العودة الى الأرض والحقول والمراعي واستعادة الطفولة والخوف على كلية الجمال أمام سحق الآلة والنزعة العلموية التجريبية، لا صلة لها بالميثولوجيا العربية وفق مفهوم بارت للميثولوجيا بوصفها تطلعا للانسجام مع العالم ليس كما هو، وانما كما تريد أن يكون، فالمجتمع العربي يعيش الميثولوجيا بمعناها القاع، بمعناها القروسطي السحري، في حين أن أسطورة الحنين للأرض والخوف على الجمال من الانسحاق والتشيؤ، هي الأسطورة الفانتازية لمخيلة الغرب “بعد الثورة الصناعية ونتائجها التي تضاهي أية أسطورة كما يقول ماركس، وذلك بعد أن ازدادت المسافة اتساعا والهوة عمقا بين جبل الأوليمب ومدينة مانشستر”(15).

وهكذا نجد أن الوجودية في تغلغلها في الحياة الثقافية العربية فتحت الأذهان على فكرة الحرية، لكن هذه الحرية ظلت مفهوما مجردا معلقا فوق الواقع والتاريخ، ولم يتمكن التيار القومي من اعادة انتاجها وفق حاجات المجتمع العربي الى الحرية بمعناها المتمرد على واقع متأخر، فتم نقل فكرة الحرية الوجودية في قماطها الأوروبي ذاته، كما لاحظنا في مسرحية سعد اثو، أو في تجربة كاتب هو من رعيل سابق على جيل سعدالله وهو (زكريا تامر) الأكثر موهبة بين رعيله اذ جعل من مسألة الحرية قضيته الكتابية حتى اليوم، اذ يفرد خارج سربه، وعلى هذا نجد أن فكرة الحرية الوجودية ليست هي التي تنتقل فحسب، بل اشكالية الحضارة الغربية القائمة على الفصل بين العلم والقيمة، منذ أن عبر عنها وابليه بصيغة “علم بلا ضمير” حيث يغدو العلم “فرانكشتاين ” يبطش بالجميع، هكذا كان العقل الذي صنعه هراري.

مسرح التسييس : الحرية وعي الشرط التاريخي والاجتماعي للوجود:

مسرح التسييس هو حوار بين ساحته ن : الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره الثانية هي جمهور الصالة التي تعكس فيها كل ظواهر الواقع ومشكلاته، الأمر الذي من شأنه أن يدفع الكاتب ال ابتداع “بعض الوسائل الاصطناعية لكسر طوق الصمت، وتقديم نموذج قد يؤدي تكراره الى تحقيق غديتنا الأساسية في “اقامة الحوار”.. اقامة حوار مرتجل وحار وحقيقي بين مساحتي المسرح : العرض والمتفرج.. ولابد لموضوع الحوار أن يكون مرتبطا بحياة المتفرج، ومشكلاته من جهة، ونوع المعالجة وشكلها، لكيلا تكون المعالجة مسألة شكلية وتقنية، حيث لابد للهواجس الجمالية أن يتم تعديلها الى “المشكلات السياسية والاجتماعية للواقع ” وذلك لتشجيع المتفرج على الكلام والارتجال والحوار“.

تمثل هذه المرحلة انعطافا نوعيا في وعي الوجود المؤسس للبنية التكوينية للنص، حيث ينتقل وعي الحرية من الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية جوهر الوجود، الى الرؤية المعرفية التي ترى في الحرية شرط الوجود قيميا، من وعي الحرية بوصفها جوهر الكائن، الى وعيها بوصفها شرط كرامة وسيادة الكائن، من وعيها بوصفها وضعا اتنولوجيا، الى وعيها بوصفها صيرورة تاريخية على طريق اكتمال الوجود بالقيمة، وهكذا تخرج الحرية من الوجود بوصفه مكتفيا بذاته وقانونياته الداخلية، ال مجال القيمة التي لا معنى للوجود بطريقة كريمة بدونها، أي من حالتها الوجودية ال حالتها التاريخية، عندها تنخرط في المشكلات القيمية للوجود من أجل امتلاك بعده التاريخي، والشرط الاجتماعي للكائن بوصفه ممثل القيمة التي تمنح واجب الوجود في ذاته، معنى أن يفيض عن ذاته دلالات ورموزا وأحلاما بشرية تجعله بشريا، قيميا، جماليا، وانسانيا، وذلك لا يتم إلا بالفرص في حمأة الواقع وأسئلته اليومية الشائكة التي توحد مساحتي الوجود والتاريخ، العرض المسرحي، وجمهور الصالة بمشكلاتهم وهمومهم وأشواقهم.

بيد أن هزيمة حزيران 1967 كانت الزلزال الذي صدع كل هذه الأوهام الأونتولوجية التي أشاعتها الوجودية عن الحرية، وعززها مسرح العبث.

حفلة سمر” والجوع الى الحوار:

كانت النقلة عنيفة وحاسمة في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران ” حيث في هذا النص يؤسس سعدالله لفكرة (الحوار والمشاركة ) ليس عبر الرسالة المعرفية والايديولوجية للنص فحسب، بل من خلال التشكيل البنائي للنص ذاته، اذ يكسر الحاجز الفاصل بين المعرفة والسلطة، لتدمير معرفة السلطة التي قادت الى الهزيمة دافعا بجمهور الصالة أن ينتزع حقه بالمشاركة في صناعة القرار، عبر الحوار والتدخل المباشر على الخشبة لمواجهة معرفة السلطة، بسلطة المعرفة التي بدونها لا يمكن للناس أن يمتلكوا حريتهم، وذلك عبر الثنائية الحوارية، بين المتفرج وخشبة العرض الرسمية بين الكاتب عبد الفني، والمخرج الرسمي، وذلك عبر اشرا ء الأسئلة. والسؤال هو المدخل لتقويض القائم عبر التشكيك بصلابته الواقعية الرثة. من أجل تجاوزه فالكاتب يمثل المعرفة وارادة الجمهور المقهور والمهزوم والباحث عن معرفة سبب ما حدث، والمخرج ممثل سلطة الخشبة والعرض ويقود جهازه التمثيلي للتضليل والايهام والتسلية والترفيه وتمجيد البولات الزائفة.

هذه المرارة الساكنة أحشاء الخطاب في النص، المرارة تجاد واقع عصي على التغيير سلطة ومجتمعا، ستربض ثاوية في سفر الكتابة المتوجهة أبدا حتى اللحظة الأخيرة وهي تطمح للارتقاء بالواقع من واقعيته الرثة بالتجدد قيم الحرية والعقل والعدالة، لكن فظاظة الوجود التي تأبى أن تنصاع لحلم الحرية، تلقي بالقمامة والامامة والرثاثة بوجه الأحلام الجميلة، فلا يكون الملاذ سوى الخيبة والمرارة من جديد، وكأن الكتابة هي الأمل المحكوم به الكاتب في وجه كل هذه البشاعة التي سيكتشف عنها لاحقا بهجاء نادر في مباشرته، وشراسته. وعينه الزرقاء المتنبئة في (يوم من زماننا _ ملحمة السراب ) حيث يكتب ملحمة مأتم الحرية الذي يخيط كفنه منذ عويل الشعارات الكبرى عن الحرية والوحدة والاشتراكية، وهو يستبيح كل واحدة منها على حدة نكاية بكل هذه القيم والمثل التي آمن بها الكاتب ورعيله. وسيأتي حديث ذلك.

اذا كان المجتمع على هذه الدرجة من الامامة، والسلطة على هذه الدرجة من الشراسة، فإن نزوعا من تأنيب النفس وتقريعها، سيتبدى في هذه المرحلة الثانية من وعي الحرية، وكأن الواقع المرير الذي لوع النهضوي الراديكالي الكواكبي، هو ذاته يمضي ساكنا، لا جديد فيه سوى لبوس السلطة من الطربوش والعمامة العثمانية الى قبعة الجنرال المعلقة صورته على الجدار في «يوم من رهاننا» والذي يسهل أن تنتهك أشد المحرمات، من المس بصورته الجليلة، والشعب هو هو لا يزال مقيدا بسلاسل الاستعباد، فغضب الكواكبي من أمته وشعبه، وهو يقرعهم بأن الأمة التي لا يستشعر شعبها أو بعض شعبها بالاستبداد فإنها غير جديرة بالحرية، هذه الخلاصة المريرة القي تجرعها الكواكبي سما زعافا، ستتحول الى الأطروحة الرئيسية التي تسكن مفاصل خطاب النص عند سعدالله. والتي سيتجرعها سرطانا فاتكا، كما تجرع الكواكبي سم السلطان عبدالحميد. والكواكبي سيكون الرمز الوحيد لممكنات الحرية في مسرحيته الهجائية بمرارة “يوم من زماننا“.

المرحلة الثانية:

في هذه المرحلة، سيكتب مسرحياته (الفيل يا ملك الزمان – مغامرة رأس المملوك جابر _ الملك هو الملك )، قبل صمته الذر سيدوم عشر سنوات، ليبدأ المرحلة الثالثة، التي يتجاوز فيها أحادية الرؤية الى الحرية بوصفها وضعا وجوديا جوهريا في مرحلته الأولى، والحرية بوصفها شرطا تاريخيا في مرحلته الثانية، الى انشاء كليات نوعية جديدة ومغايرة، عندما سيهدم الحاجز بين الرضع والشرط، ليوغل عميقا في داخل الذات (ذات الفرد والمجتمع والتاريخ) مواصلا سفر عذ ابات الكلمة الشريفة. في هذه المرحلة، المرحلة الثانية التي نحن بصدد تشخيصها، سيشهد منظوره المعرفي والجمالي انتقالا في وعي الحرية، حيث الانتقال من وعيها كوضع وجودي انطولوجي، الى وعيها كشرط تاريخي كما ستظهر لاحقا.

وبذلك فإن الحرية في هذا السياق ستتبدى بوصفها المعادل للوجود الانساني، أي المعادل القيمي الذي يمنى الوجود الطبيعي معناه، والالته الروحية ومغزاه الاخلاقي فهي إذن لم تعد جوهريا ثابتا أو انطولوجيا. بالمعنى الوجودي بل غدت شرطا انسانيا لابد منه قيميا، لتحقيق حالة التطابق بين الوجود والقيمة، وهنا ينهض الوعي التاريخي ليعلن أن البشر هم الذين يصنعون مصائرهم عبر امتلاك الوعي بهذه المصائر، والحرية لمن يستحقها، والانسان محكوم بها لا كوضع طبيعي بل كشرط تاريخي انساني، به يتحقق وجوده الأمثل بصورة كريمة، وليس الوجود المحض بأي ثمن كما تقدمه حكمة أزمنة الذل والقهر والاستبداد القائمة على (فخار يكسر بعضه _ ومن يتزوج أمنا نسميه عمنا) وفق ما يتأسس عليه نظام خطاب الرعية الراسخة في العبودية روحيا وانسانيا في مسرحيتي (الفيل يا ملك الزمان – ومغامرة رأس المملوك جابر).

سهرة مع أبي خليل القباني : المسرح بوصفه فعل حرية:

ستكون “سهرة مع أبي خليل القباني” المسرحية الصادرة سنة 1996 بعد (الفيل يا ملك الزمان _ ومغامرة رأس المملوك جابر لم وقبل “الملك هو الملك ” الصادرة 1997 بمثابة الجذر المعرفي الذي سيؤسس لرؤية كتابة سعدالله اللاحقة، وقد كان نصا لافتا في انتباهه المبكر لميراث التنوير العربي، وهو الكاتب الذي حسم كل تطويره الفكري باتجاه الانتقال من وعي الحرية كوضع الى وعيها كشرط تاريخي، أي طور الفكري من وجودية قومية متمردة باطلق الى رؤية تاريخية متطلعة الى فعل التغيير وواثقة من قدرة الناس على صناعة مصيرها، وكانت العلاقة الخاصة التي ربطت تجربته المسرحية بتجربة بريشت واستثماره المبدع للاقتراحات التي قدمها المسرح البريشتي على مستوى البنية والرؤى، كل ذلك ساهم في ابراز سعدالله كمثقف عضوي يخوض معركة التغيير بوصفها فعلا يوميا ينبغي خوضه دائما، واعادة كسبه أبدا.

ان داعية مسرح التسييس كان دائما قادرا عي فك أي ارتباط مع الاحزاب السياسية التي ظل يحتفظ لنفسه بمسافة نقدية عنها، هذا المسافة النقدية وهي مسافة الحرية التي تقلع اليها المعرفة لخوض معركة الجذرية تجاه الأستبداد، هي آلتي ستنير لسعدالله أن يقدم رؤية مختلفة لزمن التنوير العربي بمنحى عن المناخ الفكري اليساري (الماركسي والقومي) من جهة، و(التراثي المحدثن ) الابستمولوجي، الفينوميقولوجي والتفكيكي، من جهة أخرى، حيث يرى في تجربة القباني المسرحية فعل حرية بذاتها، بوصف المسرح هو النتاج التاريخي للديمقراطية اليونانية على حد تعبه سعد اثو، وهو يكشف في هذه المسرحية عن الترابط الوثيق بين المسرح والحريات الدستورية والقانونية التي تحققت في ظل الوالي المتنور مدحت باشا 1978، وأن المسرح كان بهدف معركة الرجعية، من خلال الشيخ “سعيد الغبري” والسعى الى السلطان في سبيل اغلاقا وعلى هذا تنشأ شبكة من العلاقات المتناظرة والمتوالدة، فحيث يسود التنوير نتفته شجرة الحرية، وكلما كانت شجرة الحرية وارفة، كان الوعي بالاستبداد حادا بوصفه العقبة أمام التفتح الذهني والروحي، وكلما ازداد الوعي معرفة بقوانين الاستبداد، كان المسرح ضرورة لهذا :لوعي الحديث، للنهضة والتنوير، وبذلك فالمسرح في ذاته فعل حرية شاجب للطغيان وسيادة الو احدية الفكرية والايديولوجية السياسية، في إطار هذا الهوامش التي سقناها على متن تحليلنا لمرحلتي الحرية التي عرفها مسرح سعدالله، سنؤجل تناولنا التحليلي للمرحلة الثالثة المتمثلة بالانتقال بمفهوم الحرية من شرط وجود الكائن، وجوديا كرضه، وتاريخيا كشرط، الى الحرية كشرط لمعنى وجود الكائن، حيث الانتقال نحو الداخل للحفي فيه بحثا عن البريق الأبيض لالتماعات النفس وتخلق الجسد، وبمقدار ما تتكشف النفس في جوانيتها عن عوامل الكبح والقهر التي نتوء بها الذات داخليا، بمقدار ما تفتته حرية الجسد، بشابتها تتويجا حسيا لتموجات الروح وجرار النفس، وقروح الوجدان، ولعل ذروة التشخيص الدوامي لهذه الحوارية الجوانية بين الباطن والظاهر، يتعكس بارتهان فعل الحرية لمدى درجة تقويض الجدار وتصدعه بينهما، ومن ثم تداعى هذه الفسحة البرزخية الوهمية بين المعنى والمبنى، بين الميث واللوغوس، بين اندفاعات الحس وأشواق العقل حيث سقوط الوعي التنكري، وذلك في مسرحيته “طقوس الاشارات والتحولات ” الصادرة سنة 1994 هذا التشخيص في أرقي تجلياته الدرامية في هذه المسرحية سيشكل انعطافا نوعيا فذا في سيرته المسرحية، حيث الكتابة ستعيش مرحلة تلظيها وهي تكتوي بحمى المرض الذي كان يكتب تحت وطأته الفتاكة، فيقاومه ويزجره ويؤجله هذه الانعطافة ربما يتم له عبرها أن يؤسس لايقاع جديد في المسرح العربي،، لو طال العمو، فوفق هذا الايقاع سيكتب عدة مسرحيات وان لم ترق الى تلك المجرة الدلالية التي أودعها نص “طقوس الاشارات والتحولات ” وهذه المسرحيات “أحلام شقية ” كتبها في السنة ذاتها وفي عام 1996يصدر مسرحية قصيرة “بلاد أضيق من الحب ” وآخر هذه المسرحيات التي ينتظمها ايقاع اسقاط الجدار بين الروح والجسد، والولوج الى عوالم الداخل الذي يأتي الخارج محصلة لها هي مسرحية “الأيام المخمورة ” وان كان في هذه المسرحية قد أراد من خلال هذه المباطنة الداخلية للشخصيات أن يباطن التاريخ والمجتمع وتلك السيرورة التي “كانت الناس تتمايل… وكنت الأيام مخمورة “.

بين طقوس التحولات التي تعاورت فيها مسرحيات سعدالله اشكالية الحرية، أنتج عددا من النصوص هي أقرب لمرحلته الثانية عن الحرية بوصفها سيرورذ تتآشس على الوعي التاريخي بشروط الاستبداد، وهي أربع مسرحيات أولها كانت ” الاغتصاب ” سنة 1989، وهي المسرحية الأولى بعد مرحلة الصمت التي دخل بها مع المجتمع في حالة من السبات الغريب، وعبر هذه المسرحية سيعبر هذه المرحلة السديمية، ليكتب بنشاط محموم عددا من أرقى المسرحيات التي عرفتها الدراما العرلية.

وهي مسرحية “هنمنمات تاريخية “ و”يوم من زماننا “ حيث ستصدران في سنة 1993 ومسرحية “ملحة السراب ” سنة 1995.

واذا كنا سنفرد لهذين المنحيين ما بعد مرحلة الصمت، فصولا خاصة يضيق بها المجال في سياق هذا البحث، إلا أننا سنسجل بعضى الهوامش السريعة على متنها.

هوامش على المتن

1- مسرحية الاغتصاب أثارت لغطا وردود فعل شعارية سياسوية تندد بما تنطوي عليه المسرحية من أيحاءأت تطبيعية حسص رؤية البعض.

لقد كانت هذد المسرحية بمثابة هامش على متن البناء المسرحي لسعدالله، انها مداخلة سياسية فكرية، بدت وكأنها ورصة ابداعية جماليا ومعرفيا حيث موضوعة الحرية اذ تتحقؤ فنيا في جدل المعرفة والسلطة، والتي هي الاشكالية المركزية الموجهة للجهد الابدأعي للكاتب، لقف ظهرت هذد الاشكا أصية مخارجة لموضوعها، فالحرية منا (حرية وطنية) هي لإبد آن تستدعي الأطروحة المضادة (النقيضة الدرامية) بصيغة (التحرر الوصني) و ليس بصيغة (القمع) فالصراع العربي الاسرائيلي لا يمليه القمع الإسرائيلي للأنسان الفلسطيني فخسب بل انه معركة جود، فهي الجست معركة حرية فحسب، بل معركة تحرر آولا.

وعلى هذا ما كان للنص أن يصل نفسه في هدا المأزق، مأزق الموقف من المفاوضات والدعوة الى السلام.. الخ من مفردات الزمن العربي المهزوم.

المثقف العربي ليس مسؤولا عن الهزيمة، انثها مسؤولية السيالي الذي لم ولن يستطيع أن يتعامل مع الأرضي، والوطن والآمه الا من منظور مصالح العرش. كما سيكشف عن ذلك في “منمنكلات تاريخية” عبر منظور الحاكم عندما يترك دمشق المحاصرة من تيمورلنك ليعود الى مصر لحماية عرشه، تحت الشعار النموذجي الذي صاغه النص برهافته، ضياع الأوطان ولا ضياء الحاكم، لأن الأولى يمكن أن تسترد..

وعلى هذا فالمثقف ليس مدعوا إلا الى احتقار حاضر الذل هذا ان سمي سلاما واستسلأما، تصنيعا أم تصويعا، أم تركيعا، المثقف لابد له أن يكون حيث المصائر التاريخية للأمة معبرا عن ارإدتثها وآشواقها وآحلأمها الكبرى في الحق والعدالة والتي لابد لها أن تكون دائما فوق حاضر الدناءة والانحطاط الذي هو مناط الكشف والتعرية الدائمة للمثقف، وهذا ما سيفعله سعدالله بروح تراجيدية عارمة وهو يشهر خنجرد أمام واقع النتانة في مسرحية ” يوم من زماننا ” و”ملحمة السراب “.

2- في مسرحيتي ” يوم من زماننا- ملحمة السراب” تنتفض الكتابة اصتاعة لافظة كل كآبتها وشجنها عبر نصين نادرين في الإبداء العربي، اذ ينكتبان في الواقع المعاش وينكتبان به، يحققانه ويتحققان به، أذ هما يغوصان في اللحظة المعاشة فتضيع الفواصل وتتداخل، بين المتعاقب والمتزامن. ليغدو كل واحد منهما الآخر، وليكونا بمثابة برهان يرد على تخرصات وعاظ الحكام وكتبتها و (قادة اتحاد آدبائها) بأن سعدالله لا يستطيع ان ينشيء نصا مسرحيا، بل هو يحيي آحداث الماضي، أو يستعير نصوصا ينتج تناصا معها.

لكن الشهادة الأهم التي يقدمها النصان تلك التعرية الفاضحة الملحمة التقدم، اذ تنكشف عن “ملحمة السراب ” حيث التدمير لابطالى الأحلام الكبرى التي تتقوض وكأنها القيامة الآن فحسب. بل تطال حتى ممكنات المخزون الثقافي الرمزاني. المدبهر عنه بزوقاء اليض مة القدرة على استبصار القادم، والتنبؤ بما هو آت حيت تقتل بوصفها رمزا للمستقبل. حينها يعم الظلام وتعلن فاطمة خاتمة المسرحية بأن أمامنا ليلا طويلأ، وآن حلم الحرية سراب أمام كل هذا الوحشية هذا الليل الطويل سيكون خاتمة مسرحيه (يوم من زماننا)، حيث النتانة تطال كل حيزات المجتمع وفسحاته بدءا من المدرسة التي لا يهمها سوى أن تثون صورة الجنرال المعلقية في غرفة الإدارد مصانة عصونة وإلا قيمة بعدها للشرف المصون، حتى والو تحولت المدرسة الى سوق للدعارة المهم التحقيق لمعرفة من كتب على جدران المرحاض ما يسيء للجنرال.

الأمل الوحيد الذي يترأرأ في اندياحات البشاعة وهي تغلف زماننا! صورة الفتاة التي كانت تقرأ كتاب “طبائع الاستبداد ” للكواكبي، هكذا يصمئن سعدالله الكواكبي أن صيحته ليست في وادا فلأ يزال ثمة مناص، ثمة آحفاد يبلغهم صوت الحرية

الذي أطلقه الجد العظيم.

3- مسرحية ” منمنمات تاريخية ” تحتفظ لنفسها بمساحتها الدلالية الخاصة، اذ تدخل عنصر الوثيقة التاريخية، متمثلا بشكل رئيسي بابن خلدون، ولذلك لابد لها من وقفة خاصة، نظرا للأهمية الإستثنائية على مستوى بنيتها التكوينية دراميا ومعرفيا، بما يجعلها مع “طقوس الاشارات والتحولات ” علامات بارزد على مدى النضج والغنى والتنوع الذي بلغه النص المسرحي لسعدالله.

إلا آننا في هذا السياق نسجل على عجل ان القراءة التي قدمها نص ” منمنمات تاريخية” لشخصية ابن خلدون” تنسجم مع المصفوفة المعرفية التي يؤسس عليها نصه جماليا.

فكتابة سعدالله ومنذ زمن ميكر التفتت الى أهمية عصر التنوير العربي، عندما بدآ، مسرحيا في “سهرة مع ابي خليل القباني ” كما أشرنا، وختمه في الكتابات النظرية التي قدمها في كتابنا الدوري ” قضايا وشهادات “، فابن خلدون يمثل عمقا تاريخيا للتنوير العربي، إذ هو يكتشف التاريخية، ولذا فقد سعى خطاب التنوير النهضوي للانتظام في سلسلة الوعي التاريخي الخلدوني لإستئناف مسيرذ النهضة ومواصفة التقدم ! الآمر الذتي من شأنه أن يبرز تناقضا شديدا بين ضرورة ابن خلدون نظريا ومعرقيا لتشكيل العمل التراثي الضروري للنهضة كن جهة، ومات جهة آخرق يقدم النص مثقفا تقنيا، تقودد علومه التقنية التي لا تنحاز الى هموم الأمة والوطن- الى التعامل مه الأجنبي (تيمور لنك) أي الخيانة، وذلك في زمن لم يكن يتداول مفاهيم (الوطن- القومية- الأمة). بل ما كان يتداوله الحقل الدلالي لذلك الزمن (الملة- الدين- المذهب) وحيث العالم ينقسم الى دار حرب ودار اسلام.

الهوامش:

ا- د. عبدالوهاب المسيري – نعوم تشومسكي (دراسة في آفكاره اللغوية والسياسية) أسبوعية آخبار ألادب المصرية- عدد 202-25 مايو 1997

ص 25.

2- مفهوم الحرية- عبدالله العروي- المركز الثقافي العربي- بيروت- الدار البيضاء- الطبعة الرابعة-1998- ص85.

3- أخبار الأدب- المرجع السابق نفسه- ص25

4- مفهوم الحرية- سبؤ ذكره- ص 77- 78.

5- كتبها عام 1962- ونشرها في مجلة الآداب (أيار) 1963- رأجع الأعمال الكاملة- المجلد الأول- دار الاهلي – دمشق- 1996- 359.

6- المصدر السابق- 359.

7- المصدر السابق- 361.

8- المصدر السابق- ص 369- 373

9- المصدر السابق- 373- 380 0

0 1- المصدر السابق- ص376-381.

11- راجع: حازم شحاته تحولإت سعدالله ونوس وطقوس التحولإت- آخبار الأدب- العدد نفسه ص 10-11.

12- سامي خرطبيل- الوجود والقيمة- دار الطليعة- بيروت 1980-ص123.

13- راجع د. جابر عصفور- درع برسيوس- أخبار الأدب- العدد نفسه ص 12-13.

14- راجع القسم الأول من كتابنا (العالم القصصي لزكريا تامر- وحدة البنية الذهنية في تمزقها المطلق)- د عبدالرزاق عيد- رار الفارابي- بيروت 1989.

15- راجع هاري ليجن- انكسارات- (مقالإت في أن الادب المقارن)- ترجمة عبدالكريم محفوف منشورات وزارة الثقافة- دمشق- 1980- فصل بعض معاني الأسطورة.

16- سعدالله ونوس- الأعمال الكاملة- المجلد الاول – ص 131-133.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى