صفحات مختارة

هويـة المثقف بين الثورة والاحتجاج

هندة العرفاوي
سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية.. نظرة تاريخية
الديمقراطيّة والحركات الاجتماعيّة
يقدم في الأوساط الأكاديمية الغربية أن الاهتمام بالفضاء الإسلامي برز إلى السطح بسبب مجموعة من المؤشرات أعطت أدوات جديدة لتحليل الواقع وهذه المؤشرات هي: الثورة الإيرانيّة سنة 1979، ثم اغتيال الرئيس المصري أنور السادات سنة 1981 وأحداث الجزائر في بداية التسعينيات.
والنقلة الجديدة تمثلت بالمنحى الجديد الذي اتخذته بعض الحركات الإسلامية وجعل من الصّعب الحديث في الإعلام الغربي، وفي المؤسسات الأكاديمية وحتى في الهيئات الرسمية والمدنية، عن المجتمعات المغاربيّة أو الشّرق الأقصى، دون الحديث عن الإسلام والإسلامويّة ووصفها بـ”البربريّة” و”الفاشية”. هذه المسائل الثلاث حدثت في السنوات الأخيرة وأبرزت إلى السطح المسألة الإسلاميّة وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول2001 بالولايات المتحدة الأميركية.
ودون الدخول في جدليّة إن كان المسلمون أم غيرهم هم من قاموا بهذا العمل، فإنّ العالم صار يتعامل مع هذه الأحداث، ومع اتّهام المسلمين وكأنّه واقع فعلا بل حتّى أنّه من الجدير القول بأنه من الصّعب الحديث عن المجتمعات المغاربيّة والشّرق الأوسط دون التعرّض إلى الإسلام والإسلاميين, من ناحية لأنّ كلّ ما يحدث في العالم لم يعد يظهر إلاّ وكأنّه نتيجة تصرّفات إسلاميين أو ردّ فعل منهم. كذلك فإنّ من الأخطاء المنهجيّة الشائعة أنّ هذه المجتمعات حصرت في دائرة ضيّقة ذات بعد واحد كما يشير إلى ذلك استعمال مصطلحات مثل “العالم الإسلامي” “الفضاء الإسلامي” “المجتمعات الإسلاميّة”.
ومن ناحية أخرى فإنّ حركات التحرّر، والثوريون في العالم الثالث من اليسار إلى أقصى اليسار يتمتّعون بنوع من التعاطف لدى أوساط المثقفين والسياسيين في أوروبا بعد الحرب وإلى حدود سنوات السبعينيات بل إنّهم يجدون من يدافع عن “استخدامهم للعنف” باعتبار قضاياهم عادلة, بينما كلّ من يحمل شعار الإسلام يحرّك على العكس المعاداة وفي حالتهم تتغلب الأحكام المسبقة على التحليل الموضوعي فما الدّافع لهذا الموقف؟
أثبتت الباحثة منيرة بناني شرابي في دراسة لها حول “داء الفضاء” (1) أنّه عند الحديث عن المجتمعات الإسلاميّة “فإنّ بعض الأكاديميين يتخلّون عن الجديّة العلميّة بتأجيل النظر في المسألة. وهي ترجع ذلك من ناحية إلى بعد ثقافوي نجد فيه فكرة “ثقافة اللاّمبالاة ” كما نجد فيه نزعة تظهر نوعا من العداء تجاه بعض الحركات البارزة مثل الحركات الإسلاميّة التي يعتبرونها حركات قبيحة.
ومن ناحية أخرى تتحدّث عن نزعة متفاقمة نحو المعارضة المنهجيّة للأفعال التي من المفترض أنّها ذات بعد ديني (التي تتخذها المجموعات الإسلاميّة) مقابل التحرّكات التي تسمّى “مشتركة” أو تنخرط ضمن منظومة القيم الغربيّة (حركات حقوق الإنسان، حقوق المرأة).
منطلقين من فكرة أنّنا في هذه الحالة بإزاء مشروعات لمجتمع يعتمد على المعرفة، لقاعدة اجتماعية ولبنى مختلفة. وهذا ما يترجم حسب الكاتبة سعيها مع مجموعة من الجامعيين في إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول إلى استعمال نفس آليات التحليل الاجتماعي وإخضاع المقاومة والاحتجاجات التي تبرز في المغرب ومنطقة الشرق الأوسط على اختلافها إلى نفس التساؤل، مع المراجعة الذاتيّة للآليات المستعملة في التحليل لامتحان البحوث الميدانية.

وهذا التوجه هو ما جعل مجموعة من الباحثين يعتمدون سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية خصوصا وأنّ هذه السّوسيولوجيا عمدت في العشريّة الأخيرة إلى توسيع مجال بحثها إلى آليات أخرى غير ظرف الديمقراطيّات الغربيّة, هذا الامتداد يعود بالأساس إلى سقوط الإمبراطوريّة السوفيتيّة منذ 1989.
سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية.. نظرة تاريخية
انطلاقا من نهاية القرن الرابع عشر وإلى حدود 1970 ورغم ظهور خلافات حادة حول دور المثقف حسب البلدان والفترة الزمنية. ظهر توجهان الأول راديكالي، والآخر إصلاحي استعاد مكانته بالنضال على مستوى المفاوضات الاجتماعية.
وهنا لعب المثقفون الفرنسيون وبالتوازي مع مثقفين من العالم الثالث دورا مركزيا. من أناتول فراس إلى أندريه جيد، ومن أندريه مالرو إلى جون بول سارتر. تراث طويل من المثقفين اعتبروا أن الأنظمة الثورية والاشتراكية أو الشيوعية ثم الأنظمة القومية في العالم الثالث كانت عوامل تفتح وتغيير لديمقراطية غربية كانت إلى حد ذلك الوقت ضيقة وبرجوازية. هذه الظاهرة أدت إلى أن عديد المثقفين وصلوا إلى دعم أنظمة بعيدة كل البعد عن مبادئ الديمقراطية.
غير أن الشيء الأهم هو وجود تيار قائم بذاته من مثقفي اليسار متميزين بشكل واضح عن المثقفين الثوريين ومدافعين عن الحريات العامة داخل أوطانهم وفي غالب الأحيان يتم استهدافهم من طرف الأنظمة الاستبدادية التي نتجت بعد الثورة. وتعتبرهم مثقفين برجوازيين.
على إثر الحرب العالمية الثانية، عندما دعمت الحرب الباردة والنمو الاقتصادي في الغرب الأنظمة اليمينية نشأ جيل جديد من المثقفين يرفضون نقد السياسة ويؤيدون الثورة, مثلما هو الحال فيما بعد بالنسبة إلى ربيع براغ، ورأوا في حركات التحرر في العالم الثالث شكلا جديدا للتعبير عن القوة الشعبية والثورة.
كذلك ومن جهة أخرى فإن الاستناد إلى الحركات الوطنية والاجتماعية في العالم الثالث كان بالنسبة إلى مجموعة أخرى من مثقفي اليسار وسيلة لاستكشاف ودعم الحركات الشعبية الجديدة التي نشأت في بلدانهم. هذا التوجه ظهر بشكل ملحوظ في الولايات المتحدة وفي فرنسا في نهاية الستينيات.
هذا اليسار الجديد أصبح تدريجيا معارضا للثورة وتحرريا، فعارض صدام الحركات الاجتماعية مع سلطة الدولة. ونادى بضرورة إنشاء مؤسسات سياسية أكثر تمثيلية وفتح آفاقها الفكرية على احتجاجات ومطالب جديدة.
وفي أميركا اللاتينية قاد نفس التصور “المثقفون الثوريون” إلى القطع مع الحركات الشعبية والوثوق فقط في المقاومة المسلحة من أجل تدمير نظام الهيمنة السياسية والاقتصادية التي تستمد قوتها من الدعم الذي تحمله الإمبريالية الأميركية. ففي فنزويلا وبيرو، ولفترة ما في أورغواي فإن هؤلاء المقاومين تصرفوا بتوافق مع أفكار تلميذ من تلامذة التوسير وهو Régis Debray.
ولكن هذه التوجهات المختلفة حصل لها ما حصل في البلدان الصناعية وانفصلت شيئا فشيئا الواحدة عن الأخرى. ففي أوروبا الغربية والولايات المتحدة ابتعد المثقفون الثوريون سريعا عن “الراديكاليين الجدد”، بينما نظر المثقفون النقديون، حسب التراث الماركوزي إلى استحالة الحركات الاجتماعية والتغييرات الثورية.
النتيجة الآنية لهذه الانقسامات لدى مثقفي اليسار في نهاية الربع الأخير من القرن العشرين كان سقوط الأيديولوجيات الثورية. فعصر الثورات أصبح مشرفا على نهايته. ربما بكل بساطة لأن الأنظمة القديمة وارثة فكر الأنوار قد تم تدميرها تقريبا في كل مكان، وأن عدد الشعوب التي تتألم وترزح تحت هيمنة أنظمة استبدادية حداثية، ازداد عمّا تفعل نخبة تقليدية محافظة في القرن العشرين. صار تركيز السلطة أكبر والهيمنة الاقتصادية والسياسية والتأثير الثقافي مجمعا تحت نفس الأيادي.
على المستوى الفكري، كان التحرك ضد استبدال الحركات الثورية بدول استبدادية قد تسبب في الرجوع بقوة لفكرة الأيديولوجيا الليبرالية. في فرنسا حيث كان تأثير مفكرو اليسار أكثر قوة، حصل انتقال وانقلاب سريع وصل فيه ريمون آرون إلى تأكيد أطروحة دفاعه عن المؤسسات الديمقراطية ضد “أفيون المثقفين”.
الديمقراطيّة والحركات الاجتماعيّة
على إثر سقوط حائط برلين وبروز الحركات التي قادت إلى مجموعة من التغيّرات داخل الأنظمة في بلدان شرق أوروبا وربيع بكين تسارعت وتيرة التحوّلات الديمقراطيّة في أميركا وفي أفريقيا الجنوبيّة فأسئلة مثل ظاهرة الثورات والانتقال من الديمقراطيّة إلى بروز المجتمع المدني تبدو من جديد في مركز اهتمامات المتخصّصين في “العمل المشترك”.
هذا الأمر إضافة إلى المكانة التي صارت تتمتع بها سوسيولوجيا العمل داخل الفضاء الأكاديمي في حدود 1990 والتي تميّزت باعتمادها على العمل المؤسساتي والاستقلالية المتزايدة التي تقود حتما إلى بروز حركة توسعية تهدف إلى احتلال ميادين أخرى، كانت تعدّ من مدّة قصيرة ضمن فضاء دراسات وفي هذا الإطار تذكر الكاتبة منيرة شرابي أنّ عديد البحوث والدوريات لا تتمتع إلاّ بآليات موجودة مسبقا ممّا يجعلها تعطي إجابات جاهزة للأسئلة التي تطرح.
ففي غالب الأحيان لا يطرح المختصون السؤال حول مدى انطباق نظريّتهم على ظرف آخر غير ديمقراطي فالقارّة الأفريقيّة والشرق الأقصى وبدرجة أقل آسيا لم تلق نفس الأهميّة من حيث دراسة الفضاءات مثلما هو الحال بالنسبة إلى الاتّحاد السوفياتي سابقا وأميركا اللاّتينيّة، بل إنّ هذه الدول كانت تعامل معاملة “الأقارب الفقراء”. فالدراسات قليلة جدا فيما يخصّ بلدان المغرب والشرق الأقصى. وإذا حصلت فهي تستخدم أدوات تحليل سوسيولوجيّة للحركات الاجتماعيّة.
تأثّرت النظريّة المعاصرة للحركات الاجتماعية بالبحوث الأميركيّة ومؤخّرا بالأوروبيّة منها فالحركات لم تكن تعدّ معارضة للنسق ولكن كشكل بديل للتعبير عن تعدّد سياسي كأداة لتحقيق التعدّد الديمقراطي كما هو الحال مثلا بالنسبة إلى حركات القوانين المدنيّة, فعندما تطوّرت في داخل نسق خاص ببلدان العالم الثالث فقد مزجت نظريّة الحركات الاجتماعية مختلف المقاربات الثوريّة مع التعدّد الديمقراطي إضافة إلى إدماج المجموعات المهمشة والمسلوبة (مثل الحركات العمّاليّة والنسائيّة). في إطار الدول غير الديمقراطيّة التي لا تقدّم عمليّا أيّ أداة مؤسّساتيّة للتعبير السياسي. وهذه الملاحظة تطرح مسألة العلاقة بين الديمقراطيّة والاحتجاج وتحديد المشاركة السياسيّة في إطار سلطوي والحدود بين الفضاء العمومي والفضاء الخاص.
أسئلة تبرز بعض الجوانب المدنيّة من نظريّة الحركات الاجتماعيّة فالتعريف الكلاسيكي للفعل الاحتجاجي والإشكال التي يتخذها تنطبق على واقع بناء الدول الديمقراطيّة ومن هنا الضرورة التي تفرض نفسها حين نريد أن نحلّل النسق السّلطوي ومسألة العلاقة الجوهريّة بين الديمقراطيّة والحركة الاجتماعيّة فالاختلاف الطبيعي المفروض مسبقا بين مجالات العمل الديمقراطي (والتي يجمع كلّ أصناف الفعل المتعارف عليه وغير المتعارف عليه ونعني بذلك المظاهرة والثورة والاضطرابات).
بعض الكتّاب يفترضون أنّ الأنظمة غير الديمقراطيّة هي التي تحمل احتمالات أكبر لتحركات قليلة ولكنّها ذات بعد ثوري حين توجّه الفرصة لذلك، بينما تسمح الأنظمة الديمقراطيّة بظهور الحركات الاجتماعيّة التقليديّة فالفعل غير العنيف لا يختلف وقعه إلا في حالة سمح بإفراز تحالفات مصلحة يكون لها تأثير على الساحة الانتخابية وبإفراز ضغوط حول الحاكمين من جهات أخرى.
بصفة عامّة يتميّز النموذج الإسلامي بظاهرة التحرّكات الشعبية وهو ما يحدّد بشكل معكوس نموذجا قائما على الاختلاف وعلى الانتفاضة المطالبة والاندماج داخل النسق السياسي والمطالبة من خلاله، فالاختلاف قائم إذن على أساس ثقافة أي بمعنى آخر لتصوّرين مختلفين وحتّى متعارضين للسياسي تحت طائلة السياسي والتجارب المختلفة. وعلى المستوى التطبيقي فإنّ استخدام آليات جديدة والتخلص من المسلمات النظريّة سيفيد كثيرا البحث الميداني.
ـــــــــــــــــــــــــــ
([1])-Mounira Bennani-chraibi et Olivier Fillieule, « L’appel de l’air » in ; Résistances et protestations dans les sociétés musulmanes, Presses de sciences po.2003 .p 26

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى